مجلة الرسالة/العدد 650/العقل المؤمن! أو الدين من طريق الفكر
مجلة الرسالة/العدد 650/العقل المؤمن! أو الدين من طريق الفكر
2 - المستقر العقلي لعقيدة التوحيد
(شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم. . .)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
شغلني شاغل الموت! موت أمي، تغمدها الله برحمته، عن الرد على مقال الصديق الأستاذ سيد قطب المنشور بالعدد 645 من (الرسالة)، وقد أعاد به الحديث في قضيتي (العقيدة والتصوير الفني في القرآن)، بعد أنقطع الجدل بيننا قرابة ثلاثة أشهر بسبب مرضه عافاه الله.
وكتب الأخ الأستاذ علي الطنطاوي في العدد 648 منتصراً لرأي الأستاذ سيد وأسند العقيدة للقلب لا للعقل، فلم يكن لي بد أن أعجل بالرد على الصديقين، برغم ضيق النفس والظروف بشواغل الموت والحزن، وأن أتحدث إليهما في هذا الشأن الخطير في عصر الظمأ الروحي والبحث عن ينابيع لشفاء النفوس من غليله.
وقبل البدء أود أن أنبهما - كما نبهت سابقاً - إلى أن حديثي في عقيدة (التوحيد) بوجه خاص، وليس في غيرها من شعب العقيدة الدينية. وقد رأيت أن القرآن جادل عنها وأثبتها بضروب الأدلة العقلية التي يكون الفكر فيها هو الأداة الأصلية وطالب مخالفيه بالبرهان. وأما الأستاذ سيد فيرى أن القرآن أثبتها عن طريق الوجدان بلا جدل ذهني، فيأخذ المؤمن ما أتى به في إجمال ويستريح بدون مناقشة بدون مناقشة على طريقة الذهن المعهود، ولم يفرق الأستاذ بين (التوحيد) وغيره من عقائد الإسلام في طرق دخولها إلى النفس، وقال إن العقيدة تثبت بأطرافها، وأنها أكبر من الذهن، ولا بد فيها من المجهول، وإلا استحالت رأياً.
وأنا لم أجاد له في العقيدة على إطلاقها في الإسلام ولا في الأديان الأخرى، وإنما جادلته ولا أزال في العقيدة (وحدانية الله)، وطريقة القرآن الذي يعتمد في إثباتها على المعلوم وحده وينأى عن (المجهول)، لأنها أساس الدين، فلا يصح أن يكون الأساس غير واضح وضوحاً يحمل العقل على الشهادة: (بأشد أن لا إله إلا الله).
والآن، أحاول مرة أخرى أن أبين أن القضية كما ورد بها القرآن ليست قضية تعتمد على (المجهول) والرهبة منه والتوهم فيه، وإنما تعتمد على (المعلوم) الثابت بالحس والبداهة والمحاكمة الفكرية بجميع قوى الفكر من الاستقراء والتذكر والتدبر والتمييز والضبط والحكم.
وليست كذلك تعتمد في مبدئها على (السماع) بطريق (الوحي) من عالم آخر، وإنما تعتمد على الإدراك بالقوى الفكرية الطبيعية في كل فرد صحيح التفكير، عالم بالكون، سليم الطبع، موزون القوى، وعلى التفاعل الفكري بينه وبين هذا الكون الكبير العظيم ذي الطلعة الأخاذة الجبارة، والقوى الموزونة الدقيقة المتناسقة المنسجمة، ثم ينزل الوحي الإلهي مما وراء الطبيعة فيؤيدها ويذكر بها، ويبين ما يلتبس على العامة فيها.
