مجلة الرسالة/العدد 519/لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 519/لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

مجلة الرسالة - العدد 519
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1943


1 - المسرح في أوربا

بين حربين

للأستاذ دريني خشبة

(تحيتي وشكري للأستاذ الصديق زكي طليمات أحد الذين

تدخرهم مصر لنهضتها المسرحية)

لم تمض سنوات قلائل بعد إذ وضعت الحرب الكبرى أوزارها حتى أخذ النقاد المسرحيون - ولا سيما في أمريكا - يتلفتون حولهم، ويتساءلون ماذا أصاب المسرح بعد الذي أصاب العالم من تقتيل وتخريب؟ وقد ذهب كثير من النقاد الأمريكيين إلى أوربا يجوبون أطرافها ويدرسون أحوال المسرح فيها، مارين بإنجلترا بادئ الأمر، حيث هالهم ما أصاب المسرح الإنجليزي من الانتكاس المؤلم، وما عراه من الشعبذات التي لم تكن قط مما يروج في سوقه، أو ينفق في ناديه. . . ثم ذهبوا بعد ذلك إلى فرنسا ثم إلى إيطاليا، فإلى بلجيكا، فإلى ألمانيا وروسيا. . . ثم عادوا أدراجهم إلى أمريكا ليكتبوا، ولينقدوا المسرح الأوربي، ولينشروا في ذلك المؤلفات القيمة وغير القيمة، ثم ليثنوا على هذا المسرح، وليقدحوا في ذاك، مما أوجد في أوربا رد فعل عظيم أرهف الآذان وفتح الأعين، وكان سبباً في حركة إصلاحية مباركة تضافرت جميع القوى في القيام بها بالاشتراك بين الهيئات الحرة وجهات الاختصاص الحكومية

ولقد كان الناقدان الأمريكيان: كِنثْ ماك جَوَانْ - و - روبرت إدموند جونس في مقدمة الذين ألفوا في هذا الموضوع، إذ أصدرا كتابهما الفذ المسمى: (البراعة الأوربية في الإخراج المسرحي - صرحا فيه بانحطاط المسرح الإنجليزي وتخلفه عن المسرح في القارة الأوربية واضطرارهما إلى تجنب الكلام عنه وتناول الإخراج فيه تبعاً لذلك في حين أنهما أثنيا الثناء العطر على المسرح الأوربي فيما عدا إنجلترا من الممالك الأخرى. وقد جاء إلى أوربا ناقد أمريكي آخر هو الأستاذ ستارك يونج فجاب معظم ممالكها، متفقداً حالة المسرح في كل منها، ثم عاد ليكتب فصوله البارعة في مجلة أمريكا الشمالية وه الفصول التي أقامت إنجلترا وأقعدتها لما صرح فيها بمثل ما صرح به الناقدان الأسبقان من مر القول عن المسرح الإنجليزي الذي انحط بكل عناصره جمهوراً وروايات وإخراجاً وغرضاً، عن سائر المسارح في أوربا. وقد انبرى للرد على هؤلاء النقاد الأمريكيين عدة كتاب من المشتغلين بالمسرح الإنجليزي وفي مقدمتهم الأستاذ جون ألف كتابه جمع فيه ما ألقاه من المحاضرات عن المسرح الإنجليزي في إنجلترا رداً على المستر ستارك يونج وأضرابه، ودفاعاً عن المسرح الإنجليزي وتاريخه العتيد. والذي حدا بنا إلى الاهتمام بما كتبه المستر أرفن هو انطباقه على المسرح المصري انطباقاً يوشك أن يكون كاملاً مع أنه ألقى محاضراته سنة 1923 ونشرها في كتابه سنة 1924 وقد تكلم فيه عن:

1 - المسرح الإنجليزي والمسرح الأوربي إجمالاً

2 - جمهور النظارة من الإنجليز

3 - انحطاط الدرامة الإنجليزية بعد الحرب الكبرى وتعليل ذلك

4 - المسارح التجارية واضطرارها إلى النزول إلى مستوى الجماهير، وعدم محاولتها إطلاقاً أن ترتفع بهم حتى لا يختل ميزانها الاقتصادي

