مجلة الرسالة/العدد 629/سيباي الكافلي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 629/سيباي الكافلي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1945



آخر نائب للمملكة المصرية بالشام

للأستاذ أحمد رمزي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

كان سيباي من تلك الزمرة الممتازة من الرجال الذين تملأ قلوبهم الدوافع النفسية للعمل والحركة ولا ترضى بغير المعالي والقيادة والسيادة، وكان شجاعاً إلى أقصى حدود الشجاعة لا ترهبه الأخطار، وصريحاً إلى أقصى حدود الصراحة لا يبالي بما تأتي به صراحته من خير أو شر، ما دام في ذلك إرضاء لنفسه. فكان لا يلين إذا قام عالم من الناس يحاربه أو يؤذيه أو يحط من قدره. ولا يهمه إذا وجد نفسه وحده، يدافع ويناضل عما يقول ما دام الحق في جانبه.

وبهذا وحده يمكن تفسير مواقفه مع الغوري ورسائله إليه وصراحته؛ فلولا قوة أخلاقه وجرأته لأظهر ليناً وسياسة وكياسة ولا نطوي انطواء الغزالي وخير بك وغيرهما وترك العاصفة تمر واكتفى بفتات الموائد؛ ولكنه كان قوة والقوة تنتصر ولا تلين.

ولم يكن ينقصه شئ من الذكاء والنجابة ليحل المكانة الأولى بين رجال الدولة المصرية. ولو قدر لها وعاشت لكان لبطلنا شأن فيها ولذكر اسمه في التاريخ بين الخالدين من رجالنا.

ولم تحرمه الدنيا في السنين التي قضاها فيها من شئ، فقد أوتي من الهيبة والقوة والنفوذ والاحترام والعلم الشيء الكثير، كما ابتلته الأيام فلم يسلم من كيد الناس ودسهم ولا من نكد الدنيا ومقارعة الزمن وكان في كلتا الحالتين صبوراً:

وقد أجمع المؤرخون على أنه رجل يعد برجال.

أصل سيباي من رجال قايتباي وأعتقه وجعله من أمراء جند مصر، ثم أخذ يرقى إلى أن تولى وظيفة كافلي الممالك الحلبية وهي بدرجة أمير ألف، وذلك في عهد الغوري. وكان الأتابكي قيت الرحبي يوم بويع الغوري بالسلطان أمير سلاح، وهو الذي تقدم ومعه الأمير مصر باي وأخذا بيد السلطان بالبيعة وناديا باسمه وهو يمتنع، فبايعه الأمراء والقضاة وغيرهم - فحدثته نفسه بعد حين أن يتسلطن، وكتب إلى نواب مصر بالشام، والى بحلب، فاشتبك الأخير مع نائب القلعة وحاصره وقاتله فاحترقت بسبب الحصار المدرسة الظاهرية الشهيرة بالسلطانية وقتئذ، فنذر سيباي أن يبني مدرسة مثلها. وقد بر بوعده وبنى جامعه الذي زرناه. في إبان هذه الفتنة تغير قلب الغوري من جهة سيباي فعزله ثم عاد فضمه إليه وأنعم عليه بإمرة السلاح بالقاهرة.

وفي شوال 911 عين سيباي ثانياً بالشام، وكان الغوري في نفسه أشياء منه؛ فهو يعلم بأنه بطل من أبطال الحروب لا يخطر الموت على باله، علاوة على أنه من أشجع فرسان مصر وأنجبهم ومن ذوي العزم الشديد ولكنه كان يتخوف منه ويخشاه ولذلك رسم له أن يتوجه إلى دار الأمير أزدمير الداودار وإن يقابله هناك أمير المؤمنين الخليفة المستمسك بالله يعقوب والقضاة الأربعة وبعض الأمراء، فإذا انعقد المجلس اخذوا عليه المواثيق والإيمان بالطاعة لسلطانه؛ وقد تم ذلك. ثم لبس الخلعة وخرج بموكب من القاهرة وهو يحمل التقليد بنيابة دمشق.

ويرجع ذلك الشك لأمرين ما سبق من تحالف سيباي وانضمامه لحركة قيت الرحبي المطالب بالعرش، وبما اتصل إلى علم الغوري من بعض المنجمين من أن الذي يلي الحكم بعد الغوري يبدأ اسمه بحرف السين. فأخذها السلطان على سيباي وتطير من اسمه، وأصبح لا يأتمنه ولا يصغي لنصائحه ولا يأخذ بأقواله.