وليست كذلك تعتمد على الجانب (المائع) المتموج المتقلب في الطبع الإنساني، وهو جانب الانفعال الوجداني بالإثارات الفنية والأجواء الغامضة المسحورة، والشاطحات والخطافات، وجنون الأرواح بالأسرار، وانسلاخ القوى، وتجسيم الخيال، والاستغراق والهيام في أودية التهاويل والرموز، وغير أولئك مما تعتمد عليه الوثنيات التي لا ترى الكون ورب الكون بذلك لا الوضوح الذي يراهما به الفكر المسلم العالم، وإنما تراهما مبهمين مختلطين غير منفصلين، فلا يستقيم لها منطق إنساني ولا منطق إلهي، وإنما تلتبس عليها وجوه الكون وتختلط وتتداخل، فلا ترى الطريق القصير المستقيم إلى الله الواحد لتشهد به شهادة إثبات يقين جازم يقظ مستنير راسخ في إصرار لا يتزعزع ولا يرتد، وإنما يأخذها وجدانها إلى التقليد المبهم، حيث الإثارات الفنية والأضواء والإصدار ونداءات المجهول الهائل الغامض المخيف، فتن بض قلوبها ولو في بيوت الأوثان، وذلك النبض الذي يخلع على الأصنام الأوهام والتخييل، فترقص أشباحها في عيون عبديها، وتنطق أصواتها في قلوبهم، ويحبونها كحب الله إن كانوا يعترفون به معها، أو يخصونها بالعبادة دونه، ويحيطونها بفلسفات ومخرقات وكهانات، ويتحرك لها وجدانهم، ويشعرون نحوها بتبتل ورهبة، ويؤثرونها على الله، ويزعمون أنها الحق، والوحدانية فرية واختلاف وعجب من العجب. . . (أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب!)؛ (إن هذا إلا اختلاق)؛ (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)؛ (وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)، (ويجعلون لله ما يكرهون)؛ (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم)، بل يصل بهم الحال أن يقاتلوا في سبيلها فيَقْتَلوا ويُقْتَلوا وهم يقولون لصنمهم الأكبر (أعْلُ هُبَل!).
فلو كان (الوجدان) هو مناط الإيمان وطريقة بدون محاكمة عقلية واعتماد على استقرار حقائق الكون في سبيل الاهتداء إلى التوحيد والإلهية، فما هو إذاً الفرق بين وجدان الوثني ووجدان الموحد، وبين إيمان هذا بالله، وإيمان ذاك بآلهته وأصنامه؟ إن الوثني مؤمن بآلهته بحرارة وجدانية، ويقاتل عنها بإخلاص، والموحد كذلك مؤمن بالله ويقاتل في سبيله. فأيهما على حق، وأيهما على باطل، وإذا كان الاتجاه في الإيمان إلى (المجهول) وإذا لم يكن التحاكم العقلي الاستقرائي إلى الكون هو الميزان والفيصل؟ وما هي أدوات ذلك التحاكم العقلي غير القوى التي يوجب القرآن وعلم النفس الحديث استعمالها كالاستقراء أو الاستعراض والاستنباط والتذكر والتدبر والتفكير والتمييز والحكم؟ تلك القوى الهادئة الفاصلة المضيئة التي تضئ للروح طريقها إلى الحق؟
وهل بأحد حاجة إلى أن أنبهه إلى أن كثيراً جداً من آيات القرآن تحض على التذكر والتدبر والتفكر والاستقراء والفهم التمييز واستعمال الحكم؟ وهل يحض القران على الهدى إلا وهي أسلحته وموازينه؟ وهل يسكن قلب امرئ ممن يعتد بهم ووجدانه عقيدة أساسية إلا بعد أن تمر على عقله ويقتنع ويقتنع بها؟ إن أصحاب محمد حينما تركوا عقائدهم وعقائد آبائهم الوثنية واتبعوا الوحدانية معه، وتحملوا من أجل الإيمان بالله وحده ألواناً قاسية من الاضطهاد والعذاب، ولم يكونوا أطفالاً، وإنما كانوا مفكرين ارتضوا الوحدانية على الوثنية بعد أن أيقظ قوى أفكارهم موقظهم العظيم، فوازنوا بين الدينين، وحكموا واختاروا وتحملوا التبعات.