5 - نتائج الحرب الكبرى الاقتصادية والأخلاقية والفنية وأثر ذلك في المؤلف والنظارة، ومديري المسارح والإنتاج المسرحي وفي الذوق العام للشعب الإنجليزي

6 - موازنات طريفة بين الذوق الزراعي والذوق الصناعي والثقافة الزراعية والثقافة العمالية. . . أي بين الريف والمدن

7 - تطبيق هذه الموازنات على إنجلترا في عصر إليزابث وإنجلترا في القرن التاسع عشر إلى اليوم

8 - العوامل التي تتحكم في حياة المسرح بعد الحرب الكبرى غير العوامل التي أنتجت العبقريات الخالدة في عصر إليزابث

9 - نفقات الإخراج وإيجار المسارح وأجور الممثلين وأثمان الملابس والمناظر والإضاءة والدرامات مما يبهظ عاتق المديرين ويضطرهم إلى اعتبار العامل الاقتصادي قبل أي اعتبار فني آخر

10 - واجب الحكومة، وواجب الشعب، وواجب الفرق التمثيلية.

وقد تناول الكلام عن مئات من الأسباب والنتائج غير هذه القضايا العشر حيث عرض الموضوع عرضاً عادلاً ووفاه حقه من البحث بطريقة تبدأ في نظر القارئ خطأ في خطأ، وشروداً عجيباً عن الموضوع الذي زعم لنا أنه بسبيله، ثم لا يفتأ أن يدخل بنا في الحقائق التي مهد لها بالمقدمات التي وهمنا أنها شاردة، فإذا هي تبدهنا، وإذا نحن منها في النور الساطع.

1 - ولقد تناول المستر أرفن تاريخ المسرح في أوربا قديماً وحديثاً، وقبل الحرب الكبرى ثم بعدها، فقرر ما سبق إلى تقريره مؤرخو الأدب المسرحي من ازدهار المسرح في الأمم التي تشتغل غالبية سكانها بالزراعة، حتى إذا بدأت هذه الغالبية تتحول إلى غالبية صناعية أخذت دورة الفلك تتبدل، وأخذ الانتكاس المسرحي يعمل عمله، ولا سيما في الأمم التي أخذت نفسها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالصناعات الكبيرة التي ترمي إلى سرعة الإنتاج وكثرته والتي تخصص من أجل ذلك الأيدي العاملة آلافاً آلافاً لصنع جزء من ألف جزء من السلعة بحيث يقضي العامل كل حياته وهو لا يدري من الصناعة شيئاً غير عمل رأس دبوس أو خرم سَمِّ الخياط (عين الإبرة) أو تلوين جزء خاص من صورة من صور الشوكولاته بالأزرق أو الأحمر، أو عملية بعينها من مئات العمليات في مصنع للنسيج أو الغزل، أو تركيب مسمار بعينه في مدفع يتركب من مئات الأجزاء في مصنع للأسلحة المختلفة. . . إلى آخر ما هنالك من أمثال هذه الصناعات المركبة. . . ويقيم المستر إرفن الدليل على أن أمة تشتغل الكثرة الساحقة من أبنائها في مثل هذه التفاهات هي بلا شك أمة من الأميين الفقراء في ثقافتهم، الفقراء في أمزجتهم، الفقراء في صحتهم، الفقراء في تقديرهم للحياة الفنية، الفقراء في مساكنهم التي يتراكم فوقها الدخان ويزيدها الضباب واكفهرار الجو المستديم بلاء على بلاء. . . أما الأمة التي تكون غالبية أفرادها من الزراع - كاليونان القديمة وإنجلترا في عصر إليزابث، وفرنسا في القرن الثامن عشر، وروسيا وإيطاليا. فهي أمة ذات مزاج رفيع وذوق سامٍ وتقدير متئد للفنون بكل أنواعها وإن كانت غالبية سكانها أميين كذلك، لأن الزارع الأمي أوسع ثقافة من غير شك من الصانع الذي شدا هذا اللون الفقير من ألوان التعليم الإجباري حتى إذا بلغ سنا معينة وابتلعه المصنع، لم يبق في رأسه شيء مما شداه في المدرسة، خصوصاً بعد أن يصبح عبداً للآلهة على النحو الذي أسلفنا. . . أما لماذا يكون الزارع الأمي أوسع ثقافة من مثل هذا الصانع، فذاك لأنه نشأ على حسن الملاحظة في الريف الزراعي الجميل، فهو لا يحبس نفسه في المصنع طول حياته ليثقب إبرة أو ليصنع رأس دبوس، بل هو ينطلق حراً في فردوسه الشاسع الواسع يشق الأرض بمحراثه، ثم يخططها بالسليقة تخطيطاً يعجز عنه الهندسيون، ثم يقسمها أحواضاً ليس فيها حوض أوسع من حوض، ثم هو يلاحظ خروج الشطء من البذر، ويعرف متى ينبغي سقي الزرع، ويقوم بالحصاد حين يأتي الزرع أُكله، فيبدأ الدرس. . . إلى آخر هذه السلسلة من الأعمال التي يلاحق بعضها بعضاً. . . ثم هو يربي الماشية ويتخذ من ألبانها صناعات مختلفة، كما يربي الشاء والخنازير ويعرف من طباع الطير ما لا يعرف أهل المدن، بله الصناع، ثم هو يستمتع في كل ذلك بالصحة الكاملة والحرية المطلقة، ولا يعيش في جنته عبداً لآلة نجعل الصناع بعد قليل قطعة منها لا قيمة لها لأنها ربما استطاعت الاستغناء بنفسها عنهم. . . وليس المسرح وحده هو الذي يرقى في الأمم الزراعية وينحط في الأمم الصناعية، بل سائر الفنون والآداب، فها هو ذا فن النحت في مصر القديمة واليونان القديمة، وهو ذا فن التصوير فيهما وفي إيطاليا، وهاهو ذا الشعر اليوناني القديم والشعر الروماني القديم. . . شعر فرجيل وهوراس وأوفيد وكاتولوس، وهاهي ذي الفلسفة اليونانية القديمة، وفلاسفة النهضة الأوربية الذين نشأوا في حمى الأستقراطيين الزراعيين. . . وهاهي ذي روائع الفن القديم التي لا يسمو إليها شيء من شوائه النحت الحديث أو التصوير الحديث. ثم هاهي ذي موسيقا القرنين السابع عشر والثامن عشر الزراعيين. . . تلك الموسيقى العلوية التي نشتفي بها ونسكن إليها في القرن العشرين. . .

