انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 670/يوم الجلاء. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 670/يوم الجلاء. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1946



للأستاذ علي الطنطاوي

(. . ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)

- 1 -

ماذا في دمشق؟ ففي كل ميدان فيها عرس، وفي كل حي فرح، وفي كل شارع مهرجان! ما هذه الزحمة؟ ما هذه الوفود؟ الطرقات كلها مترعات بالناس ما فيها موطئ قدم، وحيثما سرت تر قباباً من الزهر وستائر من الحرير، وعلى دمشق سماء من صغار الأعلام ومصابيح الكهرباء، قد أنتظمتها حبال فدارت بها، ثم انعقدت على أشكال العقود والتيجان، فكانت منظراً عجباً، إذا رأيتها في الليل حسبت السماء قد ركبت فيها، فسطعت كواكبها ولألأت نجومها، وإذا أبصرتها في النهار ظننت الربيع قد عاد مرة ثانية، فكان كل شارع روضة فتانة، ضرب فيها موعد حب، وكل بناء عريشة ورد وفل وياسمين. . . وأغلى الطنافس مبسوطات على الجدران، وأحلى الصور معلقات على الطنافس، والسيوف المذهبة والتحف الغالية. . . ما يضن الناس بقيم ولا يبخلون بثمين.

والرايات: السورية والمصرية والعربية السعودية والعراقية واليمانية والأردنية. . . أستغفر الله العظيم، بل هي راية واحدة اتحدت حقيقتها وتعددت ألوانها، لأمة واحدة اختلفت أزياؤها وتناءت أوطانها، فألفت بينها قبلتها وأدناها قرآنها. أمة آخى الله بين أفرادها من فوق سبع سماوات، فأراد الظالمون تفريقها بخشبات ينصبونها على الطرقات، يسمونها حدوداً خسأ الظالمون. . . وخابوا. . . إن بناء تقيمه الله لا تهدمه خشبة نخرة ولا خرقة مرقعة!

لقد أوقد الليلة في دمشق خمسمائة ألف مصباح، ونشر فيها ألف ألف علم، عدت عداً، ورفع فيها مائة قبة من النور يعدو تحت إحداها الفارس من سعتها، ووضع في أرجائها مائة مذيع مصوت، يخرج منه النداء والهتاف والخطاب فيسمع في أقصى الغوطة ويردد صداه الجلمود من قاسيون، ومشت فيها خمسة آلاف (عراضة) وموكب، وأقيمت ألف (دبكة)، ففي كل مكان ازدحام، وعلى كل ثغر ابتسام، وفي كل قلب فرحة، وكل الناس مبته مسرور، الرجال والنساء والشيخ والأطفال، والهتاف متصل ما ينقطع، والنشيد دائب ما يسكت، والخطب والمحاضرات والزغاريد والأغاني، من المصوتات والرداد والحاكيات والأفواه، والطبول تقرع، والمدافع ترعد، والطيارات تركض في السماء، والسيارات تزحف على الأرض، والصواريخ تنفجر في الجو فتساقط منها الأنوار أمطاراً، والجيش يحمل مشاعله ينشد ويزمر، يشارك الأمة في أفراحها، وما عهدنا (هذا) الجيش يشاركنا في فرح ولا ترح! ما عهدناه إلا عوناً للغاصب علينا، ضاحكاً في مآتمنا عابساً في أفراحنا. . . يدور بالمشاعل في شوارع دمشق، يذكر بالجيش الإسلامي لما حمل القرآن مشعل النور الهادي فأضاء به الأرض وهدى أهلها. وعلى كل جبل من جبال دمشق نيران ضخمة أضرموها، كما أضرمت من قبل نيران (الفتح) على جبال مكة، إيذاناً بتطهير الكعبة وتهديم الأصنام، و (إجلاء) الشرك عن البيت الحرام.

