مجلة الرسالة/العدد 519/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 519/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1943


للدكتور زكي مبارك

هنا تقرأ الرسالة - تمثال سعد باشا - منارة أبي العباس - عهود ومواثيق

هنا تقرأ الرسالة

بهذه الجملة هتفتُ حين سمعت النداء بالرسالة صباح الأحد في شاطئ ستانلي، وحين رأيت مع بائع الجرائد كمية من أعداد الرسالة لم أكن أنتظر أن أراها في ذلك المكان. وقبل ذلك بيوم رأيت في مكتب (بريد سيدي جابر) جماعة من أفاضل الموظفين يحدثونني عن مقال أسيوط. ومن هذا وذاك فهمت أن المجلات التي تُعنى بالأدب الصِّرف أخذت تسيطر سيطرة روحية على أكثر الميادين، وكانت فيما سلف مقصورة على طوائف قليلة من الخواص

إن وصول المجلات الأدبية إلى الشواطئ له دلالة معنوية، فهو شاهد على رقي الذوق، ودليل على أن روّاد الشواطئ ليسوا جميعاً من اللاهين، فقد ظهر أن فيهم من يتخير المكان الذي يقرأ فيه، كما يتخير الكاتب المكان الذي يكتب فيه. والقراءة كالكتابة تحتاج إلى جوّ يسود فيه الجمال

أقمت بالشاطئ ساعتين مع جماعة من رجال الأدب ومحبيه، فدار الحديث حول كثير من المعضلات، ودار أيضاً حول اللآلئ المنثورة فوق الرمال. . . وأُخِذْت صور، وأُنشِدتْ قصائد، وتجاوبتْ عيونٌ وقلوب

ثم أنظر فأرى رجلاً ملء العين والقلب يشرِّف الشاطئ، وهو سعادة الأستاذ الجليل محمد العشماوي بك، فيقع هذا السجال:

- ماذا تصنع هنا يا دكتور مبارك؟

- جئت أحاول إتمام التصنيع الذي بدأته قبل أربع سنين

- وما ذلك الصنيع؟

- هو تأليف كتاب عن (أدب الشواطئ)

- وما أساس الفكرة في ذلك الكتاب؟

- أساس الفكرة أن المصريين أنشأوا فناً جديداً في الأدب العربي هو أدب الشواطئ، وق يكون ابتكارهم لهذا الفن جديداً بالنسبة لسائر الآداب

- تريد أن تقول إنه فنٌ لم يوجد في الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً؟. . .

- هو ذلك، مع الاعتراف بأن لشعراء فرنسا وإنجلترا أفانين متصلة بالحياة البحرية، ولكنها تخالف إحساس المصريين بالشواطئ في مواسم الاصطياف

- وهل تفردت الشواطئ المصرية بخصائص؟

- هذا مؤكد، فأنت لا تستطيع أن تحدد موعد لقاء على شاطئ فرنسي أو إنجليزي بعد أسابيع ولا بعد أيام، لأن الطبيعة هنالك مفطورة على التقلب، أما في مصر فتستطيع أن تحدد موعداً على أحد الشواطئ بعد سنة أو سنتين، لأن جو مصر مفطور على القرار والاطمئنان

- إن كان الأمر كذلك فكيف تأخر أدب الشواطئ في مصر، ولم نر له بوارق فيما مضى من العهود؟

- بدعة الاصطياف على الشواطئ بدعةٌ حديثة العهد في الشرق والغرب

- تعني أنها لم توجد قبل أن يوجد الشيخ أبو العيون؟

- الشيخ أبو العيون وجد قبل قرون!

