مجلة الرسالة/العدد 650/بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 650/بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1945



تعميم الثقافة الإسلامية

للأستاذ علي الطنطاوي

أحسب أن هذا الفصل لن يجوز إلى مصر ويكون في أيدي القراء إلا بُعَيْد اليوم الذي يتخذه المسلمون عيداً، يذكرون فيه هجرة سيدهم وسيد العالم محمد صلى اللًه عليه وسلم ويذيعون فيه سيرته وشمائله، وتروج فيه سوق المباحث الإسلامية، وتجري بها أقلام الكتاب، وتمتلئ بها صحف المجلات، ولن أعود فيه إلى حديث كتاب الدين الإسلامي الذي طالما تكلمت فيه في الرسالة وأفضت، وبدأت وأعدت (انظر أعدادها 314، 332، 336) فكنت كنافخ في غير ضرم، وصارخ في وادٍ، وإن الصارخ في الوادي ليسمع رجع الصوت، ونافخ الرماد ينثر الغبار، ومقالاتي لم تحرك من هؤلاء (العلماء. . .) ساكناً، ولم ترجع لها الأيام صدى، مع أن المقبرة. . . تردّ الصدى على من يصرخ بين القبور!

ولكني متكلم اليوم في تعميم الثقافة الإسلامية، تعميما يعرف به الناس (أعني المسلمون) دينهم، ولا يكون مسلماً حقاً من لم يعرف دينه، ومن يكتفي من الصلة به بأن أبويه مسلمين، وأن اسمه محمد أو علي لا جورج ولا طنّوس. . . ولا يكونه أبدأً إلا إذا عرف حقيقة الإسلام وألم بعلومه، وعلم الحلال من الحرام، ولا يكون ذلك ألا في المدارس والمساجد، فالمدارس للناشئة والمساجد للعامة، وكلاهما اليوم في قصور عن هذه الغاية بيُن:

أما المساجد فليس تخلو من أثار علم، هي بقية من ذلك الفيض العظيم، كالذي يبقى في الوادي من ماء السيل، ليس فيه عوضُ منه ولكن فيه دليل عليه. ولقد غير دهر كانت فيه المساجد بمثابة جامعات اليوم تدرّس فيها كل معضلة، ويقرأ كل علم حتى الطب. لا أمثّل على ذلك بمساجد الكوفة والبصرة قديماً، وبغداد والفسطاط، فذلك شئ مستعان خبره متواتر مشهور، ولكن أمثل بما كان يرى من حلقات العلم، من قريب، في مسجد دمشق ومساجد القاهرة وبغداد وما يرى اليوم في النجف من حلق كثيرة يدرس فيها مذهب القوم، وتقرأ فيها العلوم على الطريقة التي يرتضيها لأنفسهم علماء تلك الديار ومتعلموها، فلم يبقى من ذلك (حاشا النجف والأزهر) إلا حلقات قليلة، ومجالس وعظ، كثيراً ما يتولاها غ أربابها، ويتصدّر فيها من لم يكن يطمع في الجلوس في حواشيها، يلقى فيها ما يجتمع على إنكاره الدين والعقل والذوق، من التحريف والتخريف والباطل الموضوع والسخيف الواهي، ولقد كان تدريس (القبة) في جامع دمشق لأكبر علمائها، وآخر من تولاه البدر الحسني رضى الله عنه، فصار اليوم لكل ذي عمامة مكورّة، ولحية مدورة، وصوت يصك الآذان!

وكذلك اختفت من المساجد حلق العلم الحق، وتوافرت فيها مجالس الوعظ الباطل والقصص الموضوع، ولدينا عدد عديد من العلماء الذين نصبتهم الحكومة مدرسين للعامة، فلبثوا في بيوتهم ما يراهم من أحد، اللهم إلا (أمين الصندوق) أول يوم من الشهر والحاكمون ذوو السلطان في كل عيد مهنئين، وكل سفر مودعين، وكل قدوم مُسلمين وعندما تشغر (وظيفة) ليقاتلوا عليها، ويحاربوا دونها. .

أما المدارس فحديثها أطول، والبلاء فيها أشد، وهي على ضروب:

فَضْرب منها لأناس ليسو منا، ولا لسانهم بلساننا، ولا دينهم من ديننا، قدموا علينا أرضنا، وأخذوا أبناءنا، ليخرجوهم أعداءنا، ويجعلوا منهم أداة من أدوات (التمدين) التي رأينا أشكالا منها مؤذية وألواناً. . . منها العازارية والفرنسسكان والفرير واللاييك والأمريكان، وواضح لا يحتاج إلى إيضاح أن هذه المدارس لا تدرس الفقه ولا الحديث ولا تعني بعلوم اللسان. وأنها أنشئت لغير هذا، وما كتمت منهجها ولا أخفته، ولا خدعت الناس عنه، ومع ذلك نجد تجاراً مسلمين، بل وعلماء يدعون أنهم الهادون المهديون، الصالحون المصلحون، قد أرسلوا إليها أبناءهم وبناتهم. . . وقد ظهر بعد أن أغلقت هذه المدارس - والحمد لله - أن أكثر تلاميذها، بل جمهورهم من المسلمين!