وفي كل دقيقة يفد على دمشق وفد جديد: مواكب وعراضات من كل بلد وقرية وناحية، قد لبسوا أحسن ثيابهم وجاءوا يعرضون أمتع فنونهم، وأعجب ألعابهم، ويهتفون أجمل هتافاتهم، فكأنه عيد الأولمب عند اليونان: فمن صراع إلى دبكة إلى قفز إلى لعب بالسيف والترس، إلى عدو بالخيل، إلى تمثيل وغناء. . .

وهياكل ضخمة، أعدها الشباب، فوضعت على ظهور السيارات، على أشكال القلاع والمدافع والمدرعات، وشيء يمثل أيام العذاب، ومراحل الجهاد من ميسلون إلى الجلاء - فالعين رائية كل لون وشكل، والأذن سامعة كل نغمة ولحن، وفي كل فؤاد هزة طرب، وعلى كل لسان صيغة حمد وكلمة ابتهاج، والليل يتصرم وما تخلو الساحات، ولا يفتر النشاط، ولا يسكت الضجيج، وما يفكر أحد بمنام، فكأنما قد جن البلد.

فماذا في دمشق؟ أي يوم هذا من أيامها، عظمت أيام دمشق وكرمت وجلت؟

ألا إنه يوم الفرحة الكبرى، إنه اليوم الذي كان يتمنى كل شامي أن يراه، ولا يبالي إذا رآه أن يموت من بعده. إنها الغاية التي سرنا إليها خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، نطأ الحراب، ونخوض اللهب، ونسبح في الدم، ونتخطى الجثث، وننشق البارود.

إنها الأمنية الكبرى التي كان يتمناها كل سوري، وكل عربي وكل مسلم.

إنه يوم الجلاء.

لقد جنت دمشق وحق لها أن تجن، فقد عاد الحبيب بعد طول الفراق، وآب المسافر بعد ما امتد الغياب، وعانقت الأم وحيدها بعد ما ظنت أن لا لقاء، وخرج الفرنسيون وزال الانتداب!

إنه يوم الجلاء. . .

فيا أيها الذين عادوا ميسلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتل وطغيانه ووحشيته، والعرش الذي أقاموه على دماء قلوبهم وعزائم سواعدهم هوى، والبلاد التي برأها الله واحدة قسمت فجعلت دولاً. . . والوطني المخلص نفي أو سجن، أو حكم عليه بالموت شنقاً، والخائن المعلون قد أعطي الرتب والذهب. . .

ويا أيها الذين خرجوا على الظلم، وعرضوا أروحهم للموت، على شعفات الصخر، من جبال اللاذقية إلى جبل الدروز، وعلى السهول الفيح، من أعالي حلب إلى أدنى حمص، وعلى ثرى الجنات من أرض الغوطة، لم يخشوا فرنسا إذ كانت تخشاها الدول، ويرهب بأسها الأقوياء. . .

ويا أيها الذين نشأوا في عهد الانتداب، فرأوا في كل مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي والمدير تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك. . . والوزير صنم، وفي كل قضاء مستشاراً هو الحاكم المنفذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدو، وعلى الجبال قلاعاً له قد وجهت مدافعها إلى البلد لتضرب أبناءه إذا طالبوا بحق أو أبوا ظلماً، لا إلى الفضاء لترد عنه الأعداء، وفي كل طريق جنداً من الفرنسيين والمغاربة المسلمين. . . والسنغاليين والشركس والأرمن و. . . الدمشقيين الخائنين، يلوحون بأسلحتهم في وجوه أهل البلد، ويرمونهم بالشرر (في السلم) من نظراتهم، وبالنار (في الثورات) من بنادقهم. . .

ويا أيها الشهداء الذين بنيران العدو الباغي، في سبيل الله في سبيل الحرية، وهل تسمع أرواحكم دعائي يا أيها الشهداء؟

ويا معشر العرب في قاص من الأرض ودان.

إنا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه، وجل جلاله، فقد أكمل نعمته، وأتم منته، وأخرج الفرنسيين من الشام كله، فلم يبق منهم أحداً.

