مجلة الرسالة/العدد 618/الأسرة والمجتمع
مجلة الرسالة/العدد 618/الأسرة والمجتمع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد من سعة الاطلاع، ورجاحة الفكر، والتمكن من ناصية البيان، ما يتيح له علاج أي موضوع من موضوعات الآداب والعلوم علاج الإحصائي الأريب، ويسمو ببحوثه في نباهة الشأن، والمعية التحقيق إلى منزلة منقطعة النظير. وقد تجلت خصائصه هذه جميعاً في مقاله القيم بعدد الرسالة السابق عن كتابي (الأسرة والمجتمع) الذي ظهر أخيراً في مؤلفات (الجمعية الفلسفية المصرية).
غير أنني - إذ أبدي كبير إعجابي بكلمته الممتعة عن هذا الكتاب، وأقدم إليه جزيل الشكر لما وجهه إلى الكتاب وصاحبه من عبارات الإطراء والمديح، وبذله في دراسة مسائله من عناية مشكورة، ولما أبداه بصدد من ملاحظات قيمة تنم على دقة التأمل وعمق التفكير - أرى من الخير أن ألقي نظرة على بعض ما ورد في ملاحظاته من أمور تحتاج إلى مزيد من التوضيح.
فمن ذلك ما ذكره الأستاذ بصدد تماسك أجزاء الكتاب، وذلك إذ يقول: (ويظهر أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة. أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، فتكررت فيه العبارات بمعنى واحد، وورد بعض الأسماء بألقاب مختلفة.
ولكنه على هذا مطرد السياق، متتابع الفصول، يتمم اللاحق منه ما سبقه من الأجزاء، وينتقل فيه القارئ من تمهيد، إلى مقدمة إلى نتيجة بغير انقطاع).
ولا أدري كيف تتوافر هذه الصفات الأخيرة في كتاب، ثم يُظن مع ذلك أن بعض فصوله قد كتبت بمعزل عن بعضها الآخر، أو أنه قد ألف في أوقات متفرقة؟! أما تكرار بعض العبارات في مواطن مختلفة من هذا الكتاب، فقد تعمدته تعمداً، ورأيت أن تماسك أجزاء المؤلف لا يستقيم بدونه. وذلك أنني قد عمدت إلى هذا التكرار في موضعين يظهر كليهما القصد وشدة المحافظة على ربط الأقسام بعضها ببعض.
أحدهما أنني قد ذكرت في المقدمة الحقائق الأساسية، أو (الفكرة التي سأعني باستخلاصها من بحثي لظواهر الأسرة. ثم كررت في الخاتمة هذه الحقائق نفسها، أو هذه (الفكرة)، بعباراتها المذكورة في المقدمة بعد أن كشفت لي دراستي للموضوع عن صحتها، ومهدت لي سبيل استخلاصها. وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحافظة على اطراد السياق وربط أجزاء الموضوع بعضها ببعض، ويصل إليه الحرص على اتفاق نتيجة الدليل مع نفس القضية التي جعلت موضوعاً للاستدلال. وقد كان لي في منهج علماء الرياضة أسوة حسنة في هذا السبيل. فقد جرت عادة الرياضيين في علاجهم لنظرياتهم أن يعرضوا أولاً نص النظرية التي يريدون دراستها، ثم يأخذون في الاستدلال على صحتها، حتى يصلوا إلى نتيجة تتفق في عباراتها اتفاقاً تاماً مع نفس هذا النص.
والموضوع الثاني الذي تعمدت فيه التكرار لشدة المحافظة على ربط أجزاء الكتاب بعضها ببعض يلاحقه القارئ في عرض طائفة من النظريات التي قال بها علماء الاجتماع. وذلك أن بعض هذه النظريات تشتمل على حقيقتين أو على حقائق كثيرة يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، ولكنها تتصل بموضوعات عرضت لها في عدة فصول من الكتاب؛ فاضطررت حيال كل نظرية من هذا النوع إلى تكرارها كاملة في فصلين أو أكثر مع عنايتي في كل فصل بالناحية التي تهم موضوعه منها وذلك كنظرية (ماك لينان) التي يذهب فيها إلى أن نظام قتل الأولاد في الأمم البدائية قد أدى إلى تحريم التزاوج بين الأقرباء وإلى اصطناع طريقة السبي في الزواج. فلما كان موضوع المحارم قد عرضت له في القسم الأول من الفصل الثاني وموضوع السبي قد عرضت له في القسم الثالث من هذا الفصل، وكانت نظرية (ماك لينان) تتصل بكلا القسمين، وتتوقف عناصرها بعضها على بعض اضطررت إلى تكرارها فيهما، مع اقتصاري في كل قسم على مناقشتها من الناحية التي تهم موضوعه.
وأما ورود بعض الأسماء في كتابي بألقاب مختلفة، فلا أرى في ذلك موضعاً للمؤاخذة متى كانت هذه الألقاب صحيحة، كما لا أرى فيه دليلاً على ما ظهر للأستاذ العقاد. فقد ذكرت (فريزر) مرة بلقب العلامة، ومرة بلقب العلامة الإنكليزي، ومرة بلقب الأستاذ، وجميع هذه الألقاب صحيحة لأن فريزر أستاذ علامة إنجليزي. وفعلت مثل ذلك بصدد مرجان ووستر مارك وباخوفين ودور كليم وماك لينان. . . وغيرهم ممن ورد ذكرهم في عدة مواطن من الكتاب. وقد يكون بعض الألقاب مقصوداً استعماله بالذات في مواطن ما لغرض يدل عليه سياق الحديث، وقد يكون غير مقصود. ولكن أمراً عاديا كهذا لا يدل على أي حال، على أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، كما يذهب إلى ذلك الأستاذ العقاد. وان الواحد منا ليكتب خطاباً إلى صديق فيتحدث فيه عن شخص ثالث مرة بلقب الصديق، وأخرى بلقب الأخ، وثالثه بلقب الأستاذ، ورابعة بلقب الدكتور. . .، بدون أن يكون في ذلك دليل على أن الخطاب قد كتبت بعض أجزائه بمعزل عن البعض الآخر. وأكبر الظن ان الأستاذ العقاد نفسه لو كان قد ذكر اسمي في مقاله أكثر من مرة لتعددت ألقابي لديه عن قصد وعن غير قصد.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره الأستاذ بصدد خلاصة الكتاب إذ يقول: (وخلاصة الكتاب كله أن الأسرة نظام اجتماعي لا طبيعي، كما جاء ففي الفصل الثالث. . .)
