مجلة الرسالة/العدد 650/في مصر فلسفة أصل الوجود
مجلة الرسالة/العدد 650/في مصر فلسفة أصل الوجود
للأستاذ نقولا الحداد
في مقال بهذا العنوان للكاتب الكبير الأستاذ العقاد في العدد (647) من الرسالة بتاريخ 26 نوفمبر المنصرم تنويه باسمي الضعيف. هو تنويه بنعت الطيبة التي يتصف بها الأستاذ العقاد.
وكانت إشاراته لي في معرض الفلسفة الذي استفاض فلمه فيه وهو يتعجب من أن طلاب الحقيقة لا ينظرون إلى الفلسفة القديمة) باللغو الفارغ (كما فعلت أنا) حين جرى البحث في صفحات الرسالة عن وحدة الوجود. فضربت المثل على سخف المذاهب الفلسفية القديمة كقول فيثاغورس: أن العدد هو سر الوجود، وأن النسبة بين الأشياء هي نسبة بين الأعداد، (كيف هذا؟)
يقول الأستاذ: (قال فيثاغورس هذا قبل 25 قرناً. فكان فرضه أقرب إلى الصدق من فروض علمية كثيرة فتن بها الناس إلى سنوات.
(قال فيثاغورس حين رأى أن الأوصاف كلها تفارق الموجودات من لون أو لمس أو صلابة أو ليونة أو وزن أو ما شابه هذه الأعراض الكثيرة إلا العدد؛ فإنه ملازم بكل موجود فرداً كان أو أكثر من فرد، وكاملاً كان أو غير كامل، وأن الفروق بين الأشياء هي فروق بين تركيب وتركيب أو فروق بين نسب الأعداد. وأن الكون كله دور موسيقى هائل يدور على قياس منسجم كما يدير المعازف الماهر ألحان الغناء.
(وإذا قال فيثاغورس هذه المقالة قبل 25 قرناً، فليس من حقه أن توصف مقالته بالفراغ وهي أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود وفوارق الأجسام، وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء أن أصل المادة أثير).
انتهى بعض كلام الأستاذ، وقد أوردته هنا بنصه لكيلا يضطر القارئ أن يعود إلى عدد سبق من المجلة.
ظهر فيثاغورس فيلسوفا منذ 532 سنة قبل المسيح وله تعاليم صالحة وبعض نظريات قيمة وأهمها في الرياضيات. فهو أول من اكتشف أن مجموع مربعي ضلعي المثلث القائم الزاوية يساوي مربع وتر المثلث. وهي قضية رياضية عظيمة الشأن، وقد بنيت عليه نظريات وعمليات رياضية مختلفة وكانت منشأ حساب المثلثات.
ولكن نظريات فيثاغورس في أصل الوجود أو الهيولي أو المادة المحسوسة نظريات سخيفة جداً ذهب إليها بناء على ظاهرات سطحية لا نعلم جيداً كيف استنتجها منها.
أمعن فيثاغورس في الحساب الرياضي وبرع فيه في عصره حتى أن مدرسته كان قوام منهاجها الحسابات الرياضية. وقد تملكت له حتى اعتقد أن أصل الأشياء العدد. وصار يعلل كل ظاهرة في الوجود بالعدد. تسلط العدد على لبه. حتى صار العدد عنده مبدأ الموجودات.
وكان من مكتشفاته القيمة أنه كشف نسب الأنغام الموسيقية في الوتر المشدود، وأن هذه النسب تتوقف على طول الوتر ومقدار شده. وكانت هذه النظرية من جملة أسباب اعتقاده أن الأعداد أصل كل شيء، وأن عناصر الأعداد علة عناصر الأشياء. وأن السماء بما فيها من أجرام هي سلم موسيقي (عددي). ومن ثم تحول تلاميذه على عدد سبعة في تعليل ظاهرات الوجود لأن عدد 7 هو عدد أنغام السلم الموسيقي، وعدد الكواكب المتنقلة، وعدد السبع الطباق، السموات السبع، وعدد أيام الأسبوع الخ.
وجعل فيثاغورس وتلاميذه أهمية للعددين 3، 4 ومجمعهما 7 للاعتبارات التالية:
أولا: أن الخط مجموعة نقط متتابعة. والسطح مجموعة خطوط متحاذية ومنها المربع. والحجم مجموعة سطوح متقاطعة، ومنها المجسم والمكعب.
وثانيا: أن الوتر والشفع عنده هما المحدود واللامحدود، وهما يعنيان المكان؟؟؟ والاثنان هما الخط، والثلاثة هي السطح. والوتر والشفع. والمحدود واللامحدود هما الطاقمان الأولان من المتضادات العشرة الأساسية. والثمانية متضادات الباقية هي: واحد وكثير، ويمين وشمال، وذكر وأنثى، وسكون وحركة، ومستقيم ومنحن، ونور وظلمة، وخير وشر، ومربع ومستطيل.
ويظهر أنه غفل عن وراء وأمام، وفوق وتحت، وبرد وحر، وجبل وواد، ونوم وصحو، وضحك وبكاء إلى عشرات الألوف من المتضادات؛ لأن كل صورة من صور الموجود لها مقابل.