ولما تولى سيباي النيابة عن مصر بالشام واضطلع بالأمور حتى علم بما بين خير بك نائب مصر بحلب والسلطان سليم العثماني من اتصالات مكتومة وبالمكاتبة، فأبلغ الخبر فوراً إلى بلاط القاهرة؛ ولكن الغوري لم يأخذ الأمر جدياً بل اعتمد على قوة المصريين في الحروب وثقته بما سبق أن أبدوه من البسالة في حروبهم أيام قآيتباي وانتصاراتهم المتتالية بقيادة (أمير الجيوش) أوزيك أتابك العساكر المصرية. ثم لعدم ارتياحه لكل ما يأتي من حامل حرف السين. وأخيراً لأن خبر بك نائب حلب وسيباي كان يشغل هذا المنصب قبله ولابد أن بين الأميرين أشياء.

ولم يكن ذلك من المصلحة لأن التغاضي عن نائب حلب جرأ الغزالي نائب حماه الذي قلد زميله في الشمال ولم يحدث طول تاريخ مصر أن تجرأ العمال والنواب على الاتصال بالأعداء كما حدث في تلك الأيام، بل يذكر لنا التاريخ بعض الأمراء الذين حاولوا شيئاً من ذلك فعوقبوا بما يستحقون.

وقد ظهر علمه وفضله أيام نيابته بالشام، فكان يجمع العلماء عنده في كل ليلة جمعة يتذاكرون بين يديه في أنواع العلوم والفقه وأعد لهم سماطاً كبيراً. ولما توترت العلائق مع العثمانيين كان من رأيه إلا يخرج السلطان من مصر، بل يبقى بها يمد الجيوش وهو في مأمنه حتى لا تتعرض البلاد للأخطار. وفي سبيل ذلك تحمل الكثير، وجاءت النتائج محققة لظنه مؤكدة حسن فراسته وبعد نظره، ولو أخذ برأيه لما وقعت الكارثة ولما زالت عظمة مصر والشام من التاريخ

وقد ذكر ابن إياس وغيره شيئاً من ذلك فقال أنه بعث إلى الغوري برسالة جاء فيها: (يا مولانا السلطان، أن الغلاء شديد بالبلاد الشامية وفيها نقص العليق والتبن، والزرع في الأرض لم يحصد، وليس ثمة عدو متحرك فلا يترك السلطان سره ولا يسافر، وإن كان ثمة عدو فنحن له كفاية) فلم يلتفت السلطان لكلامه واستمر على رأيه

ولم تكن القاهرة مرتاحة لخروج السلطان، فأخذوا يعيبون عليه أنه خالف ما اعتاد عليه الملوك السابقون في أشياء كثيرة من ترتيب الجيوش وجمعها، وأخيراً قالوا أنهم كانوا يخرجون في فصل الربيع والوقت رطب. أما الغوري فقرر سفره في فصل الصيف والجو في شدة حرارته. ثم أذاعوا أن الملوك إذا ذهبوا للجهاد كانوا يخرجون من الجهات النائية ولا تشعر القاهرة بمواكبهم إلا في عودتهم من ميادين القتال. وقد خالفهم الغوري في ذلك فشق العاصمة بموكبه عند سفره.

ولكن السلطان لم يكن ليلتفت لشيء من ذلك بل بقي متمسكاً برأيه في جميع الأمور ونفذ ما يريد.

وتحرك ركاب آخر سلاطين مصر والشام ومعه الجيوش المصرية في يوم الجمعة 20 ربيع الآخر سنة 922هـ قاصداً الشام عن طريق الريدانية فسر ياقوس ثم الصالحية فقطيا إلى غزة التي أقام بها ثلاثة أيام.

ويقول المحلي: (ولما كان السلطان في غزة وردت إليه مكاتبة من الأمير سيباي يذكر فيها: الذي يعرضه المملوك على المسامع العالية أعلاها الله تعالى وأدامها أن العبد سمع بأن السلطان يريد السفر لقتال ابن عثمان، وإن المملوك يقوم بهذا الأمر ويكون السلطان مقيما بمصر ويمد المملوك بالعساكر المنصورة. والذي يعلم به مولانا السلطان أن خير بك ملاحي علينا ومكاتيبه لا تنقطع من عند ابن عثمان في كل حين) فرد عليه الغوري هانحن قد جئناكم بأنفسنا. ثم أمر برحيل الجيوش والعساكر وهم يموجون كالبحر الزاخر.

