مجلة الرسالة/العدد 519/الإجماع وثبوت العقيدة
مجلة الرسالة/العدد 519/الإجماع وثبوت العقيدة
للأستاذ محمود شلتوت
آراء العلماء في الإجماع: حقيقته وحجيته وما يكون فيه - شيوع حكاية الإجماع في المسائل الخلافية وسببه - الإجماع عند المحققين - تطبيق
نظرنا - على ضوء المبادئ العامة لثبوت العقيدة - نظرتين في الآيات والأحاديث التي زعموا أنها تدل دلالة قاطعة على حياة عيسى الآن ونزوله آخر الزمان، وبينا مدى ما تفيده الآيات والأحاديث في ذلك، وبقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام
ويحسن بنا - جريا على ما اتبعناه في هذه البحوث - أن نقدم للقراء العلميين مقدمة إجمالية تصور لهم موقف العلماء من الإجماع: حقيقته، وحجيته، وما يكون فيه من أحكام، ثم نتبع ذلك بما نريد من إبطال زعمهم الذي يزعمون
إني لا أكاد أعرف شيئاً اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام، ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته كهذا الأصل الذي يسمونه (الإجماع)
فقد اختلفوا في حقيقته: فمنهم من رأى أنه (اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد ﷺ في عصر من العصور على حكم شرعي)، ومنهم من رأى أنه (اتفاق أكثر المجتهدين فحسب) ومنهم من ذهب إلى أنه اتفاق طائفة معينة) فلا يعد اتفاق غيرها إجماعا. ثم اختلف هؤلاء في هذه الطائفة مَنْ هي؟ فقيل (الصحابة) وقيل (أهل المدينة) وقيل (أهل البيت) وقيل (الشيخان: أبو بكر وعمر) وقيل (الأئمة الأربعة) الخ
واختلف الذين قالوا بالجميع: هل الإجماع بهذا المعنى ممكن متصور الوقوع، أو هو غير ممكن لأن الاجتهاد ليس له مقياس بارز متفق عليه بين العلماء، ولأن المجتهدين غير محصورين في بلد واحد أو إقليم واحد؟
واختلف الذين قالوا بإمكانه وتصور وقوعه: هل يمكن معرفته والاطلاع عليه أو لا؟ وممن روى عنه المنع الإمام أحمد رضي الله عنه إذ يقول في إحدى روايتين عنه: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب
واختلف الذين قالوا بإمكان معرفته والاطلاع عليه: هل هو حجة شرعية فيجب العمل به على كل مسلم أو ليس حجة شرعية فلا يجب العمل به؟
واختلف الذين قالوا إنه حجة شرعية: هل ثبتت حجيته بدليل قطعي يكفر مُنكره، أو بدليل ظني فلا يكفر؟ وهل يشترط في وجوب العمل به أن ينقل إلينا بالتواتر أو يكفي أن ينقل ولو بالآحاد؟ وهل يشترط أن يبلغ المجمعون عدد التواتر أو لا يشترط؟ وهل يشترط أن يصرح الجميع بالحكم مشافهة أو كتابة، أو لا يشترط فيكفي تصريح بعضهم وسماع الباقين مع سكوتهم؟. . . الخ
وكما اختلفوا في حقيقته وفي حجيته اختلفوا فيما يكون فيه من أحكام: فقال قوم: إنه حجة في العلميات والعمليات جميعاً. وقال غيرهم: إنه حجة في العمليات فقط. ومن ذلك كله يتبين أن حجية الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلاً عن أن يكون الحكم الذي يثبت به معلوماً بدليل قطعي فيكفر منكره
ولعل اختلاف العلماء في الإجماع على هذا النحو يفسر لنا ظاهرة منتشرة في كتب القوم وهي حكاية الإجماع في كثير من المسائل التي ثبت أنها محل خلاف بين العلماء، وذلك من جهة أن كل من حكي الإجماع في مسألة هي محل خلاف قد بنى حكايته على ما يفهمه هو أو يفهمه إمامه أو الطائفة التي ينتمي إليها في معنى الإجماع وما يكفي لتحققه
وعلى الرغم من ظهور السبب في تلك الظاهرة قد تأثر بها كثير من المتأخرين فخضعوا لها، وتوسعوا فيها تأييداً لآرائهم في المسائل الخلافية: فتجدهم في علم الفروع يحكون الإجماع على إلزام الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وعلى تحريم لحم الخيل، وعلى حل أكل الضب، وغير ذلك. وتجدهم في علم أصول الأحكام يحكون الإجماع على العمل بخبر الواحد، وعلى تقديم الإجماع على النص عند التعارض، وعلى العمل بالقياس. وتجدهم في علم الكلام يحكون الإجماع على رؤية الله بالأبصار، وعلى ظهور المهدي والدجال ونزول عيسى، وما إلى ذلك من المسائل العلمية والعملية التي ثبت فيها الخلاف ولم تكن محل قطع وإجماع. ولقد كان في وسعهم أن يقيدوا ذلك بالإجماع الطائفي أو المذهبي