- متى؟

- وُجد باسم السخاوي

- وكيف؟

- كان السخاومي مولعاً بعدّ هفوات ابن خلدون، فطاب له أن يدون في كتاب (الضوء اللامع، في أعيان القرن التاسع) أن ابن خلدون كانت له جولات في الشاطئ السكندري أيام الصيف

وما معنى هذا؟

- معناه أن شواطئ الإسكندرية كانت مراتع صبوات في ذلك الزمان

- وهل قال ابن خلدون شعراً أو نثراً في الشواطئ؟

- حكاية ابن خلدون غريبة جداً

- وما وجه الغرابة في حكاية ابن خلدون؟ - حدثنا الأستاذ محمد المهدي بك في إحدى محاضراته بالجامعة المصرية سنة 1917 أن السفينة التي أقلت ابن خلدون من تونس إلى الإسكندرية غرقت وهي مشرفة على الشاطئ، فهلك أهله وأصحابه، ونجا بعد أن كاد يمسي من المغرَقين

- وإذن تكون جولات ابن خلدون على شواطئ الإسكندرية مناجاة لتلك الأرواح، وهذا معنى جهله السخاوي ولن يجهله أبو العيون

- في هذا الكلام لواعج ذاتية، فهل كان لك مع شواطئ الإسكندرية تاريخ؟

- كان ذلك أيام الاعتقال

- هل اعتُقِلْتَ يا دكتور؟

- قال ناسٌ إني كنت من خطباء الثورة المصرية، وإنني استصبحت بغياهب الاعتقال

- وأنا أيضاً لم أسمع به قبل اليوم

- تلك إذن دعابة من دعاباتك؟

- هي دعابة من دعاباتي، بلا جدال، ولكن لها عقابيل

- لا تؤاخذني يا دكتور في جهل هذا الجانب من حياتك

- أي جانب؟ أنا أمزح!

- وأنا أحب أن أسمع هذا المزاح

- دخلت الإسكندرية أول مرة في سيارة مغلقة من سيارات الجيش البريطاني، دخلتها بعد انتصاف الليل وفي أعنف وقت من قسوة الشتاء، فاجتهدت في زحزحة الأحجبة عساني أرى وجهاً من وجوه الحياة فوقع نظري على غابة من النخيل

- وأين كان المعتقل في الإسكندرية؟

- لا أدري أين! كنا في (سيدي بِشْر)، ولكن أين؟

- هل فكرت في التعرف إلى مكان الاعتقال؟

- فكرت وفكرت، ولكني لم استطع الاهتداء إليه، برغم الشوق إلى المكان الذي أودعت فيه ذخائر شبابي

- هذه رموز تحتاج إلى تفاسير

- كنت بطل البحر في ذلك العهد، ولعلني أول سابح عرفته البحار على نحو ما كنت - وكيف؟

- كنت أثبتُ قدميّ في الماء بصورة لا تختلف عمن يثبت قدميه فوق الجبال، وكان من المستحيل أن أتزحزح ولو صارعني أمهر السابحين، فأين الماضي الجميل لعهد فتوّتي وشبابي؟ أنا اليوم أزور الشاطئ زيارة الطيف، وكل ماضيّ فيه أنني أنقذت من الغرق جماعة فيهم فلان، وهو مخلوق لا يؤذيه أن يُذكر فضلي عليه وبعض الناس يكربهم الوفاء!

- وبمثل هذه الخواطر تزور هذا الشاطئ؟

- ينبغي أن أقول كلاماً من هذا الطراز، لينسى الناس أنني قلت فيه:

رعاه الحب من شطٍّ جميل ... خفيف الروح مصقولٍ أنيقِِ

بهيّ الرمل تحسبهُ سُجُوفا ... مطرَّزةً بحبات العقيق

أطوف به فيغلبني خشوعي ... كأني طفت بالبيت العتيق

- هذه شيطنة الشعراء!

- وماذا يصنع الملائكة لو طافوا بهذه الشواطئ؟ هل ينسون أن الله هو الذي جمَّل هذه الخلائق؟ هل ينسون أن أعظم نعمة من نِعم الله هي نعمة الجمال الوهّاج؟ هذه الشواطئ كنوزٌ أتحف الله بها هذه البلاد، فلنشكر لله هذه التحفة الغالية، ولنسأله أن يجعل أيامنا مواسم لشيطنة الشعراء