في يوم الاثنين 18 جمادي الأولى سنة 922 استقبلت دمشق العاصمة الثانية الملك الأشرف أبا النصر قانصوه الغوري، وقد حفظ لنا التاريخ وصف ذلك اليوم الخالد فقالوا: إن موكبه دخل من باب النصر وشق المدينة وخرج منها إلى ناحية القابون العليا، حيث كان معسكر الجيش وأقام تسعة أيام بمصطبة السلطان. ولم يتفق مثل موكبه لسلطان من سلاطين مصر بعد الأشرف برسباي سنة 826 هجرية فدقت البشائر بقلعة دمشق - وكانت عامرة - وزينت المدينة أجمل زينة وفرشت شقق الحرير تحت أرجل خيله ابتداء من جامع سيباي، ويذكر ابن إياس أن قنصل الفرنجة بدمشق وتجارهم اشتركوا مع الأهلين في الترحيب بملك مصر ونثروا دنانير الذهب عليه وجاء رئيس دار الضرب بدمشق المحروسة المعلم صدقة الإسرائيلي، فنثر نقوداً من الفضة جديدة ضربت لهذه المناسبة السعيدة.

وكان سيباي قد خف إلى ناحية سعسع على طريق مصر، وقيل إلى طبريا لاستقبال الغوري، ولما دخل دمشق كان بجوار السلطان يحمل له القبة والجلالة، كما جرت بذلك المراسيم المعتادة للملوك المصريين

وسار الغوري إلى حلب ومعه سيباي وأمراء الشام، وهناك تجمعت جيوش ممالك مصر والشام وحلب استعداداً ليوم مرج دابق - وليس هنا موضع درسه ولا بحثه - وإنما نذكر حادثة وقعت هناك أن دلت على شئ، فهو جرأة سيباي وصراحته المتناهية، وهي أن والي عين تاب، وكانت من أعمال مصر، انضم إلى العثمانية، فلما رأى أهبة المصريين ندم على ما فعله، وجاء إلى السلطان منضماً إليه تائباً، فلم تجز عليه حيلته، وأعدم لتسليمه المدينة، وكان ذلك بحضور الأمراء والنواب والأعيان، فقام من بينهم سيباي وقبض على خير بك نائب لب وجره بين يدي الغوري وقال: (يا مولانا السلطان أن أردت أن ينصرك الله على عدوك فأقتل هذا الخائن) فقام الغزالي وقال (يا مولانا لا تفتن العسكر ونبدأ في قتال بعضنا بعضاً: وتذهب أخباركم إلى عدوكم ويزداد طمعه فيكم وتضعف شوكتكم والرأي لكم!)

والتفت السلطان نحوهم وطلب إليهم (بأن يتحالفوا ثانياً، وألا يخون منهم أحد، والخائن يخونه الله تعالى وعليه لعنة الله) ثم أمر بأن ينادي بالرحيل، وتحركت القوى إلى حيث تلقى جموع العثمانيين في شمالي حلب على بعد ثلاثين كيلو متراً في وسط سهل مرج دابق ليوم من أيام مصر السود، وهو يوم الأحد 25 رجب سنة 922، وهناك كان مثوى ملك الأمراء سيباي آخر من حكم دمشق باسم مصر

في يوم شديد الحر وقد انعقد الغبار حتى صار لا يرى المقاتلون بعضهم بعضاً خطت الأقدار حكماً ضد مصر وجندها فخسروا المعركة بعد يوم لعبت فيه البطولة والخيانة وعظمة النفس مع الكيد وسوء الظن معا، وكان على رأس جند الشام سيباي في ميمنة الجيش يقاتل قتال المستميت، ويصادم مع أمراء مصر لكسب معركة خاسرة. قال المحلي: (ولكنهم مع قلتهم أوقفوا هذا الجيش العظيم ولم يقدر أحد منهم أن يتقدم). وفي مواجهة العدو وتحت لأمة الحرب سقط أمير الأمراء سيباي الكافلي مع من استشهد في وطيس ذلك النهار.

ماذا كان من أثر ذلك اليوم؟ كان أن أصبحت مصر العظيمة تحت الجزية بعد أن أمضت القرون تفرض الجزية على غيرها.

وفي حارة من حارات دمشق على رأس شباك من زاوية يطلق عليها اسم زاوية السلطان عمر بن عبد العزيز أبقى الزمن هذا المرسوم بالخط النسخ المملوكي منقوشاً على الحجر

(مما رسم بالأمر الكريم العالي المولوي السيفي سيباي مولانا ملك الأمراء كافل الشام المحروسة اعز الله أنصاره بأبطال المظلمة المحدثة على حارة القنوات بسبب واقع في النهر وبأبطال الجبايات والحماية وشيخ الحارة). تلك تحية من الزمن لمصر الخالدة!

أين عظامه؟ أين تراثه؟ أين الأوقاف التي أرصدها على مدرسته بدمشق؟ أين آثاره بحلب؟ كل ذلك ذهب مع الريح!

لا لم يذهب شئ، إن سيباي وغيره باقون مع الزمن، لأن الدروس التي نتلقاها من الموت والهزيمة أقوى وأشد وقعاً من دروس النصر والغلبة، وراحة البال والطمأنينة.

أحمد رمزي القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان