مجلة الرسالة/العدد 683/حكم المفكرين الغربيين علي (محمد)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 683/حكم المفكرين الغربيين علي (محمد)

مجلة الرسالة - العدد 683
حكم المفكرين الغربيين علي (محمد)
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1946



للأستاذ عبد المنعم ماجد

لاح محمد كنجم شارق في دياجي العصور الوسطى فاختط طريقاً جديداً لعالم جديد ودين جديد، يعمل على فك قيود العقل من عبودية التقاليد والوهم ومن التعصب الديني والجنسي. على أن شمس الفكر وان كانت قد سطعت في أحضان الشرق فقد ظلت محجوبة بحلكة هذه العصور في الغرب فلم يستطع مفكروا العصور الوسطى في أوربا أن يخرجوا من هذا النطاق المضطرم بنزعات التعصب الديني ليلتمسوا نور الحقائق المجردة عن الهوى ولينطلقوا بالأفكار حرة غير مقيدة، ولذا لم يكن مستغرباً أن يلاقي محمد الطعن السافر في ذلك الزمن، وألا يرتفع صوت واحد بعيداً عن التشويش والتعصب، فطعن في شخصيته واتهم بالتلفيق والشعوذة، واستهجنت رسالته ووصمت بالكفر والانتحال. فنرى دانتي كأحد المفكرين البارزين الذين هيأ لهم القدر أن تكون حركة النقلة إلى عصر النهضة على أيديهم يقسو في حكمه على محمد فيضعه في الطبقة الثامنة في الجحيم مع المشعوذين الذين كتب عليهم الخلود أبداً في نار جهنم، وجريمته في رأيه إنه مدع دعا إلى تخليص العقيدة من كل شرك - ولم تكن المسيحية آنذاك يمكن أن تتصوره بأية حال. والواقع أن أرى دانتي في محمد معبر من خلال العصر الذي عاش فيه - فهو نفسه أي دانتي عاش في أواخر العصور الوسطى حيث كانت روح التعصب ما زالت تسود العقول، وحتى الآن مازال محمد خصماً في نظر بعض الأوساط الأوربية المفكرة ينظر إليه على إنه النبي الكاذب الذي ادعى بهتاناً إنه نبي الله.

أما في القرن الثامن عشر، وهو الذي أطلق عليه الباحثون القرن المضيء - فقد كان عصر تطور فكري واجتماعي عميق فبدأ فلاسفة هذا القرن ينظرون بنية خالصة إلى أصحاب الحركات الدينية الغير مسيحية، ويقدرون خلالهم الطيبة محاولين جادين أن يهدهدوا نعرة التعصب التي كانت تشل حرية التفكير فضلا عن انهم لم يجدوا باساً في تلمس الحقائق التي لا ضرر في الكشف عنها على سلامة المسيحية، وكانت هذه المرونة في التفكير مفيدة للإسلام فرأينا من يكتب عن محمد ورسالة محمد بنزاهة وإنصاف وإن وجدنا في نفس هذا القرن المضيء أولى العلات وأصحاب المآرب الذين لم يتورعو قرع الحقيقة والطعن بقسوة على نبي الإسلام بطريقة اعتبرها بعض المفكرين الغربيين أنفسهم خطرة على سيادة العقل وحرية الفكر. فسالي وبولينفي وساقاري أمثلة لبعض البحاث الذين عملوا على إظهار بعض الحقائق في أثناء دراستهم لشخصية الرسول. فالأول يترجم القرآن في سنة 1734، ويبرز لنا محمد كرجل مثالي ظهر في الإنسانية العليا. وقبله بولينفي يؤلف كتاباً عن محمد يحاول فيه أن يبرهن بقوة على أفضلية الدين الإسلامي على غيره من الأديان، ويبرز لنا شخصيته كمشروع حصيف مستنير جاء بدين صحيح جعله هداية للعالمين، ليحل محل المسيحية واليهودية وهما الديانتان اللتان كانتا قد تقوضت مبادئهما وملأتهما الريبة. أما ساري فيترجم القرآن في سنة 1782، ويضع محمداً بين الرجال القلائل الذين ظهروا على سطح الأرض ونفحتهم الطبيعية قدرة خارقة ليغيروا أحوال الناس والعصر ليقودوهم إلى النعماء والرخاء. فسيرة محمد في راية تذهل الباحث وتدفعه إلى الإيمان بكمال الإيمان بكل العقيدة التي توصل إليها والتي ساعدته الظروف فيها. ففي أثناء رحلاته شاهد ببصيرة يقظة انقسام المسيحية وعجرفة اليهودية؛ فأراد أن يكون دينه للجميع، وان يكون فيه يسر وانسجام مع الفطرة والعقل. وبالرغم من إنه ولد وثنياً فقد دعا إلى تخليص العقيدة من كل شك، وتجريد الله من كل مادة. وعبادة اله واحد له الأمر من قبل ومن بعد. ولكي يستميل إليه القلوب ويقنع الناس بصحة مبادئه ويضمن لها التأييد، أحاط نفسه بالحماية الإلهية، وادعى إنه رسول الله. فعلى المفكرين المستنيرين أن ينصفوا محمداً لا كرسول بل كأحد هؤلاء الرجال النوادر الذين آثروا في الحياة تأثيراً ظاهراً لا زال باقياً حتى الآن.

هذا الحكم الرفيق على محمد المقدر لعبقريته قوبل بتيار آخر عنيف ساد بين المفكرين في نفس هذا القرن المضيء ووصل إلى حد التشويه والمثالب. فنرى فولتير يغضب على محمد في مأساته التي نشرها في سنة 1742؛ ففي المقدمة يهاجم مباشرة آراء سالي ونولينفي وهما اللذان دافعا عنه، وعلى اية حال فإن حكم فلتير على الرسول خففه في مقالته التي كتبها عن الأخلاق ' فاعترف فيها ببعض مواهبه وان رأى إنه لم يأت بشيء جديد سوى ادعائه النبوة. وقد راج رأى فولتير وقتاً فنرى ديدرو يستفيض في طعنه على محمد بينما نرى كارلايل في محاضرته عن الأبطال في 8 مارس سنة 1840 يحمل على الذين يشنعون على نبي الإسلام فيرمونه بالكذب والانتحال، ويرى أن مثل هذا التفكير البعيد جداً عن جادة الصواب خطر على سيادة العقل بل مخجل للمسيحيين أنفسهم. - فنهاك مائة وثمانون مليوناً من الأنفس يدينون بالإسلام ويؤمنون بمحمد كرسول من عند الله، ويتخذون سنته مرشداً لهم في الحياة - ويتساءل قائلاً: هل من المعقول أن هؤلاء جميعاً ينساقون وراء مشعوذ دجال؟ وهل بلغت الشعوذة من القوة والسيطرة ما يجعل لها هذا السلطان على هذه العقول؟ الواقع أن هذا التخبط راجع إلى اضطراب العصر - ثم - هو يرى أن محمداً كان مخلصاً بحق لدعوته فقد نظر إلى العالم نظرة كلها حياة ففني في حب الاله، وربط ما بين الأبدية وما بين عالمنا، فلو كان محمد نبياً أو شاعراً فهو في كلتا الحالتين رجل غير عادي.

هذه اللفتة الطيبة في معالجة شخصية محمد وتلك الروية والرغبة في الوصول إلى حقائق مجردة عن التعصب ازدهرت في عصرنا الحاضر فأعتبره الكثيرون في مقدمة المصلحين الذين بذروا بذرة صالحة في حقل الحضارة والمدنية، ولكنهم أي هؤلاء العلماء اختلفوا في الحكم عليه بل لم يستطع بعضهم الوصول إلى رأي ثابت. ولعل أوضح هؤلاء المستشرقين الذين دافعوا عن محمد واهتموا بدراسة سيرته تور اندراي الألماني الذي يعتقد في نبوة محمد ويستفيض بحماس في تقدير رسالته التي تعتمد في أصولها على البساطة والفطرة، وهو يتساءل في اخر كتابه عن محمد قائلاً: هل يمكننا مع هذا أن نتوصل بحق إلى تفهم شخصية محمد على وجهها الصحيح. . .

الواقع أن علماء الغرب مازالوا متحيرين في حكمهم النهائي على محمد.

عبد المنعم ماجد

عضو بعثة التاريخ الإسلامي لجامعة فؤاد