مجلة الرسالة/العدد 552/من الأدب البولندي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 552/من الأدب البولندي

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1944



ستانسلوس أوجا خوفسكي

أحد الأحرار

للأستاذ حسين غنام

كانت دعوة مارتن لوثر المشهورة لا زالت طفلة غضة تحبو على يديها ورجليها، ولكنها كانت تتعثر كثيراً وتصطدم بعقبات قاسية، فحاربها البطاركة والرهبان في مختلف الأديرة والكنائس، وحاربها الملوك والأمراء والأعيان، بل حاربتها الشعوب أنفسها

وكان طبيعياً أن تتسرب تلك الدعوة الجريئة، في أوائل القرن السادس عشر، من بروسيا مهدها ومنشأها إلى جاراتها القريبة، وخاصة بولندا، وتلاقي صدى عند المفكرين الأحرار وأنصار التجديد الأجرياء

ولكن بولندا في تلك العصور كانت خاضعة خضوعاً عجيباً للبابا في روما. وكان البابا الكاثوليكي الروماني أشد خصوم دعوة لوثر التي ترمي إلى تجديد الدين وإصلاحه، دأب رجال الدين جميعاً في محاربة كل تجديد، أو ما يسمونه بدعة أو فتنة! فما بلك بخليفة الله في الأرض، وما يحيط به من آيات الجلال والتقديس، وهو يخشى أن تزعزع تلك الدعوة كيان روحانيته على الشعوب التي تقدسه؟

فكانت كل دعوة إلى الأخذ بآراء مارتن لوثر، أو ميل إلى تجديد الكنيسة يقابل بحرب عنيفة ولا شك مبعثها البابا، والمحرض الأكبر عليها هو وأعوانه الكثيرون

ولكن على الرغم من ذلك وجد بعض الأجرياء في بولندا في ذلك الحين، ولعل أول هؤلاء المصلحين الذين أثروا تأثيراً كبيراً في الكنيسة البولندية والحياة البولندية جميعاً هما أندرومودجافسكي وستانسلوس أوجاخوفسكي. ولكن ثانيهما كان أبعد أثراً وأجرأ قلباً وأعنف قلما وبيانا، وأشد إقداماً وأرسخ قدما من زميله

تلقى هذا الرجل علومه في وتنبرج، فاعتنق مذاهب المجددين وتشرب نظرياتهم وآراءهم، ثم صار تلميذاً للمجددين الدينيين العظيمين (مارتن لوثر) و (بلانجتن) ثم نزح إلى إيطاليا وقضى فيها مدة قصيرة عاد بعدها إلى بلده. وكان ذلك سنة 1543، والتحق بالسلك الديني مبتدئاً برتبة صغيرة ما زال يتدرج منها حتى رقى في زمن وجيز إلى وظيفة القسيس الأول في

وكان وقتئذ عضواً في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولكنه لم يستطيع أن يخفي شعوره ضدها، وعملت فيه آراء أستاذيه المصلحين الكبيرة، كما استفزه قريبه الشاعر (ري) فكان لا يفتأ يعلن آراءه ويرددها غير خائف ولا وجل

وكان المذهب الديني الغالب آنئذ في مقاطعة (جاليسيا) - إحدى مقاطعات بولندة في ذلك الحين - هو المذهب الأرثوذكسي. كان هذا الرجل يقيم في تلك المقاطعة، وفيها إبرشيته التي يعمل فيها؛ فأخذ يكتب ويكتب في تمجيد العقيدة اليونانية، والدفاع عنها، وكان هذا ضد وظيفته، ولكنه لم يأبه لذلك، فقد كان غرضه مهاجمة البابا الكاثوليكي، والتعرض له فطلبته السلطات الدينية العليا للمحاكمة. واستطاع بعضهم أن يؤثر عليه تأثيراً مؤقتاً، وطلب إليه الرجوع عن تعاليمه ونبذها، ثم احرقوا كتابه الذي أعلن فيه هذه الآراء

ولم يكن عن ضعف رجوع الرجل عن آرائه؛ فدأب المصلح أن يمهد الطريق، ويحبس النبض، ولا يتردد في إحناء هامته للعاصفة القوية حتى تمر سراعاً، ثم ينتصب من جديد قوياً

فإن إذعان ستانسلوس لتلك السلطات الدينية كان إذعاناً وقتياً؛ فقد تزوج بعد ذلك بأمد وجيز من ماجدالين خَلمتسكي ضارباً بهذا الزواج تقاليد الكنيسة التي يمثلها، فدعاه مطران بشيمزل ليحاكمه على ما أتى، أمام محكمته، فذهب ستانسلوس برفقة صحبة قوية من أصدقائه؛ فخشي المطران أن تحدث فتنة، فلم يستطيع أن يفتتح الجلسة، وآثر أن يحكم على القسيس النافر غيابياً، ففعل، ثم وقع مرسوماً بفصله عن الكنيسة وتجريده من جميع رتبه الكنسية