وحقيقة الأمر أن خلاصة الكتاب، كما بينت ذلك بصراحة في مقدمته وفي فصله الأخير، تشتمل على ثلاث حقائق: إحداها الحقيقة التي أشار إليها الأستاذ العقاد؛ وثانيهما (أن نظم الأسرة ليست من صنع الأفراد، ولا هي خاضعة في تطورها لما يريده لها القادة والمشرعون. وإنما تنبعث من لقاء نفسها عن العقل الجمعي واتجاهاته، وتخلقها طبيعة الاجتماع وظروف الحياة، وتتطور وفق نواميس عمرانية ثابتة، وأن القادة والمشرعين ليسوا في هذه الناحية وغيرها إلا مسجلين لاتجاهات مجتمعاتهم ومترجمين عن رغباتها وما هيئت له. فإن انحرفوا في تشريعهم عن هذا السبيل كان نصيبهم الإخفاق المبين)؛ - وثالثه هذه الحقائق (أن نظام السرة في أمة ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات هذه الأمة وتقاليدها وتاريخها وعرفها الخلقي وما تسير عليه من نظم في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والقضاء، وما تمتاز به شخصيتها الجمعية، ويكتنفها من ظروف في شتى فروع الحياة، وأنه في طريق تطوره يسير منسجماً مع هذه الأمور. فشأنه معها شأن جهاز مع بقية أجهزة الجسم الحي. يسير في أداء وظائفه ومناهج تطوره على طريق ينسجم مع طريق الأجهزة الأخرى؛ ولا يستقيم أمره وأمر الجسم الذي يحل فيه إلا إذا سار على هذا السبيل. فإن لم يراع القادة والمشرعون هذه الحقيقة في علاج النظام العائلي جاء إصلاحهم عنصراً غربياً في حياة الأمة، تتجرعه الجماعة تجرعاً ولا تكاد تسيغه، وتتظافر نظمها الأخرى على مطاردته ودفعه، ولا تنفك تطارده وتدفعه حتى تجهز عليه، فيصبح أثراً بعد عين، كجرثومة ضعيفة تنفذ إلى جسم منيع).
ولا تقل الحقيقتان الأخيرتان أهمية في نظري عن الحقيقة الأولى، بل إنهما لتزيدان عنها أهمية من الناحيتين العلمية والإصلاحية كما أنني لم أعن بواحدة منها أكثر من عنايتي بما عداها. ولا يظهر في الكتاب أي أثر لترجيح بعضها على بعض.
ومن ذلك أيضاً أنني ذكرت في الفصل الأخير من الكتاب لتأييد الحقيقة الأولى المشار إليها فيما سبق، أثني عشر دليلاً متماسكاً مترابطة يشد بعضها بعضاً، وتقضي في مجموعها على كل منفذ يتسرب منه الشك إلى هذه الحقيقة. وقد استخلصت هذه الأدلة استخلاصاً من دراستي لموضوع الأسرة، وذكرتها تحت أرقام مسلسلة، ولكن الأستاذ العقاد قد اقتصر على نقل فقرة واحدة من الدليل الأول وحده، وذكر هذه الفقرة في صورة يتبادر منها إلى ذهن القارئ أن هذا هو كل ما اعتمدت عليه. ثم ناقشها ورأى إنها لا تنهض حجة على تأييد النظرية التي أزيد تأييدها، وبني على معظم ما ذكره في مقاله.
وغني عن البيان أن بنياناً يقوم على اثنتي عشرة دعامة يأخذ بعضها بحُجَز بعض، ويشد بعضها بعضاً، يبدو ضعيفاً واهياً إذا لم يبق من دعائمه هذه إلا جزء من دعامة واحدة، ولا يحتاج هدمه في هذه الحالة إلى كبير عناء؛ وإن حكما بناء القاضي على اثني عشر سبباً تدل عند ضمها بعضها إلى بعض على صحة ما جاء به، ليبدو حكماً فطيراً ضعيفاً إذا لم ينشر من أسبابه هذه إلا فقرة من سبب واحد.
فلو أن الأستاذ العقاد قد ذكر جميع الأدلة التي أوردتها أو لخصتها لاتضح وجه الحق فيما أذهب إليه. بل لو أنه ذكر الدليل الأول وحده كاملاً لظهرت النظرية في شيء من قوتها.
أما النظرية التي ذهب إليها الأستاذ العقاد بصدد الدعائم التي يقوم عليها نظام الأسرة، وهي النظرية التي عارض بها نظريتي والأدلة التي أعتمد عليها لتأييد هذه النظرية فتحتاج مناقشة هذا كله إلى مقال طويل نرجئه إلى عدد قادم إن شاء الله، مع تكرار شكرنا للأستاذ الجليل لما قدمه إلينا من فضل، وما أتاحه لنا من فرصة للتحدث في هذا الموضوع الهام على صفحات الرسالة الغراء.
علي عبد الواحد وافي
دكتور في الآداب من جامعة باريس