ولكنهم قصدوا أن يرسلوا كلمة الإجماع ليسجلوا على المخالف لوازمها الشائعة بين الناس: من مخالفة سبيل المؤمنين، ومشاقة الله ورسوله، وخرق اتفاق الأمة، إلى غير ذلك مما يتحرجه المسلم ويخشى أن يعرف به عند العامة. وكثيراً ما نراهم يردفون حكايتهم للإجماع بقولهم: (ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج) أو (بمخالفة أهل البدع والأهواء) أو (بمخالفة المعتزلة والجهمية) ونحو ذلك مما يخيفون به، وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ضناً بسمعتهم الدينية، فوقف العلماء، وحرمت العقول لذة البحث، وحيل بين الأمة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية. ونحن معشر الأزهريين لا ننسى شيوع القول بحرمة الاشتغال بالعلوم الرياضية والكونية والحكم بالزندقة والإلحاد على من شذ فتعلمها أو أباح تعلمها!
وفي مثل هؤلاء الذين يحكون الإجماع في مواضع الخلاف يقول ابن حزم: (ويكفي في فساد ذلك أنا نجدهم يتركون في كثير من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع، وإنما نحوا إلى تسميته إجماعاً عناداً منهم وشغباً عند اضطرار الحجة والبراهين إلى ترك اختياراتهم الفاسدة)
وقد كشف جهابذة العلماء عن حقيقة الإجماع التي تسمو عن الخلاف والتي هي حجة ملزمة عند الجميع؛ قال الشافعي: (ولست أقول، ولا واحد من أهل العلم: هذا مجمع عليه، إلا لما لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع ركعات وكتحريم الخمر وما أشبه هذا). وقال ابن حزم: (وصفة الإجماع هو ما تُيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهراً طويلاً ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت موقعة صفين والحرة وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة)
ولا يخفى أن معنى ما ذكره الشافعي وابن حزم أن الإجماع لا يكون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم به هو التواتر الذي يفيد قطعية الورود وانتفاء الريب، فهذا هو الإجماع الذي تتم به الحجة ولا يصح أن يخالف، ولا ريب أن العمل في مثل هذا لا يكون عملاً بالإجماع من حيث هو إجماع وإنما هو عمل بما تلقته الكافة عن الكافة مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه لم يكن إلا أثراً من آثار الثبوت على هذا الوجه فلا يكون مصدراً له ولا أصلاً في ثبوته
ومن هنا قرر العلماء أن منكر حجية الإجماع لا يكفر في حين أنهم حكموا بالكفر على من أنكر المجمع عليه
هذا وقد رأى بعض الباحثين أن الإجماع الذي كان يرجع إليه ويجرى على الألسنة في الصدر الأول حيث لا نص هو إجماع بمعنى آخر غير هذا الإجماع الذي اصطلح عليه الأصوليون واشتهر بين الناس أنه حجة شرعية، واعتمدت عليه عصور التقليد في سد باب الاجتهاد، وعصور التعصب في الرمي بالتضليل والتفسيق والخروج عن سبيل المؤمنين. ونرجو أن تهيأ لنا فرصة قريبة نشرح بها نظرية هؤلاء الباحثين ونبين ما لها من الآثار الطيبة المباركة على الشريعة وعلى الأمة الإسلامية
نعود بعد هذا إلى موضوعنا فنقول: إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا: (إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد ﷺ لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ القطعية والظنية في الورود والدلالة، وقد سلف بيان ذلك في موضوع (السنة وثبوت العقيدة)
وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول: إن نزول عيسى قد استقر فيه الخلاف قديماً وحديثاً:
أما قديماً فقد نص على ذلك ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) حيث يقول: (واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد ﷺ ولا بعده أبداً، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام: أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى بن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه السلام) كما نص عليه أيضاً القاضي عياض في شرح مسلم، والسعد في شرح المقاصد، وقد سقنا عبارته في البحث السابق وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!
