مجلة الرسالة/العدد 670/بعد الجلاء عن سورية:
مجلة الرسالة/العدد 670/بعد الجلاء عن سورية:
سحر الجلاء!
للأستاذ سيد قطب
(مهداة إلى الأستاذ توفيق الحكيم)
في العدد الماضي من جريدة (أخبار اليوم) وصف صحفي بعنوان (رأيت يوم الجلاء في سوريا) بقلم الأستاذ توفيق الحكيم صدرته الجريدة بهذه المقدمة:
(رأت أخبار اليوم بمناسبة الجلاء عن سوريا أن توفد الأستاذ توفيق الحكيم لشهود عيد الجلاء، وكذلك أوفدت مصورها الخاص ليسجل حفلات الجلاء. . وفيما يلي ننشر أولى رسائل الأستاذ توفيق الحكيم)
وقد بدأ الأستاذ توفيق. وصفه الصحفي يقول:
(أولئك الذين عرفوا أو سمعوا بذلك الكسلان الجالس طول يومه على إفريز مقهى لا يصنع شيئاً ولا يعنى بأحد ولا يهتم لأمر، قد دهشوا ولم يصدقوا أعينهم عند ما أبصروه ينزل من طائرة حربية محلقة في جو دمشق، وخلفها سرب من طائرات القتال المصرية.
(ما هذا الشعور الذي حرك الساكن، ونشط الهامد وأحيا الجماد؟ إنه الفرح بالجلاء الأجنبي عن أرض شقيقة لنا عربية، والجلاء عن سوريا ليس إلا مطلع ذلك الفجر الجميل في ليل الشرق الطويل. . . الخ الخ)
قرأت هذا فلم أدهش ولم أكذب عيني لأن توفيق الحكيم قد طار مندوباً لأخبار اليوم مع مصورها الخاص ليسجلا حفلات الجلاء عن سورية!
فما في هذا شيء يدعو إلى الدهش أو العجب، فهي (واحدة) من (وحايد) الأستاذ توفيق (كصينية البطاطس) و (عدو المرأة). و (البيريه) على الرأس و (حمار الحكيم). . . وأخيراً (قطط الحكيم) التي ظهر في مجلة الاثنين يحملها بين يديه، كآخر رفيق بعد الحمار الذي أوفده في مهمة خاصة!!
لم يدهشني إذن أن يطير الأستاذ توفيق ليسجل حفلات الجلاء في سورية مع مصور أخبار اليوم. . إنما الذي أدهشني حقاً هو ذلك الانقلاب في رأي الأستاذ توفيق وشعوره إز قضايا الشرق العربي والاستعمار الفرنسي. وهو انقلاب يجب تسجيله، لأن تسجيله مفيد.
حينما كانت الأزمات على أشدها بين أمم الشرق العربي وفرنسا. . . حينما كان بعض الكتاب يحملون على فرنسا حملات نارية لأنها تستخدم الوسائل البربرية في قمع الشعور الوطني في نفوس العرب. . . حينما كانت دماء بعضهم تغلي لأنه لا يطيق أن تتحكم هذه البربرية في مصير العرب في سورية ولبنان وفي الشمال الإفريقي. . .
في هذه الأوقات كان للأستاذ توفيق الحكيم رأي آخر، أشار إليه الأستاذ (عبد المنعم خلاف) إشارة صريحة على صفحات الرسالة بعد مشادة عنيفة بينه وبين الأستاذ توفيق في جلسة من جلسات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأشرات إليه من بعيد في مقالة لي بالرسالة بعنوان: (هذه هي فرنسا)!
ولقد كان الأستاذ توفيق يثور وينفعل، لأن فرنسا في خطر، ولأن فرنسا ذخيرة إنسانية فداؤها كل شيء. ومن كل شيء هذا الشرق العربي الجاهل المجنون!
لقد أدهشني ولا شك ذلك الانقلاب. ولكنه أفرحني أيضاً، فهذا (سحر الجلاء) وسره العميق! هذا هو النور الذي يكشف الغشاوات الوقتية التي تحجب النور حتى عن العيون الفطنة اللماحة مثل عيني الأستاذ توفيق الحكيم!
(وهبطنا مطار المزة، فوجدنا في الانتظار دولة سعد الله الجابري رئيس الوزراء. فما كاد يراني حتى ابتدرني قائلاً:
- وأين حمارك؟
فقلت على الفور:
- أوفدته ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام!
وكدت أتابع الحوار فأنوب عن دولة سعد الله الجابري لأقول:
- ولكن المحتل الراحل هو (فرنسا) يا أستاذ توفيق!
إلا أنني ذكرت (سحر الجلاء) سحلا الاستقلال ذلك الذي يكشف الغشاوات الوقتية التي تحب النور حتى عن العيون الفطنة اللماحة مثل عيني الأستاذ توفيق الحكيم.
كم في مصر من المخدوعين بفرنسا! وكم فيها من المخدوعين ببريطانيا! وكم فيها من المخدوعين بأمريكا! وكم فيها من المخدوعين بالعالم الغربي على وجه العموم! هؤلاء جميعاً أدعوهم لمراجعة الوصف الطلي الذي قدمه الأستاذ توفيق الحكيم عن يوم الجلاء في سورية، بعد الانقلاب العظيم
كم هم كثيرون. . . أولئك الذين حجب الاحتلال الطويل لبلادهم ذلك النور عن عيونهم، فتركهم لا يتطلعون إلا إلى وهج الغرب المستعمر الذي يعشي الأعصاب والعيون.
وكم نحن في حاجة إلى (سحر الجلاء) ليجلو الغشاوة عن هذه العيون، فتبصر النور القريب. النور الذي يشع من داخل نفوسهم هم، وهم به لا يشعرون!
إنني فرح بهذا الانقلاب في شعور الأستاذ توفيق الحكيم، فليعذرني إذا أنا تجاوزت معه أسلوبي المعهود!
وبعد فما أحرى هذا الانقلاب أن يزيد كلمة (الجلاء) في أنفسنا إعزازاً، وأن يزيدنا عليها إصراراً. فهذا الجلاء في سورية هو الذي سحر أحد عشاق فرنسا المعجبين المتحمسين، فجعله يرسل حماره ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام!
وليس هو بالمكسب اليسير أن يسترد الشرق رجلاً فناناً من طراز الأستاذ توفيق الحكيم، يطير ليحضر حفلات الجلاء في سورية، فهذا وحده كسب يغرينا بطلب الجلاء العاجل عن الشرق كله. ولعل الأستاذ توفيق الحكيم وإخوانه من عشاق فرنسا، لا ينسون سحر الجلاء إذا نحن طلبناه للشمال الإفريقي أيضاً. ولعله يومئذ يرسل حماره ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام.
سيد قطب