ومن أجمل ما قرره المستر إرفن هو إقبال الشعوب ذوي الثقافات الزراعية على المأساة المسرحية في حين لا تقبل الشعوب الصناعية إلا على الملهاة. . . والملهاة الخفيفة المرحة التي ترتكز على الشعبذة والنكات الطائرة التي تحلقها المناسبات إن لم تقحم هي نفسها في تلك المناسبات إقحاماً. . . والعجيب أن تروج المأساة في العصور الذهبية للأمم، كعصر بركليس العتيد وعصر إليزابث البهي، حتى إذا أخذت الشيخوخة تحل محل الفتوة في حياة الأمة من الأمم، أخذت المأساة تنزل عن عرشها، متخلية عنه للملهاة الخفيفة الطائشة التي تنخذ مادة تهريجها من شخصيات العظماء والمصلحين. . . فقد ارتفع المسرح اليوناني إلى الذروة في أعظم فترة من فترات القوة في التاريخ اليوناني الحافل بالأمجاد، وكانت المأساة هي مادة ذلك المسرح في هذا العهد، فلما أخذت الروح اليونانية تفسد، وتسرب الضعف إلى روح الشعب، بدأت الملهاة تنتعش، وأخذ أرستوفان يكتب ملاهيه الساخرة، متخذاً من يوريبيدز فخر المأساة اليونانية، ثم من غيره من المصلحين، مادة لتهريجاته. . . أما في عصر إليزابث فقد كتب شيكسبير وبن جونسون وأضرابهما عدداً كبيراً من المآسي والملاهي، إلا أن الشعب أقبل إقبالاً منقطع النظير على المآسي ولم يقبل ذاك الإقبال على الملاهي، مع أنها كانت من الملاهي الجميلة العميقة التي ترتفع درجات فوق ملاهي أرستوفان. . . وقد علل إرفن ذلك بأن روح الشعب الزراعي أقوى من روح الشعب الصناعي، وأعصابه أقوى من أعصابه، فهو يستطيع أن يتفرج بالآلام ويصبر على مشاهدتها تمثل أمامه ويتسلى بذلك جميعاً كما يحلو له أن يتأسى أيضاً، ويشعر خلال ذلك بأضعاف اللذة التي يشعر بها المتفرج بالملهاة. . . أما الشعب الصناعي فهو مركب من كثرة منهوكة الأعصاب مختلة التوازن الفكري، ومن قلة من أصحاب المصانع والتجار رفعتها المضاربات فجأة فوق أكداس من الثروة الطائلة ومن أوساط عجماء عادة، إن صح هذا التعبير. . . فالكثرة تريد الترويح الخفيف عن أعصابها المتعبة، وذلك إنما يكون بالملهاة ذات البهرج الزائف من مناظر الرقص والافتنان في الشعبذة، والنكات التي تداعب الأسماع وتثير أعصاب الضحك، كما تثير حركات (البهلوان) أعصاب الضحك عند الأطفال. أما القلة من الأغنياء فهي فقيرة بثقافتها وأسلوب حياتها عن أن تسيغ المأساة؛ وهي تحمل عقلية وضيعة لا تسمو كثيراً فوق عقلية الكثرة من الصناع. ولذلك فهي تشاطرها ميولها وأهواءها

