مجلة الرسالة/العدد 629/الأذان في الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 629/الأذان في الإسلام
للدكتور جواد علي
تتطلب بعض الأديان من المرء الحضور إلى المعبد لتأدية فريضة الصلاة مع إخوانه المؤمنين؛ والصلاة في هذه الحالة (صلاة جماعة). وإلا لن تتقبل له صلاة. ولم تشترط الديانة اليهودية هذا الشرط في أداء الصلاة (التفيلة). واليهودي مخير بين أداء هذه الصلاة في بيته أو في حديقته أو في العراء أو في أي مكان آخر، وبين أدائها جماعة في (الكنيس) مع إخوانه وأبناء دينه. على أن من المستحب في الديانة اليهودية حضور المؤمن صلاة الجماعة لما في ذلك من ثواب عظيم وأجر عند الله كبير
وقد حثت البركة الثامنة من البركات الثماني عشرة المؤمنين من الإسرائيليين على حضور صلاة الجماعة في الكنيس (توراة) جاء (من قرأ التوراة وقام بالأعمال الحسنة المحبوبة، ومن أدى الصلاة جماعة اعتبره الله في جملة عبيده وخدمه، وفي جملة أولئك الذين يساعدون أبناءه في الخلاص من أيدي أبناء الشعوب الأخرى) وجاء في الحديث المأثور (من أحجم عن زيارة كنيس مدينته عد جار سوء لهذا الكنيس).
أما في الإسلام فالمسلم مخير بين أداء صلاته جماعة وبين أدائها منفرداً في أي مكان شاء. وقد راعت من هذه الناحية الحكمة العملية التي تتطلب التساهل في هذا الباب. ولكنها حثت من جهة أخرى على صلاة الجماعة ورغبت المسلمين في ثوابها وفي التسابق إليها واعتبرها الفقهاء (فرض كفاية) و (فرض الكفاية) غير (فرض الوجوب أو العين) طبعاً
ولا تقام صلاة الجماعة عند اليهود إلا بشروط، ومن جملة هذه الشروط هو (العدد القانوني) أو (نصاب الجماعة)، ولا يتم (نصاب صلاة الجماعة) إلا بحضور عشرة رجال بالغين، وهذا هو الحد الأدنى، ومتى كمل هذا العدد جاز أداء الصلاة جماعة. ولم يشترط المسلمون في صلاة الجماعة أي شرط من هذا القبيل فما زاد على الواحد عد جماعة وجازت لذلك صلاة الجماعة إلا في صلاة الجمعة إذ جعل العدد أربعين فما فوق وهي صلاة الجماعة طبعاً.
ويحتاج المصلون في صلاة الجماعة إلى إمام يؤم المؤمنين في الصلاة. ويطلق المسلمون عليه كلمة (إمام) أو (إمام الجماعة) ويطلق اليهود عليه لفظة (شليح صبور) أو (حزان) ومعنى الكلمتين (المندوب عن الجماعة). وليست الإمامة في الصلاة عند اليهود وظيفة دينية رسمية في الأصل؛ إذ يستطيع أي مصل من المصلين إمامة إخوانه في الصلاة إذا كانت له المؤهلات الكافية والصفات التي يجب أن تتوفر في الزهاد والمؤمنين. ثم خصصت الإمامة (شليح صبور) (حزان) في أشخاص معينين يمارسون هذه المهمة ويقومون بتنفيذ طقوس الصلاة. وهذا التخصيص هو من قبيل العرف والعادة فقط إذ لا يتيسر في الغالب لجميع المؤمنين معرفة قواعد الديانة ولا سيما بعد القضاء على المملكة اليهودية وبعد تشتت شمل اليهود وتكلمهم بلغات جديدة هي لغات البلاد التي رحلوا إليها وإغفالهم أمر اللغة العبرية حتى غدت لغة غريبة بالنسبة لأكثر العبرانيين الذين ارتحلوا إلى البلاد الأجنبية فاحتاج اليهود بحكم الضرورة لا بحكم الدين إلى (إمام) يحسن اللغة العبرية القومية ويحفظ القطع المقدسة التي تتلى في الصلاة وأصبح هؤلاء الذين لم ينسوا لغتهم وأمور دينهم بمرور الزمن أئمة ورجال دين.
وهذا هو عين ما حدث في الإسلام، فالديانة الإسلامية لم تعين مبدئياً طبقة خاصة لتقوم بواجب (الإمامة) في الصلاة. ولم تعترف بطبقة (كهنوتية) تحتكر لنفسها تعليم الدين وإقامة شعائره من دون سائر الناس. ولا إمامة الناس في الصلاة دون سائر المؤمنين المصلين. وقد كان النبي (ص) نفسه يأتم بغيره كما كان الصحابة يأتم بعضهم ببعض. نعم قد كان الرسول ينص على صحابي معين بإمامة الناس في الصلاة؛ ولكن ذلك لا يعني حصر الإمامة فيه ما دام حيَّا بل كان ذلك في ظروف خاصة وأحوال معينة. جاء عن مالك بن الحويرث أنه قال: (أتيت النبي ﷺ في نفر من قومي فأمْنا عنه عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً؛ فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا؛ فإذا حضر الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).