وأعلنت فضيحته، وقيل إنه خارج على الدين الرسمي للدولة، وصودرت أملاكه. ولكنه لم يفزع لشيء من ذلك. ومر ذات يوم بكنيسة أثناء تأدية الخدمة الدينية فيها، فدخلها وتكلم في الجمع الحاشد بها، محتكما إلى المصلين، ومعلناً براءته مما نسب إليه

ولم تطل مدة الحكم عليه، فأصبح في نظر الكثيرين بريئاً منه، وانقلب التيار الآن وسار جارفاً قوياً ضد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وتطاول التيار ضدها، حتى وصل مجلس الآراء، ووجد كثير من الرجال الذين أخذوا بناصر أوجاخوفسكي وآزروه

قال المستر جيروم هورسي السفير البريطاني لدى بلاط الروسيا في ذلك الحين، في بعض مذكراته (عندما جئت فلنا، أكبر مدينة في لتوانيا، قدمت نفسي وأوراقي كمندوب من الملكة، فقابلني الأمير (راجفل)، وهو أمير عظيم ذو حول وطول، ويعتنق المذهب البروتستانتي!)

فمن هذا يبدو لنا كيف بجح أوجافسكي في تحويل التيار، حتى بين الأمراء، ضد الكنيسة البولندية التي حاربته

وفي مجلس الأمراء ظهر أوجاخوفسكي ظهوراً عظيما، فقرأ على الأعضاء نصوص الحكم عليه بقطعه من الكنيسة، وتساءل عما إذا كان في استطاعة الأكليروس أن ينصرفوا في حياة إنسان مثل هذا التصرف

وكان قرار المجلس حينئذ أنه في مثل هذه الأشياء التي تتعلق بمواطن بولندي يجب أن تعرض على مليكه ليتصرف فيها

ولكن أوجاخوفسكي وجه خطاباً جريئاً إلى الملك وإلى مجلس الأعيان، ونجح في إرجاء هذا العرض، وقرر المجلس أن يستشيروا البابا فيما إذا كان يبقي أوجاخوفسكي زوجته أم يطلقها

ورأى أوجاخوفسكي أن العاصفة هذه المرة قوية ضده أيضاً. فآثر أن يحني لها هامته للمرة الثانية، ريثما تمر كما مرت سابقتها، فهادن الكاثوليك الرومانيين بعد ذلك. وفي السابع عشر من فبراير عالم 1552 برئ من قطعه عن الكنيسة وأعلن خضوعه للمجلس الديني فيما يتعلق بالعقائد، ولكنه تخلى عن قدره ورتبه الكنسية، آملاً أن تعترف السلطات الرومانية الدينية بزواجه.

كان هذا النبيل رجلاً قوياً جديراً أن يعمل الكثيرون على استمالته، وكان همهم الأكبر أن يفصلوه عن البروتستانت، ولكنه لم يكن ممن يحترمون البابوات (الأحبار الرومانيين)، فخاطب يوليوس الثالث بهذا الأسلوب: (تأمل، يا يوليوس، وتبصر جيداً؛ مَن من الرجال ستفعل فعلتك معه. إن هذا الرجل ليس إيطالياً تفرض عليه سلطانك وجبروتك، والواقع أنني رجل روسي وهو ليس تحت رعويتك الباباوية الخسيسة، ولكني مدني من مملكة يجب حتى على ملكها أن يحترم قانونها ويطيعه إن في استطاعتك أن تحكم علي حتى بالموت، إذا أحببت، ولكنك لن تستطيع أن تنفذه فيَّ ولن ينفذ الملك، حكمك، لأن الأمر يجب أن يعرض على مجلس الأعيان. إن الرومانيين يحنون قامتهم ويركعون أمام جموع خدامك وأجرائك، ويحملون على أعناقهم نير الذل والعبودية عن كتاب الرومان الجبناء. . . ولكن هذه الحال لن تكون معنا. فحيثما يحكم القانون؛ فلا العرش، ولا الملك، ولا الحاكم، بمستطيعين أن يفعلوا ما يريدون، فالحكم لا يكون إلا للقانون وما يشرّع. إنه لن يقول، حالما تشير إليه بأصبعك، أو تبهر عينيه بخاتم الصياد السحري الذي في يدك، يا ستانسلوس أوجاخوفسكي! إن البابا يوليوس يريدك أن تذهب إلى المنفى، فيجب عليك أن تذهب، ولكني أُؤكد لك أن الملك لا يمكن أن يريد ما تريد أنت؛ فإن قوانيننا لا تسمح له أن يسجن أو ينفي أي شخص لم تحكم عليه محكمة خليقة بالحكم)

وأدرجت أعمال أجاخوفسكي ضمن القائمة السوداء في الفهرس البابوي، وأعلن الكتاب الكنسيون أنه خادم من خدم الشيطان