وضرب منها لأناس من عامة هذا الشعب ضاقت بهم سبل العيش فلم يجدوا طريقاً إلى الكسب، فاستأجروا بيوتاً أو وضعوا أيديَهم على غرف مظلمة في مساجد مهجرة، فسموها مدارس، وسَمَّروا أخشاباً بأخشاب فَدَعَوْها مقاعد، وأجلسوا عليها أَغْلِمَةً جعلوهم تلاميذ، وتمت الرواية لما صاروا هم المعلمين. . . وهذه المدارس (المسرحية) لا تصنع في نشر الثقافة الإسلامية شيئاً لأنها لا علم فيها أصلا وهي آخذة بالزوال. . .

وضرب منها مدارس أهلية كبيرة، كثيرة التلاميذ والمدرسين ضخمة البناء يديرها أفراد أو جمعيات، ومنها ما يقوم عليه نساء. . . منها الإسلامي وهو قليل محدث كالكلية الشرعية في دمشق وغير الإسلامي وهو كثير قديم، وما هو ضائع المنهج، ضالّ عن الطريق لم يتخذ بعدُ له وجهة يوليها، وما فيها جميعاً (إلا ذلك المحدث القليل) ما يصنع في نشر الثقافة الإسلامية شيئاً. . .

وضرب منها وهو أعظم ضروبها كثرة المدارس، وعمق أثر، قد أنشئ بأموال الأمة لتعليم أبنائها، وتخريجهم وإعدادهم إعداداً، يكونون معه أدلاء لها في طريق نهضتها، وقادة لها إلى ما تحاول من مجد وعز وكمال، ولا يتم ذلك إلا يوقفهم على تاريخهم وتعليمهم علوم دينهم ولسانهم، وإفهامهم أن هذه الأمة مقدور عليها أنه لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وما كان صلاح أولها إلا بالإيمان الصحيح والخُلُق المتين، فإذا أضعناهما أضعنا المعراج الذي نعرج عليه إلى ما نريد من ذرى المعالي. . . وسرنا في طريق الحياة بساقين جذماوين، نزحف زحف المُقْعَد الزَّمِن، ونتدحرج تدحرج الكرة، فنتمرغ في الوحل، ونحن نحسب أنا نرقى في سلاليم المجد والعلاء، وإذا أنت فتشت عن هذين الجوهرين الكريمين: العربية والإسلام، في المدارس الرسمية لم تَلْق منهما إلا ما تلقى من حبات الذهب في تل الرمل، ومن حرّ اللآلئ في أصداف البحر، ووجدت الدروس في هذه المدارس على نوعين: نوع واحد منهما له المحل الأعلى، والقدر الأكبر، وعليه مدار جهد المعلم والطالب، وفيه يكون الامتحان وما يعقب الامتحان من الارتقاء أو الرسوب، وقد يدخل في هذه الدروس الغناء واللعب (أي الرياضة البدنية) والتصوير ولكنه لا يدخل فيها الدين، ولا تجد في قطر من هذه الأقطار العربية المسلمة، امتحاناً من الامتحانات العامة (الابتدائية أو الكفائية أو الثانوية) يكون فيها لدرس الدين خَطَر، أو أثر في نجاح الطالب أو فشله. على أن تسمية العلوم بدرس الدين أول الوهن، وليس الدين علماً واحداً ولكنه علوم جمة، ومعارف شاملة، عاش عليها العقل البشري قروناً طوالا، منها الفقه فروعه وأصوله والتفسير والحديث والكلام وعلوم أخرى عدّ منها طاشكبري زاده في كتابه الجليل (مفتاح السعادة) ستة عشر وثلاثمائة علم. . . لكل علم منها أبواب وفصول، وفي كل كتب لا يلحقها الحصر، وفي كشف الظنون للحاج خليفة وصف لستة عشر ألف كتاب هي التي رآها المؤلف ووقف عليها بنفسه في عصر من عصور الانحطاط. . . ولقد سبق أن قلت، إنك إذا نظرت إلى ما ثبت من كتبنا على التحريق والتخريق والتغريق والتمزيق، وما خلص إلينا مما أصاب المكتبة الإسلامية من النكبات الكبار، والأحداث الجسام، وحسبك منها مصيبتنا هولاكو وفرديناند، لرأيت شيئاً يهولك ويعجزك عَدُّه كما أعجز المطابع إلى اليوم طبع بعضه، وهي لا تني في الشرق والغرب تعمل دائبة عليه، وما علمنا لأمة من الأمم الأرض كلها مثل هذا الذخر العلمي أو قريباً منه، ولا مثل نصفه ولا ربعه. . . أفليس من أعجب العجب أن هذا التراث لا يساوي في رأى القائمين على هذه المدارس علماً واحداً من علومها كالجبر مثلاً أو الفيزياء أو. . . الرياضة البدنية، ولا يجودون عليه بسبع ساعات في الأسبوع أو ثمان. . . ولا يجعلونه مدار خيبة في البكالوريا أو نجاح، وأعجب منه أن تاريخنا الذي يتصل أشد الاتصال بالتفسير والحديث والرواية وعلم الرجال يتولى تدريسه فيها من لا بَصَرَ له بهذه العلوم ولا علم له بمصادرها الأصلية ولا وقوف له عليها، ولا قدرة له على فهمها، ومن لم يحصل إلا على أيدي الخصوم الذين يكيدون له ويدسون عليه الدسائس، فهو يحملها في فكره كما يحمل البعوض جرثومة الملاريا ليلقيها في أدمغة الطلاب الأصحاء فيفسدهم بها، حتى رئينا جماعة من غير ملتنا وديننا درسوا (في عهد الفرنسيين!) تاريخنا، أفسمعت بأعجب من تدريس الخواجة ميشيل والخواجة توما، سيرة النبي وأبي بكر وعمر؟ وأبلغ منه في العجب أن الفرنسيين وصل بهم الأمر. . . أن بعثوا بأبنائنا يأخذون لغتنا، عن المسيو (مارسيه) في بارير، كأن بارير بادية البصرة وكأن ماريسه من فصحاء بني عقيل. . . أو كأنه الأصمعي أو الخليل!