وحدث مثل ذلك من الخلفاء الراشدين: كانوا يعينون رجلا بعينه مع الأمير أو القائد لإقامة الصلاة. أو كانوا ينصون على الأمير نصاً بإمامة الناس في الصلاة. غير أن ذلك لا يعني كما قلنا آنفاً أن الإمامة مرتبة من المراتب الدينية أو وظيفة معينة لا يتقلدها إلا بعض الأشخاص من ذوي الرتب والدرجات الروحية. وإذا كانت الإمامة في المساجد اليوم تعيينا - في بعض البلاد الإسلامية فإن ذلك لا يعني شرعاً أن الإمامة في المساجد لا تكون إلا لهؤلاء الأئمة فقط، بل من الجائز لأي شخص آخر ولو كان من غير رجال الدين أن يؤم المسلمين في نفس ذلك المسجد. وتعين هؤلاء الأئمة ليس إلا ضماناً لإمامة المصلين في الصلاة حين خلو المسجد ممن يحسن قواعد الصلاة وأمورها كما يجب وفق أحكام الشرع.
ولتسهيل تعيين مواقيت الصلاة ولدعوة الناس إلى عبادة ربهم في الأوقات الخاصة اتخذت الأديان طرقاً مختلفة للدعوة إلى الصلاة. من هذه دق الناقوس أو التبويق أو إشعال النار إلى آخر ما هنالك من علامات. وقد شعر المسلمون بهذه الحاجة حينما تكاثر عددهم وتزايد جمعهم حتى شمل أكثر أهل المدينة. وشعر النبي (ص) نفسه بهذه الحاجة، وتشاور مع أصحابه في المسألة فقيل له (انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رآها الناس آذن. فلم يعجبه ذلك؛ فذكر له بوق اليهود ويقال له الشبور أو القبع وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم؛ فقال هو من أمر اليهود. فذكر له الناقوس الذي يدعو به النصارى لصلاتهم فقال هو من أمر النصارى. فقالوا لو دفعنا ناداً فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس).
وجاء في الأخبار أيضاً أن الرسول (ص) قال: (أولاً تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؛ ففعلوا ذلك) وكان اللفظ الذي ينادي به بلال قبل رؤيا عبد الله: (الصلاة جامعة) وجاء أيضاً: (أمر رسول الله ﷺ بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بالحرث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى عليه وسلم فقال له يا رسول الله أنه طاف بي هذه الليلة طائف: مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده؛ فقلت له يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ قلت ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت وما هو؟ قال تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى عليه وسلم قال أنها لرؤيا حق أن شاء الله. فقم مع بلال فألقها عليه فيلؤذن بها فانه أندى صوتا منك. فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله فلله الحمد على ذلك).
تلك هي قصة الأذان في الإسلام. وهي قصة تناقض رأي من قال من المستشرقين بأن الأذان في الإسلام إنما هو ترديد لأذان اليهود أو لأذان النصارى وهو دق الناقوس.
أما في مكة وقبل الهجرة فلم تكن هنالك ضرورة للأذان، لأن الحكم كان للوثنية، ولان الجماعة الإسلامية لم تكن سوى أقلية لا قبل لها بالتظاهر أمام الوثنيين. فلما استقر النبي (ص) في المدينة وتكاثر عدد المسلمين أصبح الأذان ضرورة لابد منها، ولم تعد كلمة (الصلاة جامعة) تكفي لأداء وظيفة إسماع الناس في أقاصي المدينة وكل المسلمين شوق لأداء الفرائض مع النبي (ص) فصار بلال يدعو إخوانه من علٍ إلى الصلاة بالشكل المعروف. واقتصرت كلمة (الصلاة جامعة) على صلاة العيدين حتى ينادى بها إلى اليوم.
وكانت هنالك كلمة أخرى بسيطة يرددها المسلمون قبل معرفتهم الأذان؛ والظاهر أنها كانت أبسط شكل من أشكال الأذان هي (الصلاة. الصلاة) ولعلها أقدم عهداً من كلمة (الصلاة جامعة) وهذا الشكل البسيط من الدعوة إلى الصلاة كان يردده الخلفاء أنفسهم حين مجيئهم إلى المسجد صباحا على الأخص لتنبيه النائمين وطالما قرأنا في كتب التاريخ كلمة (الصلاة. الصلاة يرحمكم الله) لتنبيه الغافلين إلى الصلاة ولا زالت مستعملة إلى الآن في صلاة الصبح جماعة على الأخص.