اذهبوا الآن إلى (المزّة) وادخلوا القلعة، وأموا الثكنة الحميدية، فإنه لا يمنعكم حارس سنغالي وجهه يقطع الرزق، ولا يردكم ضابط فرنسي، ولا تحجزكم سلك ذات أشواك. . . وسيروا في طريق الصالحية فادخلوا قصر (المفوض السامي) الذي كان يتنزل منه وحي الضلال على قلوب الخونة المارقين من طلاب الحكم وعشاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلة، وعلى أبناء بلدهم فراعنة مستكبرين، ولجوا قصر (المندوب) الذي كان ينصب منه (أمس) الموت الزؤام على من يدنو من حماه، واسرحوا وامرحوا حيث شئتم، فالبلاد بلادكم، لا فرنسي، ولا إنكليزي، ولا طلياني ولا روسي، ولا أشقر ولا أسود. . .

ألا لا مفوض (سامي. . .) اليوم، ولا مندوب!

لقد ذهبوا جميعاً، وما تركوا من جنات زرعوها ولا عيون، ما تركوا إلا بيوتاً كانت عامرة فجعلها حكمهم خرائب، وجناناً صيروها مقابر، وضمائر نفر منا كانت نقية فدنسوها. . . ذهبوا وما أورثونا خيراً قط.

هذا قصر المفوض السامي الذي كان بالأمس يزعم أنه إله الأرض، تعالى الله ما من اله غيره، وكان كلما نزت برأسه نزوة من حماقة جعلها قانوناً، وحمل الناس عليها بسنان البندقية وفم المدفع، قوانين ينقض بعضها بعضاً، ويلغي أواخرها الأوالي، ولا يحصيها عالم ولا جاهل: (إن المفوض، بناء، وبناء يقرر تعديل الجملة الثانية من الفقرة الأخيرة من المادة 18 من القرار 1105 ل. ر) فلا يعرف جني ولا إنسي، ما هذه الفقرة، ولا ما هذه المادة، ولا ما هذا القرار. . . لقد ذهب وأورثنا عشر آلاف قرار مثل هذا! ذلك هو التشريع الفرنسي الذي يحسبه القردة المقلدون، أفضل من شرع ربنا، لأن عليه (الطابع الأوربي)!

هذا هو قصر المفوض الذي سرقه من فيصل، فيا فيصل، يا أيها الملك! ارفع رأسك مرة واحدة وانظر. . . إنها لم تطل المدة. . إن اللص قد طرد، وان الباغي قد دارت عليه الدوائر، فما دافعت عنه جنوده، ولا حمته حصونه، ولا أغنت عنه مدافعه وطياراته. لقد جرب فينا أسباب الموت كلها فما صنعت شيئاً. لم تحرقنا ناره، ولم يقتلنا حديده، لأننا أمة لا (يمكن أن) تموت! وأحرقته هو نار حماستنا، وقتله حديد عزائمنا، فولى عنا باللعنة، كما دخل علينا باللعنة!

اليوم يوم الجلاء.

اليوم يبكي رجال (منا) كانوا يأكلون الطيبات، وينامون على ريش النعام، من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب، ويأكلون الخبز اليابس.

اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العز في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين.

اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلات (الاستخبارات) أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأجراء في المزبلة بعدما مات الكلب.

ولكن الشعب كله يضحك اليوم، وتضحك معه الدنيا.

اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام، ويضحك الليل بالأضواء والمشاعل، وتضحك المنائر بالتكبير، وتضحك النواقيس بالرنين، وتضحك الأرض والسماء!

اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان!