فالكون عند الفياغورسيين هو في تحقيق هذه المتضادات، والواحد هو العقل لأن الواحد لا يتغير، والاثنان الرأي لأنه غير محدود ولا مقرر. والأربعة هي العدالة لأنها أول عدد مربع هو حاصل متساويين. والخمسة هي الزواج. وإن كنت شاطراً فافهم هذه السخافات.
إذاً سألت فيثاغورس نفسه أن يفسر هذه التخريفات فماذا يقول؟ وإذا كان فيثاغورس يعتبر فيلسوفا لأجل هذه الفلسفة (العددية) فالفلسفة إذاً بله وهبل.
ألا يرى إنسان اليوم أن هذه النظرية في الطرف الأقصى من السخف لأنه لا يجد لها تفسيراً معقولاً؟ وأما تفسيرها بأن الأوصاف كلها قد تفارق الموجودات من لون وصلابة وليونة وثقل الخ إلا العدد فانه ملازم لكل موجود، فهذا التفسير إغراق في الغموض لا تفسير، لأنه يزيدنا حيرة في غير المعقول حين نحاول أن نجعله معقولا؛ ولا سيما لأن الثقل واللمس وغيرهما كثير من الأوصاف لا تفارق الموجودات.
إذا جردنا المادة من الأوصاف المذكورة وغيرها أي من اللون والصلابة والثقل فماذا منها؟ لا يبقى منها شيء لا مادة ولا عدد. نحن نعرف المادة بصفتها وأعراضها التي نحس بها فإذا زالت هذه زالت المادة وزال الوجود.
وأما العدد فليس خاصة من خواص المادة؛ بل هو خاصة من خواص عقلنا. فنحن نتصرف بالعدد من غير أن يكون لدينا المعدود. جميع الرياضيات الحسابية إنما هي فكاهة عقلية. ولا تعتبر ذات قيمة إلا حين نطبقها على الوجود المعدود. تكون حينئذ رياضيات تطبيقية.
نجل الأستاذ الكبير عن الجد في قوله: (إن الأجسام نسب بين أعداد، وأن الفارق بينها فارق في هذه النسب دون غيرها، وأن التناسق في هذه النسب أصدق من أجرام المادة الملموسة باليدين، وإن الأصح في تركيب الذرة أن يقال إنه (عددي) لا أنه (مادي) ملموس.
نعم نجل الأستاذ عن الجد في هذا القول لأنه غير مفهوم وإن فهم فغير معقول ولا هو منطقي.
ويعز على الأستاذ أن توصف مقالة فيثاغورس بالفراغ لأنها في رأيه (أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود) وأغرب من هذا قوله: (إنها وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء إن أصل المادة الأثير).
إذا ثبت، وهو معقول وراجح، أن الأثير هو أدق جزيئات المادة فيكون العلم قد أبلغنا إلى كنه الهيولي. وأما (العدد) إذا حسبناه أصل الوجود فيطرحنا في هاوية من الجهل لا قرار لها.
إن العلم الحالي قربنا جداً إلى حقيقة كنه الهيولي التي هي أصل المادة. فقد شرح الجزيء إلى ذرات، ثم حلل الذرة إلى كهارب وكهيربات) بروتونات وإلكترونات مكهربة). ثم فتت هذه إلى فوتونات غير مكهربة، ولكنها حاملة الطاقة. والفوتونات في رأي بعض العلماء الأساطين هي ذريرات أثير.
واختراع القنبلة الذرية حقق النظرية الكهربية (نسبة إلى كهرب) الإلكترونية وأكد صحتها. فلا يدع أن تكون الفوتونات هي ذريرات أثير. بنظرية الإلكترون هذه فسرنا الألفة الكيمية وكم الكفاءة الكيمية وسر النظائر الكيمية وغير ذلك من الظاهرات الطبيعية التي كان العلم حائراً في تعليلها. فلذلك لم يبق شك في صحة هذه النظرية الإلكترونية.
أبعد هذا يصح القول بأن الفلسفة العددية الفيثاغورية أدق من قول العلماء إن أصل المادة الأثير؟
أين فلسفة فيثاغورس من علم اليوم؟
كان فيثاغورس وسلفاءه وخلفاؤه فلاسفة عصرهم المتمادي في القدمية لأن ما أدركوه كان جل ما أذن لهم تفكيرهم أن يدركوه وأن يفسروه من ظاهرات الوجود وهم ضمن جدرانهم لا يختبرون ولا يمتحنون. ولكن فلسفتهم لدى علم اليوم كالأكمة المنخفضة في البطحاء لدى الجبل الأشم. نحتقر علم اليوم إذا قارناه بفلسفة الدهر المظلم.
الحقيقة تظهر عن يد العلم لا عن يد الفلسفة. الفلسفة تتلاشى رويداً أمام العلم، كما يتلاشى الليل أمام الفجر، والفجر أمام الشروق.
أجل: في مصر، والحمد الله، فلسفة. ولكن ليس فيها، بكل أسف، فيلسوف. وأستغرب أن يقبل أحد من علمائنا لقب الفيلسوف. إن الفيلسوف من كانت له نظرية فلسفية جديدة هو مبتكرها. فأين النظرية الفلسفية الجديدة عندنا؟
أرجو الأستاذ الكبير أن يفتقر ما لا يروق له من مقال مؤكداً له أني حسن النية. وجل من لا يشط ويغلط
نقولا الحداد