ويتألف الأذان الذي أقره الرسول (ص) من سبع فقرات، السادسة منها تكرار للأولى. وتردد العبارة الأولى أربع مرات متتاليات، والمالكية ترددها مرتين، كما تردد كل عبادة من العبادات الأخرى مرتين ما عدا العبادات الأخيرة فينادى بها مرة واحدة فقط. وبعد أن يؤذن بالعبارتين الثانية والثالثة مرتين يرفع الصوت بها عند المرة الثالثة. وقد أوصى بهذا الترجيع الشرع. أما الحنفية فترفضه. ويضاف إلى أذان الصبح عبارة (الصلاة خير من النوم). عند أهل السنة، وتردد مرتين (تثويب) بين العبارة الخامسة والسادسة.
ويتفق المسلمون جميعاً على صيغة الأذان؛ وهذا يدل على أنه كان على هذه الصورة منذ عهد الرسول. غير أن هنالك خلافاً بسيطاً بين أهل السنة وبين الشيعة في عبارة (أشهد أن علياً ولي الله) التي تردد مرتين بين الفقرتين الثالثة والرابعة؛ وفي عبارة (حي على خير العمل) التي تردد مرتين بين الفقرتين الخامسة والسادسة.
ويعاد الأذان في داخل المسجد بصورة مختصرة إذ تذكر عبارات لآذان مرة واحدة قبل المباشرة بالصلاة، ويطلق على هذا الأذان كلمة (إقامة).
فالأذان كما رأيت ضرورة من الضرورات التي اقتضتها الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأت في المدينة. ويقول المستشرق بيكر (الأذان في الإسلام لا يمثل فكرة الدعوة إلى الصلاة، أو بتعبير آخر: الأذان تماماً لأن عناصر الدعوة إلى الصلاة فيه قليلة أو تكاد تكون معدومة؛ فهي لا تتمثل فيه تمام التمثيل وليس الأذان على رأيه إلا قطعة من القطع الكنائسية التي يرددها الكاهن والشماس حيث الترجيع الديني بين الاثنين. يقوم الإمام في الإسلام مقام الكاهن؛ أما المؤذن فيؤدي واجبات الشماس).
وهذه النظرية خاطئة طبعاً؛ فالأذان وإن كان يعيده الإمام إقامة. فإن المصلين يعيدونه أيضاً. ولا وجه للشبه أبداً بين الترجيع الديني في الكنائس وبين الأذان عند المسلمين.
وذهب المستشرق اليهودي ميتوخ إلى أن الأذان في الإسلام مأخوذ من الأذان عند اليهود. وحجته في ذلك هو دعوة المؤذن (اللاويين) إلى الصلاة وعادة النفخ في الصور (البوق). تلك العادة التي لا زال اليهود يمارسونها حتى اليوم في طقوسهم الدينية في نهاية السنة، والتي كانوا يمارسونها سابقاً في عهد الهيكل لإعلان أوقات الأضحية، وفي أيام الجمع قبيل قدوم المساء لإعلان قدوم السبت إلى الجمهور. وفي عهد التلمود المتأخر.
أما حجته في أن اليهود يدعون طبقة اللاويين إلى أخذ محلاتهم قبل البدء في الصلاة وتلك الدعوة هي علامة الأذان أو الأذان بعينه، فإن تلك الدعوة هي دعوة خاصة في داخل (الكنيس) بينما الأذان دعوة عامة لجميع المصلين السامعين. وعبارات الأذان الإسلامي تختلف كل الاختلاف عن عبارات دعوة اللاويين. واليك هذه الدعوة: أيها الكهنة استعدوا لأعمالكم. أيها اللاويون قفوا في مصاطبكم. أيها الإسرائيليون خذوا مواقعكم)
وهذه الفقرات هي فقرات خاصة بطبقة كما ترى.
وأما قضية (التبويق) فقد رأيت أن النبي (ص) كرهها كما كره استعمال الناقوس. وليس هنالك بين الأذان وبين التبويق أي وجه من أوجه الشبه، اللهم إلا الفكرة والفكرة عامة في جميع الأديان.
يقول المستشرق ميتوخ: (يظهر من عبارة وردت في كتاب المقريزي أن الأذان إنما كان تنبيها للرسول عليه السلام وأخباره بحلول وقت صلاة الجماعة، كما كان تنبيهاً لخلفائه من بعده بحلول وقت الصلاة. وقد نبه إلى هذه الفكرة المستشرق بيكر أيضاً. وأما الإقامة فإنها علامة لبدء الصلاة أو مقدمة قصيرة للصلاة.
جواد علي