مجلة الرسالة/العدد 685/كيف هدي والد لولده؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 685/كيف هدي والد لولده؟

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1946



للأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

كان لوزير هندي مسلم ابن يتعلم في جامعة كيمبردج في إنجلترا ولم يكن يلم بتعليم الدين الإسلامي إلماماً تاماً وإن كان أبوه متضلعاً في العلوم القديمة الإسلامية والحديثة الغربية والتصوف. فانتهز المبشرون الفرصة وأرادوا تنصيره ووجهوا إليه أسئلة كثيرة ضد الإسلام كما هو ديدنهم في مثل تلك الأحوال لينالوا من منزلة الإسلام في قلبه ويقربوه إلى النصرانية. فتجاذبته الظنون وتخالجت في صدره من دينه الشكوك فوقع في حيرة وارتباك فكتب إلى أبيه يسأله ويستشيره في الأمر فرد عليه أبوه رداً أنقذ به ابنه الشاب من كيد المبشرين ومكرهم وهو رد فصيح اللهجة، قوي الحجة، ملزم المحجة، يدل على عقل أصيل ولب رصين قال: أريد أن أشرح لك لماذا اعتبر الإسلام أحسن الأديان بأسرها؛ فلاحظ أنني لم أقل إن الأديان الأخرى رديئة بل إن الإسلام أحسنها؛ وذلك لأنها لا توافق الأفكار الحديثة العلمية كما يوافقها الإسلام. فإذا قلت في وصف دين من الأديان إنه (حسن) أو (الأحسن) فأريد به المدى الذي إليه يبلغ ذلك الدين في حث الإنسان بواسطة عقائده وتعاليمه على الجد في طلب الفلاح لنفسه. كذلك إذا ذكرت هنا كلمة (علم) فأريد به العلم المرتب للأشياء المعلومة أو القابلة للعلم.

إن العلم يحسر اللثام عن الأشياء التي هي ضرورية أو مطلوبة لفلاح الإنسان والفنون عموماً تدله على الطريق الذي به يحوز تلك الأشياء أو يصنعها والحكومات تجعل أو ينبغي لها أن تجعل له التحقيقات العلمية والتقدم في الفنون يسيره المتلمس دانية القطوف. وأما الدين فينبغي أن يحرك الإنسان ويحرضه على الاستفادة من العلوم والفنون العصرية استفادة تامة. وقد يحظر ببالك أنه ما دامت الحكومة قائمة بواجبها والعلوم تترعرع والفنون تتقدم فلا حاجة هناك للدين. فأقول إنك لو أخذت حصاناً إلى النهر فهو لا يشرب منه ما لم يكن ظمآن، فإنه إن عطش يشرب من تلقاء نفسه فإن لم يعطش فلا منظر الماء الصافي، ولا سهولة الوصول إليه، ولا ترغيبك إياه، ولا ضربك بالسوط يحمله على الشرب. كذلك العلم يقدر أن يريك الماء أو أي شئ آخر مفيد، والفنون تستطيع أن تدلك على طرق حيازته، والحكومة يمكن أن تكافئك بالجوائز أو تهددك بالعقاب؛ ولكنك لا تشرب ما دمت لست بظمآن، أو بعبارة أخرى إنك لن تستفيد من الأشياء المقدمة إليك أو الموضوعة تحت تصرفك إذا لم يكن في داخل نفسك ما يدفعك لذلك. فهذا العطش، هذا الدافع الباطني الذي هو في الحقيقة قوة محركة للإنسان من ثمرة الدين وخليقته.

إن فائدة الدين العظمى هي الطموح الذي يوجده ويربيه في الإنسان أن يعيش سعيداً صالحاً. صحيح أن الداعي للسلوك الحسن لكثير من الناس هو خوف العقاب أو أمل الثواب سواء أكان عاجلا أم آجلا. وإن بعض الأديان ومنها الإسلام تقدم صورتين لامعتين للجنة وجهنم المعدتين للصالحين والطالحين بعد الموت. ولكن عند الطباع العالية ذوات القوى القوية لا قيمة لتلك الدواعي فإنها مثل صوت السوط أو إراءة العشب للحصان الذي لا يجري. فهي ليست مؤثرة أثراً ثابتاً مثل الداعي الروحاني العالي الذي يخلقه الدين الحق في الإنسان للحياة الصالحة. إنني لا أقدر أن اشرح لك هذه النقطة أكثر من ذلك بغير الخروج عن الموضوع والدخول في المباحث الفلسفية الدقيقة. لذلك يكفي أن أقول لك إن الداعي الديني الروحاني خير من جميع الدواعي الأخرى للسير الحسن والحياة الصالحة. فإنه يعترف بروحانية الإنسان ويساعدها للاستيلاء على حيوانيته. قال الشاعر الفارسي:

آدمي زاده طرفه معجوني أست

إز فرشته سرشته وإز حيوان

كر كندميل أين شودكم أزين

وركند قصد آن شود به آزان

وترجمته:

(إن الإنسان مركب غريب

قد ركب بالملكية الحيوانية

فإذا مال إلى الحيوانية اتضعت رتبته عنها

وإذا قصد الملكية ارتفعت منزلته عنها)

إنه الدين الحق الذي يمكن الإنسان من أن يفوق الملائكة في الصلاح والتقوى وهو ما بينه السر أوليفرلودج أيضاً في كتابه (جوهر الدين حليف العلم) فاقرأه.

ثم هناك فائدة أخرى للدين وهي أن كثيراً ما تتوخى القيام بأعمال جمة، ولكن لا تقدر أن تقوم بجميعها وذلك إما أنك عدلت عن قصدك أو حلا أحد دون قيامك بها. فما يهم الاجتماع ونفسك من رغباتك الجمة التي تفوق أعمالك هو أن تكون حسنة مثل أعمالك. ولا تقدر القوانين ولا التقاليد الاجتماعية على ضبطها ضبطاً صحيحاً لأنهما يختصان بالمظاهر الخارجية أي للأعمال الصادرة عن رغباتك، وعواطفك، وميولك الباطنية. فما يقدر على ذلك إلا الدين الحق مثل الإسلام الذي يحاسب على الرغبات التي تتحول إلى الأعمال حساباً كبيراً، ويسعى في قتل الرغبات السيئة في مهدها أي قبل أن تتحول إلى الأعمال.

وعلى هذا فكل دين يقدر على أن يخلق في الإنسان أحسن الدواعي للسير الحسن، ويسعى في إبادة الرغبات السيئة بكيفية مؤثرة فعالة لا بد من أن يوافق الأفكار الحسنة المعترف بها في العصر عند العلم والفن. وذلك الدين عندي هو الإسلام.

وأما موافقة الإسلام للأفكار العصرية فيكفي أن أمثل لك مثالا واحداً فإن المجال والوقت لا يسمحان لأكثر من ذلك وهو أن الإسلام أدعى في أول آية من سورة الفاتحة التي تحفظها أن هناك عوالم أخرى غير هذا العالم بقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) ولا تزال هناك بعض الأديان تدعي أن لا وجود لعالم آخر غير عالمنا هذا، ولكن العلم في العصر الحاضر يدحض مثل تلك الدعاوى ويثبت وجود عوالم أخرى غير هذا العالم كما ذهب إليه الإسلام، ويقدم لنا الدلائل لليقين على أن كل نجمة تتلألأ فوق رؤوسنا في القبة الزرقاء حين يرخى الليل رواقه ويسبل ستره عالم معمور مثل عالمنا.

إن للدراية والخبرة عند الإسلام مصدرين: العلم والإلهام. فالأول يعبر عن جد الإنسان لمعرفة طرق الحق المستقيمة. والثاني يمثل نعمة الله بكشف سبله السوية للإنسان. فالفرق بين المصدرين فيما أرى الفرق بين التجربة والوجدان، أو بين الأفكار المكتسبة والأفكار الغزيرة. وهو ما يعتبره فلاسفة العصر الحاضر أيضاً مثل سبنسر وبرجسون أنه فرق في الكم لا في النوع. والله يلهم كل فرد في لحظة من حياته، بيد أنه يتوقف على الأكثر على الروحانية أو المقدرة الروحانية الناشئة عن مدى معرفته لله ولسبله السوية , ٍوتلك المقدرة يرث الإنسان شيئاً منها عن آبائه وأجداده يكسب شيئاً آخر بالإيمان والإخلاص وبالأعمال الصالحة والسير الحسن.

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي