مجلة الرسالة/العدد 683/من عيون الأدب الغربي:
مجلة الرسالة/العدد 683/من عيون الأدب الغربي:
حديقة أبيقور لأناتول فرانس
بقلم الأستاذ بولس سلامة
تمهيد:
كان اناتول فرانس كاتباً شديد الشك، شديد السخرية، متشائماً هداماً. ولا غرابة فقد أنجبته فرنسا التي أنجبت من قبله فولتير إمام الشاكين في زمانه وفي كل زمان.
وأناتول فرانس كفولتير يتخذ السخرية طريقاً لإصلاح المجتمع والمعتقدات والناس. ويشترك معه في هذه الصفة الكاتب الإنكليزي (شو) إلا أن (شو) يكتب بأسلوب العلماء وأناتول فرانس يكتب بقلم أسلست له اللغة وطاوعه البيان فجاءت كتاباته آية من آيات الأدب الرفيع. وفي حديقة أبيقور يتجلى شك أناتول فرانس وتهكمه وتشاؤمه ويتجلى فنه الرائع وأسلوبه الشيق البديع وقد اقتطفنا لك من هذه الحديقة باقة صغيرة إن أعجبك رواؤها وشذاها فادخل الحديقة وشاهد وتأمل. . .
الهناء والشفاء:
كنت أقرا كتاباً لشاعر فيلسوف تخيل فيه جيلاً من الناس خلت قلوبهم من الهم والسرور والعناء.
ورجعت من هذه الحياة المثلى التي تخيلها الشاعر الفيلسوف إلى عالمنا هذا حيث يكافح الإنسان ويشقى ويتألم ويحلم فعجبت كيف يضطرب قلب الإنسان حنيناً إلى مشاركة هؤلاء في كفاحهم وشقائهم وآلامهم وأحلامهم. ففي هذه الحالة - وفيها وحدها - يجد الإنسان نبعاً من الغبطة لا ينضب
ولقد قنعت بعد قراءته بنصيبي المتواضع في هذه الأرض ورضيت عن نفسي وإخواني الذين يشاركونني هذا النصيب المتواضع الصغير. بل اقتنعت بأننا في شقائنا أنبل من هاته الخلائق التي يرسمها هؤلاء الفلاسفة الحالمون بلا ألم ولا شقاء.
إننا إذا اقتطعنا الألم والعواطف والأهواء من حياة الناس اقتطعنا معها الشعر والفن وكل شيء جميل. وكيف يشعر الشعراء في عالم لا ألم فيه ولا حرمان ولا شقاء؟ انهم يغمض عيونهم ويصمون آذانهم عن أعاجيب الفن والشعر التي تجعل من هذه الأرض المتواضعة سماء لا تطاولها سماء.
إن بيتاً واحداً من الشعر الرفيع ليفعل في النفس ما لا تفعله هذه المخترعات الحديثة وهذا العلم الحديث.
وأي عالم نتخيله وقد امتلأ بالمهندسين والعلماء بلا شعر ولا حب ولا أهواء. وكيف يشعر ويحب ويغني القانع الراضي القرير؟ إنما الحب نبت لا يزكو إلا بالدموع والبكاء
إنه لمن الخير أن ننسى الألم وان نرضى بنصيبنا من هذا العيش الذي يتداول فيه الخير والشر والعسر واليسر كما يتداول الليل والنهار.
الغباء:
الغباء شرط لازم - لا أقول للسعادة - بل للحياة. فلو عرفنا كل شيء لما استطعنا أن نعيش ساعة واحدة.
إن هذه الأشياء التي يحلو بها العيش أو يطاق إنما تقوم في الواقع على الوهم والغباء.
الشيوخ:
عندما يشيخ المرء يزداد تمسكاً بآرائه؛ ولذلك يعمد سكان جزيرة فيجي إلى قتل الشيوخ، وبهذا ييسرون تقدم الإنسانية ونحن نفعل النقيض بتأسيس الأكاديمية.
الكتب:
قالت لي فتاة صغيرة - وفي قولها حكمة غابت عن كثير من الحكماء - إننا نجد في الكتب ما لا نجده في عالم الواقع من أشياء مضت وانطوت فلا تعود، أو أشياء متوقعة نتخيلها ولا ندركها على التحديد. فهي صورة قاتمة واهمة. وإني أرى أن من الخير إلا يقرأ الكتب الصغار. ففي الحياة أشياء كثيرة أحق باهتمامهم: البحيرات والأشجار والأنهار والحدائق والبحار والسفين في الماء والنجوم في السماء. وإني لأشاركها هذا الرأي فإننا نملك ساعة من العمر لنحياها، فلماذا نقضيها في البحث عن أشياء كثيرة لا يضيرنا أن نجهلها ما دمنا لا نعرف عنها كل شيء. إنا نعيش كثيراً في عالم الكتب وقليلاً في عالم الطبيعة، ونحن في ذلك أشبه بذلك الكاتب الذي ظل يدرس كاتباً يونانياً قديماً بينما كان بركان فيزوف يقذف النار ويحرق خمس مدن عامرات.
(الخرطوم سودن)
بولس سلامة