ثم انتقل الحوار إلى مسائل سأعود إليها بالتفصيل بعد حين

تمثال سعد باشا

أعجب ما يقع في مصر أن يفاجأ الجمهور بأشياء لم يؤخذ فيها الرأي، كالذي وقع في تمثال سعد باشا زغلول، وإلا فمن يذكر أن تمثال سعد أُخذت فيه الآراء قبل أن يقام في القاهرة والإسكندرية على ذلك الوضع الغريب؟

قاعدة التمثال يعاب عليها ما يعاب على قاعدة التمثال القائم بميدان باب الحديد، فهي مرتفعة بطريقة لا تخلو من عُنُجهية

والتمثال نفسه سيئ التعيير في أكثر نواحيه، فعزيمة سعد باشا تتمثل في يده الشمال، وقد أُرخيتْ يمناه بصورة لا تليق

وهنالك لوحة جانبية تَفْرض على سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أن يقدموا مطالب الأمة إلى رجلٍ قاعد وهم وقوف، فهل كان السير وِنجتْ قاعداً وهو يستقبل أولئك الرجال؟

وفي هذه اللوحة يقف عبد العزيز فهمي وقفة غير مقبولة، فما الموجب لذلك؟

وهنالك لوحة ثانية جانبية حُمِل فيها سعد على أعناق مريديه، وقد برز نعلاه بروزاً يأباه الذوق

أعيدوا النظر فيما رُسِم على جوانب ذلك التمثال

منارة أبي العباس

قلت مرةً إن منارة أبي العباس المُرسى ستشهد بإسلام الإسكندرية حين تنار بعد الحرب، وستكون على الشاطئ المصري نظيرةً لبُرج (نوتردام دي لاجارد) على الشاطئ الفرنسي. والتنافس بين الإسلام والنصرانية سيمتد إلى آخر الزمان

واليوم أذكر أن سعادة الأستاذ عبد الهادي الجندي باشا أسدى خدمة جليلة إلى الإسكندرية الإسلامية قبل أن يترك وزارة الاوقاف، فقد كلَّف الأستاذ حسن السندوبي تأليف كتاب تُفصَّل فيه أخبار أبي العباس وأخبار مريديه من الصوفية، ليوزع على المصلين يوم يتفضل جلالة الملك بافتتاح ذلك المسجد البهيج

فما مصير ذلك الكتاب، وقد راعني ما فيه من تفاصيل؟

أيُهْمَل باستقالة الوزير الذي أشار بأن يؤلَّف؟ أيوضَع عليه اسمٌ جديد إن كُتبَ له البعث من مَرقَد وزارة الأوقاف؟

إن معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق في غِنىً عمن يُذكِّره بأن الإسكندرية الإسلامية منسية في عالم التأليف، فليس من الكثير أن يذاع كتابٌ يؤرخ عهداً يفوق في الروحانية عهود اليونان والرومان، وهو أيضاً في غِنىً عمن يذكره بأن إسلام الإسكندرية ينتظر الإحياء

عهود ومواثيق

لم أسمح لنفسي يوماً بالراحة باسم المرض، ولم أَشْكُ لغير الله ما يعتريني من التعب في بعض الأحايين، فكيف جاز أن أفكر في الرجوع إلى القاهرة قبل أن أقضي في الإسكندرية لحظات بين هدير البحر وظلام الليل؟

وماذا يقول أبنائي حين أرجع إليهم بعد يوم وأنا مكروب؟

بيني وبين الله عهود ومواثيق، والعهد بيني وبينه أن أقضي العمر ساجعاً فوق ما أبدع من أفنان الجمال، فأنا واثقٌ بأن العافية لن تضيع من يدي، وهل يُرضي الله أن أسجع سجع الجريح؟

سأفارق الإسكندرية حزيناً هذه المرة، وسأجد في أصدقائي بها من يعتذر عني، فما عندي بسمات ولا ضحكات ألقاهم بها لقاء الحبيب للمحبوب

سنلتقي حتما يا أحبائي، وسنلهو معاً بمصارعة الأمواج، وسنُسِرُّ أحاديث تُصغي إليها ضمائر السماء، فمن المستحيل أن ينفصم ما بيني وبين الله من عهود ومواثيق

زكي مبارك