أما في فرنسا، فقد أوشك تاريخها في المائة سنة الأخيرة أن يكون حلقة متصلة من الحروب المستمرة، ولذلك أصبحت الأعصاب الفرنسية أكثر تأثراً وأشد نصباً من غيرها، ولذلك أيضاً أصبح لا يمثل على المسرح الفرنسي إلا نوع واحد من الدرامات المتشاكلة التي تتناول موضوع الحب غير الشرعي. ولعل إرفن نسي أن يعلل ذلك بكثرة الأزواج الذين فقدوا في حروب الثورة وحروب نابليون وحرب السبعين والحرب الكبرى، مما كان سبباً في كثرة الأرامل وكثرة العوانس وقلة الأزواج. . . هذا وإن يكن الإخراج في المسرح الفرنسي قد بلغ الأوج الذي لم يبلغه قط في أيٍ من مسارح العالم

أما في ألمانيا فقد ظهرت جماعة (التعبيريين) التي تدعو إلى أن تكون الدرامة من مناظر كثيرة متعددة، لا من فصول، كما أصبحت الحال في السينما، على أنه لا في ألمانيا ولا في روسيا كان المسرح أحسن حالاً منه في إنجلترا أو فرنسا فقد خرجت ألمانيا المهزومة من الحرب كما خرجت روسيا بروح جديدة ونظام من الحكم جديد حور مرافق الدولة جميعاً وأخضعها لأغراضه واستعان بكل شيء، ولا سيما بالمسرح، في تثبيت دعائمه والوصول إلى أهدافه. والاشتراكية في ذاتها تنكر الفنون والآداب كما تجحد الأديان والأخلاق، وذاك أنها لا تعترف إلا بالعلم، وهي تعتبر هذه الأشياء آخر ما يشغل العالم به نفسه. كما تفسرها على أنها ألوان من الخبز واللحم حتى أن الألمان ليقولون في أمثالهم (يكون الناس كما يأكلون!). والاشتراكية في إنكارها للفنون والآداب والأديان والأخلاق لا تغض من قيمتها، ولكنها تتركها في مؤخرة برنامجها لتأتي من نفسها طائعة مختارة كما يدعون، وعلى كل فلم تنتج النازية كما لم تنتج الشيوعية بطلاً من أبطال الدرامة أو المسرح يعتد به، ولعل هذا راجع إلى أنهما لم تسلخا في التجربة أكثر من ربع قرن بعد. وهاهي ذي تلك الحرب العالمية القائمة قد أخذت تحصد الأرواح الفينانة التي أبقت عليها الحرب السالفة، كما أخذت تضاعف آلام الإنسانية وأحزانها في كل مكان، ولم تتوحش هذه الحرب بعد كما توحشت في الأعوام الثلاثة الماضية بين النازية والشيوعية. أليس كل من النظامين إنما يؤمن بالعلم وحده ويريد أن تأتيه الفنون والآداب والأخلاق والأديان طائعة مختارة؟

(يتبع)

دريني خشبة