مجلة الرسالة/العدد 618/فلاسفة المجتمع
مجلة الرسالة/العدد 618/فلاسفة المجتمع
ذوات الطنين. . .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجِاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
ولم أكد انتهى من إنشاد صاحبي شعر العبسي، حتى تقلص وانفرد، وقد ارتعشت شفتاه، وانفسحت بينهما مسافة مخيفة، انطلقت منها هذه الكلمات تتخلج ولا تتحرج: يأخي، جنبني شر شعرك هذا! فما عدت أومن بما للشعر من قيم وأقدار؛ قلت: أو يؤمن الشعر بمن لا يعرف أواصره وأنسابه؟
قال: أتريد أن تبرأ من هذا الشعر وفيه جودة التصوير والصدق. . . وصاحبي هذا نسيت أن أقدمه لقارئيه، حتى يطمئنوا إلى ما يجري على لسانه من حديث وجدل. . . فهو قد انبعث إلى أوربا بضاعة مزجاة، ثم ردت بضاعتنا إلينا مهوشة مضطربة ككل بضاعة وافدة من هناك، تنكر الفصحى وتتهم ثقافتها، وتعيش بمعزل عن كل ما يقرأ أو يكتب من الميمنة إلى الميسرة، والمعجب والطريف من أمره أن يده اليمنى معطلة، فهو مع شماله دائماً، قارئاً وكاتباً. . . فصاحبي رجل - أعور العقل واليد - ورحم الله الرافعي. . . قلت له: لن أبرأ من هذا الشعر وان كان للعبسي. . . فقد حدثتك نفسك، وهي ذكية، لولا ما يكتنفها من (كثافتك). حدثتك أن جواً خاصاً أعيش فيه يتنفس بهذا الشعر. . . والزمن مهما تراخى، لا بد واصل بوشائج وصلات، بين مظاهر الحياة ومفاتن المجتمع. . . كان ثمت للعبسي روضة وذباب. . . أفتتن بهما، وأفتن في تصويرهما. . . وقد أحتفظ نقدة الأدب ومؤرخوه بهذه الروعة المائلة في هذين البيتين، وظلت تتحدر من قمة الزمن، حتى ترسبت في سفح هذا الجيل، نابضة بالصدق، مزدانة بالتصوير. . .
روضة واحدة كان يغشاها العبسي غردة بذبابها، مخضلة بنداها. أما أنا وأنت يا صاحبي، فأينما اتجهنا، فرياض نواحة بذبابها (الأصيل) مخصوبة بلعابه السام. . . وذباب واحد كان يستهوي العبسي بنشيده الموقع المحبوب، في ضحوة الصبح وصفرة الأصيل. . .
وتسمع للذباب إذا تغنى ... كتغريد الحمام على الغصون ذباب يترشف ألحانه من كؤوس الزهر البليلة المشرقة في مطالع الربيع ومجالي الطبيعة، كما يحدث أبو النجم عن روضته الأنف التي تعل ذبابها من أكاليل الزهر وريحانه
أُنفٌ ترى ذبابها تعللهْ ... من زهر الروض الذي يكللهْ
أما أنا وأنت يا صاحبي، فقذى أعيننا مواكب الذباب الأصيل يستثيرنا بطنينه الملح الموصول في غدونا ورواحنا. . . ذباب يصوغ أصواته من دم الأخلاق الهزيلة الضالة، ولا ينشط إلا في عتمة الليل ومتاهات الظلام حيث ترهف الآذان، وتنحط معاني الحيوان. . . ولا تثقل عليك فلسفتي هذه يا صاحبي، فقد ذكر الجاحظ:
(إن للذباب وقتاً يهيج لأكل الناس وعضهم وشرب دمائهم، وإنما يعرض هذا الذباب في البيوت عند قرب أيامها، فإن هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً)
قال صاحبي: بقى جانب غامض في موقفك من هذه المخلوقات المتواضعة الصغيرة أرجو أن تجلوه لي: لم ترصد أجواء هذه الحشرات عدا عليها أنفاسها؟ أتنطوي عوالمها على أسرار ومعجزات؟ قلت: ولست بمحص لك أسرارها، فهي وحدها بمزاجها ودقة تكوينها سر هذه الأسرار، ثم في تأملها اعترف بقدرة خالقها، ورياضة للنفوس الزارية بها، ولعل الجاحظ أيضاً يريحك فيمنحك ثقة بها تباعد بينها وبين احتقارك لها. . .
أوصيك أيها المستمع المصيخ، ألا تحقر شيئاً أبداً لصغر جثته. وإياك أن تسئ الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين. . .
. . . ولعلك يا صاحبي تصدق أن الذباب لم يكن في أيام العبسي إلا ذباب الربيع الباكر البهيج، لا تكتحل العين به إلا في موسم وميعاد
وأما في أيامك، فهو كل ما تلقاه حيث أنت، عاكفاً بالليل، أو سارباً بالنهار.
كان في الزمن الأول يقتات نوافح الزهر، حيث لا يضطرب المجتمع بغير نوازع الحب والكبرياء الدافعة إلى خوض المضاجع والدماء، أسمعت العبسي ينشد:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هذا. . . كان مشغلة لفن الشعراء، في قمة الزمن الأول. . . كبرياء الحب الصحيح مجلبه لاشتباك الأسنة والسيوف، عمل النفوس في النفوس صفاء، ووفاء، ودماء أما في (مستنقع) زمنك الأخير يا صاحبي، فمشغلة الكاتبين لجاجة الذباب. . كما سماها أستاذك الجاحظ فقد أصابه منها شر متطاير وثاب، ستأتيك قصته في خاتمة الحديث
استقرت لجاجة هذا الذباب الذي أصبحت تعرفه معي، على أوضاع تواثم دواعي الأيام، حيث يصطرع مجتمعه بأعاصير التعاطف الرخيص العاصف بالنفوس الذليلة، والضمائر العليلة، فأطعمه المجتمع شرائح الأعراض، فأمتصها غرداً كفعل الشارب المترنم ثم نفثها، طاقة ومجهوداً؛ فاستشرت الأدواء في الأصحاء. . . قتل وتجريح وإيذاء!!. .
قال صاحبي: الهذا آثرت الغافية. . ونجوت؟ قلت: ولمساخر أخرى يحجزني عن التصريح بها أنك رجل وقذك الورع، وأسقمتك التقوى، وتلك التي لم تستطع أوربا أن تبتزها منك!! وحسبك أن شيئاً وأشياء - تزيد على ما أصاب أستاذك الجاحظ - نالني من شر هذه المخلوقات، فألفيتني أعدوا وأجد؛ وقد سلبني (الذباب) راحة البال واطمئنان الخاطر، وقد يئست من استنقاذهما منه، ضعف الطالب والمطلوب! وظلت أعدو حتى انتهى الشوط
أأجد يا صاحبي ظلا وأمنا في هذا المكان؟ حيث لا للشر على الخير سلطان. . .
قال قل لي ما كان من أمر الجاحظ حين خرج يريد دير الربيع، فتلقاه الأندلسي قائلاً: مالك يا أبا عثمان؟ هل من حادثة؟
قلت يا صاحبي: هذه قصة تطول. . . فافرغ لي من شغل غدك، اكمل لك ما كان شأن أبي عثمان. . قال: وحينذاك أفتيك عن مصيرك في هذا المكان. .
أحمد عبد المجيد الغزالي