ثم ما هي حجة الله في مؤاخذة المشرك حين قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ما دام ذلك المشرك يجد في قلبه وعواطفه وهواه ميلاً لعبادة الشركاء والأصنام تماماً، كما يجد الموحد هواه وعواطفه في عبادة الله؟
وكيف يهدد الله محمداً رسوله بإحباط عمله وتعذيبه لو فتن ومال في قوله: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت لَيحْبَطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين)؛ وفي قوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً. إذاً لأذقناكِ ضِعف الحياة وضِعف الممات، ثم لا تجد لك علينا وكيلاً)؛ أليس ذلك لأن الموقف الفكري هنا في عقيدة التوحيد موقف واضح حاد صارم! لا يحتمل الشبهة ولا الميل يسرة أو يمنة، لأنه إزاء قضية الكون كله وأعظم شئونه؟
فهو حقيق أن يقول القرآن فيه: (ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق!)
يا للإهدار والإهوان والتحقير والتضييع والتحطيم! الغضب الملك الحليم الجبار الرحيم على من لم ير تفرده بعرشه العظيم!
فهل كانت هذه الغضبة الإلهية إلا لأن المشرك ضيع الميزان الدقيق الهادئ الحر الذي وضعه الله بين قوى فكره، ولأنه سار وراء الانفعالات التي لا تستند إلى نقط ارتكاز واضحة؟
وقد قلت في مقال سابق: إن كان الأستاذ سيد يريد من الوجدان تلك القوة التي تعتمد على البداهة والحقائق الخالدة والإدراك الكلي ومدركات الحس، فهو بعينه القوة التي يطلق عليها القرآن العقل والفكر. والخلاف حينئذ يكون بيننا على الاسم، والأولى أن نستعمل ما استعمله القرآن، وأن نعدل في هذا المقام عن التفريق بين المنطقين، وعن استعمال (الوجدان) الذي قد خصصته الاستعمالات الحديثة بمنطقة الانفعالات للإثارات الفنية كالموسيقى والخطابيات والشعر والمشاهد الرائعة والأصداء والأضواء والنسمات الشذية وغيرها مما يثير عالم القلوب تلك الثورات المهمة الطليقة. وإن كان يريد به ما يسمى الآن (الضمير)، وهو تلك الاستجابة الطبيعية للجمال والخير بدون تعليل، والنفرة من الشر والقبح بدون تعليل كذلك إلا لأن الطبع هكذا، فذلك ليس حديثه هنا وإنما في مجال الأخلاق والسلوك. ونحن هنا إزاء قضية التوحيد تلك القضية الفكرية التي تأتي في مرتبة تالية بعد إثبات وجود الخالق المدبر بالبداهة والفطرة التي من طبيعتها أنها لا ترى حدوث كائن ما بدون سبب، ثم يتساءل الفكر: هل هذا الخالق المدبر متعدد أو متوحد؟ ثم يصل إلى (التوحيد) ويوقن به بعد الاستقراء والتتبع (لمعلومات) الكون وإدراك ما فيه من وحدة التصرف وتوازن القوى المادية العارمة المجنونة العمياء والالتئام والتناسق الدائم بينها (فارجع البصر هل ترى من فطور؟)؛ (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى).
ويستلزم الأمر أيضاً أدوات من المعرفة بطبائع التعدد في الأيدي المتصرفة، وبالتجارب الأزلية النفسية والاجتماعية بين الأمثال والأشباه من الرؤساء، وباستعراض مقالات الأديان الوثنية والمعددة للآلهة وما حولها من الأساطير وأحاديث الصغارات والطفولات في الحلوم والتصرفات، والمعارك الدائمة بين آلهة الخير وآلهة الشر، وتفاوت القوى والمواهب بينهم جميعاً، وانتهاء آفاقهم جميعاً إلى أكبرهم يخضعون له ويستمدون منه ولا يستطيعون منه مهرباً، كما كان الحال مع آلهة اليونان والرومان، إذ ينتهون إلى (ذيوس) و (جوبتير)؛ وكما قال القرآن بتلك الحجة العقلية الدامغة: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)؛ (ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض).