ولكنه بدل أن يرتدع بمثل هذه التصرفات، فقد انفجر ثائراً بتجريحات أقوى، وكتابات أعنف، وإليك مثالاً من مخاطبته للبابا بول الرابع: (بما أن هذا المكروه العربيد المعتوه الأخرق، الذي يسمى نفسه بول الرابع، قد أخرج موسى والمسيح من الكنيسة، فإني سأتبعهما بملء حريتي ورغبتي؛ فهل أستطيع اعتباره شيئاً حاطاً بكرامتي أن أكون زميلاً لهذين اللذين يسميهما الأخرق البغيض هرطيقين؟ هذا سيكون شرفاً لي وتاجاً يتوج رأسي. إن إهمال التعاليم القديمة أفسدنا وأذلنا وجردنا من شرفنا. يا بول! حذار أن تجر على إبرشيتك الخراب الأخير. نظف المدينة من جرائمها، واستأصل بذور الخسة والدناءة فيها، ولا تجر وراء الأرباح التي تجنيها لمصلحتك إني سأشرح لمواطني، بكل صراحة ووضوح، أن الفساد الروماني يضر الكنيسة ويؤذيها أكثرمما التواء اللوثرية)

بهذا وبمثله كان يخاطب أوحاخوفسكي الباباوات الرومانيين. وهو لم يكتف بذلك. فقد تناول هذا البابا في رسائل أخرى بالتجريح العنيف، وحمله من المذمات والقدح والشتم حملاً هائلاً، ثم بدأ مؤلفاً جديداً - لم يطبعه - ولكن بعض أصدقائه حدث أنه رآه مخطوطاً وقرأه، وهو في هذا الكتاب وعنوانه - خلع روما - أو شئ شبيه بذلك يفضح جرائم وأغلاط الباباوات، ثم أعلن أنه سينضم إلى الكنيسة اليوبانية التي كانت وقتئذ المذهب الشائع للجزء الأعظم من سكان مقاطعة جاليسيا

وفي بعض ثورات أُوجاخوفسكي الهجومية، غير المتصلة ذكر بعض الحقائق اللاذعة المؤلمة

فقد بين أن الأقسام التي يقسمها المطارنة للأبريشية البابوية تمنعهم أن يكونوا رعايا أُمناء للملك

وقال - إنه تقلد مطران كاثوليكي روماني منصب عضو في الأعيان، فمن الضروري أن يكون خائناً لبلده، لأنه سيفضل منفعة روما على مصالح مليكه؛ فهو سيقسم يمين الطاعة للبابا، ثم يقسم بعد ذلك للملك

ووجه أوجاخوفسكي الخطاب إلى الملك، قال - وإن هذا القسم لينسخ حرية المطارنة، ويجعلهم جواسيس على الشعب وعلى الملك، إن هيئة الأكليروس العليا بتطوعها لقبول هذه العبودية قد دخلت في مؤامرات خسيسة ضد بلادهم نفسها، وعلى الرغم من تآمرهم ضدك وضد عرشك، فهم لا يزالون يحتلون مقاعدهم في مجلس الشورى. لقد فحصوا خططك واستقصوها، ثم بلغوها إلى رئيسهم الأجنبي)

وقال أوجاخوفسكي في موضع آخر عن هؤلاء الأكليروس (دعهم يعمدون ويبشرون، ولكن لا تدعهم يوجهون أعمال الدولة وشئونها. وإذا كانوا يريدون - على الأقل - أن يحتفظوا بمناصبهم في مجلس الأعيان، فدعهم يبرأون من طاعتهم لروما)

هذه الآراء الجريئة ذكرها أوجاخوفسكي في كتابه البابا الأكبر، الذي نشره بلا توقيع في سنة 1558، ولكن المعروف المشهور إن هذا الأثر كتب بقلم أوجاخوفسكي

وقد أثمرت هذه الآراء، وهذه الثورة التي ثارها ذلك الرجل الفاضل الجريء، في القرن السادس عشر، ثمراً طيباً حتى في عصره، فقد اشتد النضال بين أنصار الباباوات وبين أنصار المجددين، واستعرت نار الشحناء بينهم واتسعت رقعتها، وعمت أرفع الطبقات، ومنها طبقات الأمراء والأشراف ورجال الأكليروس وخدمة الدين عامة، حتى أن قسيساً حكم عليه بالموت حرقاً لأنه كان يدعو للمذهبين جميعاً ولقيت إحدى السيدات نفس الجزاء لأنها أنكرت الواقع

وسارت عدوى التشكك إلى عديد من النبلاء، وتزوج الكثيرون من رجال الأكليروس

ويقال أن الملك سيحسموند، كان ميالاً إلى مذهب المجددين الدينيين، وسمح للمجدد الكبير كالفن أن يهدي إليه أحده مؤلفاته، وأن يقدم له لوثر طبعة من إنجيله الألماني، وهذا كله بتأثير دعوة ستانسلوس أوجاخوفسكي. . .

(الإسماعيلية)

حسين غنام