لا رحم الله ذلك الزمان، ولا أعاد مثله علينا أبداً. . .

أما إن الحديث جد، وإنه ليس بين شبابنا وبين أتباع الإسلام إلا أن يعرفوه لأنه قوي أخاذ ما عرفه أحد على حقيقته وقدر إن كان منصفاً على مخالفته، ولكن المشكلة هنا: كيف السبيل إلى أن يعرف الشبان المسلمون ما هو الإسلام إذا كانوا لا يستطيعون النظر في كتبه ولا يعرفونها، وإذا كانوا يرون أكثر للتزيين بزي علمائه جامدة أفكارهم، يقولون بألسنتهم ما لا يحققونه بأفعالهم، يأمرون الناس بالعزة ويذلون لأهل الدنيا، ويزهدون فيها ويتسابقون إليها، ثم إنهم بعد ذلك منقطعون عن الشباب، لا يلقونهم، وأن لقوهم لم يستطيعوا أن يفهموهم، وكانت المساجد مقفرة من دروس العلم، وكانت المدارس معينة بكل شئ إلا الدين؟

السبيل هو هذا:

إنها قد نشأت فينا طبقة من العلماء، ممن حصل العلم في المدارس الحديثة ولكنه درس مع ذلك علوم الدين ووقف عليها، أو درس الدين وعلومه على الطريقة القديمة ولكنه ألمَ بالثقافة الحديثة ودرسها كما يدرسها أهلها، وأنا أعرف على هذه الصفة كثيرين في الشام ومصر. وعلى هذه الطبقة يقع الواجب الأكبر في الدعوة إلى الله، والعمل على تعميم الثقافة الإسلامية، بالإلحاح على مديري الأوقاف وعلى مقام الإفتاء بوضع منهج عملي للتدريس والوعظ في المساجد، وأخذ المدرسين بالشدة لينفذوه ويسيروا عليه؛ والإلحاح على وزارة المعارف بالعناية بالعلوم الإسلامية في المدارس، ومنحها الساعات الكافية لها، وإدخالها في مواد الامتحانات المدرسية والامتحانات العامة واختيار المدرسين الصالحين لتدريسها - ويعمل كل على ذلك بلسانه إن كان خطيباً، وبقلمه إن كان كاتبا، وبقوته كلها.

فإن لم يفعلوا فليعلموا أنه سيأتي يوم قريب لا يبقى فيه من يدري ما هو الإسلام، ويكون حالنا كحال ذلك الجندي التركي الذي لحق في المعركة بلغارياً، فلما تمكن منه ووضع سنان البندقية على عنقه، قال له: أنا في عرضك. فقال له: أسلم! فوجد البلغاري الفرج، وقال: إني أسلم فماذا أقول؟

فتحير التركي وقال: (بِلْمامْ والله)!

أي لست أدري!!

(دمشق)

على الطنطاوي