إن (الوجدان) بمعناه الاصطلاحي الذي شرحناه لا يفصل في هذا المعترك الزاخر، لأنه منطقة التبتل والخشوع والاستسلام للآله الواحد أو الآلهة المتعددة بعد انتهاء المعارك الفكرية حولها.
وهو يعمر قلوب جميع المتدينين موحدين ومعددين ووثنيين، فكلهم يبكون ويخشعون في معابدهم وفي حالات هيامهم الروحي. هؤلاء يتوجهون لمعبود اتهم المتعددة، وأولئك لمعبدهم الواحد. . . فما الذي يجعل القرآن يقول عن المؤمنين بالله: (أولئك حزب الله)، وعن الآخرين: (أولئك حزب الشيطان)، لولا أن منطقة العقل الوزان هي المحكمة وهي المسئولة؟
إنني قلت: إن جدل القرآن في مسألة التوحيد جدل عقلي إثباتي بالبراهين الاستقرائية والتطبيقية والعملية والتاريخية، فساق براهينه وطالب مخاليفه بمثلها: (قل هاتوا برهانكم)؛ (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)؛ (قل رأيتم ما تدعون من دون الله، أروني ماذا خلقوا من الأرض، أم لهم شرك في السماوات، أتوني بكتاب من قبل هذا، أو إثارة من علم).
وقد بينت ما تنطوي عليه آيات التوحيد في سورة الأنبياء من ضروب الأدلة العقلية جميعها بما لا يدع مجالا للشك في أن القرآن جادل عن التوحيد خاصة جدلا ذهنياً عقلياً، ولكن بأسلوبه الأدبي الفردي المتفرد الذي يحرك الوجدان أيضاً بجماله بجانب الحركة العقلية بحججه. ولكن الأستاذ سيد يقول: إنه لا يزال عند رأيه في أن هذه الآيات ساقها القرآن مجملة يأخذ منها المؤمن ما يأخذ بدون مناقشة، لأنها لا تحتمل المناقشة الذهنية على طريقة الذهن المعروفة.
ويكرر الأستاذ اعتراضه بقوله: ما بال كثرة المؤمنين من الجماهير تؤمن بدون حاجة إلى من يفلسف لها العقيدة لو كان الأمر في العقيدة يحتاج إلى التفكير الذهني. أو لا يعلم الأستاذ أن الجماهير تسير وراء تقاليد بيئتها بدون تفكير في أغلب الشئون؟ فإن كانت البيئة وثنية، فهي معها، وإن كانت موحدة، فهي معها، فلا يعتد القرآن بها، ولا يحتج بسلوكها وشهادتها، وإنما بشهادة أولي العلم: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم)؛ (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)؛ (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).
وقد نبهت في مناسبات شتى إلى ما في القرآن من تفرد بأنه يقف العقل البشري عند حدوده، ولم يكلفه أن يسبح في غير عالمه، ولم يتحدث عن (الله) إلا للتعريف بصفاته وصنعه في الطبيعة التي هي مدرسة العقل ومدرجه وأداة تكوينه ومآخذ أحكامه. ولم يعبر عنه إلا بـ (الذي) خلق، (الذي) رفع السماوات (الذي) له ما في السماوات وما في الأرض. . . هكذا بالاسم الموصول المبهم بنفسه الموضَّح بصلته، وصلته دائماً من (معلومات) الفكر و (بداهاته) و (مدركاته) الحسية والمعنوية. . .
ولم يتحدث عن كنه الله إلا مرة واحدة على سبيل التمثيل، وهي (الله نور السموات والأرض)، ولكنه ليس تحديداً لكُنْه الذات العليا، ولكنه تقريب وتمثيل: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب دري)؛ فالنفس تأخذ من هذا التمثيل أن الله هدى وجمال ولطف وإشراق غير محدود.