وأما حديثاً فقد قرر ذلك كل من الأستاذين المغفور لهما: الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا، وفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي:
فالشيخ عبده رضي الله عنه يذكر وهو بصدد تفسير آية آل عمران (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) (أن للعلماء هنا طريقتين: إحداهما وهي المشهورة أنه رفع بجسمه حيَّاً وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى. . . والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح. . . الخ) ثم يذكر (أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجين: أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما تأويل النزول) بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد
وقد ورد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال من (تونس) وفيه (ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من روحه؟ وما قولكم في الآية (إني متوفيك ورافعك). وإن كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنة الله في خلقه؟) فأجابه السيد رشيد إجابة مفصلة عما سأل عنه نقتطف منها ما يأتي:
قال بعد أن عرض للآيات وآراء المفسرين فيها (وجملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين) ثم تكلم عن الأحاديث وقال: (إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء)
أما فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمناسبة السؤال الذي رفع إلى فضيلته وكان سبباً في فتوانا، إجابة جاء فيها: (ليس في القرآن الكريم نص صريح قاطع على أن عيسى عليه السلام رفع بجسمه وروحه، وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا) الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه السلام: (ورفعناه مكاناً عليا) وهذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء المسلمين فهو عند هؤلاء توفاه الله وفاة عادية ثم رفع درجاته عنده فهو حي حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجسمه وروحه فهو حي الآن بجسمه وروحه، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوِّغ تفسير القرآن بها) ثم قال فضيلته: (لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة، والعقيدة لا تجب إلا بنص من القرآن أو بحديث متواتر) ثم قال: وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه السلام حي بجسمه وروحه، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافراً في نظر الشريعة الإسلامية)
هذه نصوص صريحة يقرر بها هؤلاء العلماء قديماً وحديثاً أن مسألة عيسى مسألة خلافية، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه السلام موتاً عادياً، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تثبت عقيدة وهي مع هذا تحتمل التأويل، وأنه لا تكفير لمسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع؟
ولعلنا، يعد إظهار فتوى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، نستريح من لغط بعض العلماء الرسميين الذين عرف عنهم أن تمسكهم بالرأي وما يزعمون أنه دين ليس إلا بمقدار جهلهم برأي فضيلته (وهو شيخ الجامع الأزهر) فإذا ما عرفوا رأيه وهو شيخ الجامع الأزهر خلعوا أنفسهم من ربقة رأيهم الأول وسارعوا إلى اعتناق رأيه بل تسابقوا في توجيهه وتأييده (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعلمون محيطا)
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء
حاشية: لعل الأستاذ الفاضل (دسوقي إبراهيم) قد وجد في
بحثنا السابق (السنة وثبوت العقيدة) وفي بحثنا هذا جواب ما
سألنا عنه في بريد الرسالة بالعدد الماضي، وله منا الشكر
والتحية.