لقد نامت دمشق البارحة ملء جفونها من بعد ما صرمت تسعة آلاف وثلاثمائة وسبعاً وتسعين ليلة وهي تنام مفزعة الفؤاد، مقسمة اللب، تخشى أن تصيبها من الفرنسيين بادرة طيش، أو نوبة لؤم، تذهب بدار عامرة: أو تضيع حقاً ظاهراً، أو تريق دماً بريئاً؛ وأغفت تحلم بالمجد والحرية، وقد مرت عليها تلك الآلاف من الليالي، لا تحلم فيها إلا بتهاويل الظلم والموت والخراب، وتأنس بطيوف الأحبة من جند العرب في مصر والعراق والحجاز ونجد، وقد زهت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً بل إخواناً وأصحاب البلد، وقد كانت تروعها كلما نامت أشباح الأبالسة تتراءى في صور جند من الشقر أو السمر أو السود الفرنسيين والمغاربة والسنغاليين، وأمنت الأم على ولدها أن تتخطفه الشراكسة زبانية (كوله) فتلقيه في سجن عميق، أو منفى سحيق، أو تذيقه النكال والتعذيب، لوشاية كاذبة، أو تهمة باطلة، أو طمعاً بفدية أو مال، واطمأن السكان على منازلهم أن تدمرها في هدأة الليل قنابل الطغاة أو تحرقها نارهم أو تسرقها أيديهم! لقد نامت دمشق البارحة وهي تودع عهد الانتداب، عهد الجهاد والعذاب، لتستقبل عهد الحرية، عهد البناء. ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤم الشوارع التي يعرض فيها جيش العروبة، فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور البنى والعمارات، في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسنجقدار، وميدان المرجة وضفاف النهر، وفوق قباب التكية السليمانية، وعلى أشجار المسالك، وفي كل مكان يشرف عل الطريق، ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خال من رجل إنسان قد قام لينظر ويتطلع، وأجر المقعد الواحد بعشر ليرات، ومكان الوقوف بليرتين. فكان هذا المنظر أحد الأعاجيب.

ونصب الفسطاط، واجتمعت تحته الأقطار العربية كلها، جاءت وفود ملوكها وأمرائها من القاهرة والرياض وبغداد وبيروت وعمان، وصنعاء والقدس، يهنئونها في عيدها ويشاركونها في أفراحها، ويقبسون أول شعاعة من شمس الحرية التي أشرقت على العرب بعد ليل طويل، وكان مشرقها دمشق.

قفوا لحظة على هذا الفسطاط فإنها ستقف عليه الأجيال، إنه سيقدسه التاريخ، إنه سيكون لنا كما كانت حطين للجدود.

إنها ساعة حاسمة في تاريخ العالم، فقد تحرك فيها الفلك، وانقلبت فيها تقويم البشر ورقة جديدة. إن الأيام ما زالت سجالاً بين الشرق والغرب، والدنيا بينهما نوباً: قام الشرق يحمل منار الحضارة وسيف الظفر بأيدي المصريين والبابليين والحيثيين والفينيقيين، ثم انتقلا إلى الغربيين إلى اليونان والرومانيين، ثم عادا إلى الشرق الذي أيقظه محمد، إلى المسلمين، ثم آبا إلى الغرب لما ترك الشرقيون هدى محمد، وهاهما يتحركان الآن، ليعودا إلى الشرق. . .

وعز الشرق أوله دمشق. . .

لقد ضاع حلمك ياغورو، وتبدد، وخابت أمانيك يا دي غول، وحقق الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة، شهيد ميسلون، وسيحقق أماني سعد ورشيد وعبد الكريم وعمر المختار وعبد القادر وجناج في الهند، ولم لا؟ وأهل سورية التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلا قليلاً عن سكان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم. . . أقل من مسلمي الهند! فتيهي يا دمشق واعتزي، فقد كنت عاصمة العرب في أول الدهر، حين أنشئ فيك الملك الضخم، وأقيمت الدولة العظمى ورسا عرش عبد شمس على ثراك، فطالت فروعه النجم، وأظلت المشرق والمغرب، وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمنا. وعدت اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، فلا يشاركهم فيه جيش حليف ولا منتدب ولا وصي ولا محتل. . .

يا دمشق لقد عادت أيام معاوية وعبد الملك والوليد، لقد اتصل التاريخ الذي كان انقطع منذ قرون!

(لها بقية)

علي الطنطاوي