ووصف القرآن وصف منتزع من الطبيعة: كتاب الله الصامت، فما أثبته كلام الله الناطق له هو بعينه ما أثبتته الطبيعة كتابه الصامت، فلو لم يكن القرآن كتاب دين موحى به، لكان كتاب مذهب عقلي يصف (الذي) خلق هذا الكون بعد أن استقرأ أعمال يده وعلمه وقدرته في كل كائن من كائناتها.
فهو (الخالق البارئ المصور): لأن أعمال الخلق والبَرْء والتصوير في الطبيعة تشهد بذلك؛ وهو (الرحمن الرحيم): لأن يده دائماً مع الضعف والعجز بين جبروت المواد والقوىْ العمياء، حامية حافظة لطيفة رقيقة؛ وهو (الملك): لأننا لم نجد لغيره شركاً في السموات والأرض، ولا قطميراً ولا نقيراً. . . وهو (القدوس): لأنه الكمال المطلق والوجود الكامل المنزه، الذي يجده العقل وراء ما يراه في الكون من نقص؛ وهو (السلام): لأنه لم يجعل العالم جحيما ودماراً والاماص وقلقلة واضطراباً وصداماً لا يسمح باستقرار الحياة، ولا باستقرار نظام الأجرام السماوية والأوضاع الأرضية، وهو أمان الخائف اللائذ الهارب من الشرور والقبح والآثام. وهو (المؤمن): لأنه مُصِرُ ثابت على اتجاهه بالكون إلى غايات واحدة أزلية هو أعلم بها، لم يجعل الشر خيراً، ولا الخير شراً، ولم يقلب موازينهما، فالحياة والجمال والخير والرحمة والعلم من حقائق الكون العليا الخالدة، وسننه التي لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا، فالله مؤمن بها؛ وهو (المنعم): لأن ما فاض منه على الكون من بدئه للآن من فيوض النعم المتوالية والجمال والخير شيء عظيم! وهو (شهيد حفيظ): لأنه مع كل صغيرة وكبيرة في الكون لا يضل ولا ينسى؛ وهو (جبار قهار): لأنه يسوق الكون الأعظم الهائل بعصاه، ويمسكه في قبضته؛ وهو (حليم ستار غفور): لأنه يتيح الفرص للخارجين على الحق والصلاح أن يرجعوا، ويمهل ويملي ويعفو عن كثير من نقائص الطبع البشري. . . إلى آخر الصفات الحسنى التي ينتزعها الفكر من الكون، ويترجمها بألفاظ تكون نتيجة لذلك التفاعل الخفي بين الطبع البشري مع جمال الكون العبقري وجلال طلعته الأخاذة! فهل ترى القرآن أتى بشيء عن الله خارج عن حدود الطبيعة لم يثبته العقل؟
إن الفكر البشري فرض (الأثير)، وحدده بآثاره وأثبته بخواصه، مع أنه لا يُرى ولا يحد وسلم له العلم بإثبات هذه الصفات، وكذلك يفعل الفكر في إثبات صفات بارئ الكون، كما تتجلى في الطبيعة، فينبغي أن يسلم له العلم بذلك، بدون حاجة إلى إدراك كنه ذات الله، ولا كيف تتعلق صفاته بها. .
ذلك أمر بمكان عظيم من الاعتبار، ينبغي أن يعلمه المسلمون غاية العلم، ويقوموا له بحقه من إذاعة به، حتى يعلم العقليون والعلماء - وهم قادة الإنسانية في الأمم الحية - أن القرآن كتابهم، وطريقته في الاهتداء إلى الله علمية في موضوعها وفي نتائجها وفي غايتها، فلا يسلكوه مع غيره، ولا يأخذوا عقائده مغمصين، لأنه هو ينهى عن ذلك: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا)؛ (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يَخِرُّوا عليها صُماً وعمياناً) أتراني أبت عما يملأ نفسي في هذه المسألة للصديقين؟
هذا، وإن في النفس لبقية حديث
عبد المنعم خلاف