مجلة الرسالة/العدد 453/بين آدم وحواء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 453/بين آدم وحواء

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1942


حديث السدرة

للدكتور زكي مبارك

كانت حواء تعبت من عقل آدم، وكان آدم تعب من جهل حواء، وكان جو الخلاف ينذر بأن صاعقة ستنقض على رأسيهما بعد حين. . . ولذلك الخلاف المزعج تفاصيل في كلام شيث بن عربانوس، فما تلك التفاصيل؟

كانت الأوامر والنواهي ثقلت على آدم وحواء (لحكمة يعلمها الله) وكان آدم مع ذلك يدرع بالصبر الجميل، فيراعي الحدود بقدر ما يستطيع. أما حواء فكانت تتمرد من حين إلى حين، وان كان شيث يؤكد أن تمردها لم يكن في جوهره إلا فنا من فنون الدلال.

ويظهر من كلام شيث أن حواء لم تكن تدرك أن النعيم قد يزول بالعصيان، فما دار في خلدها أن في الوجود مكانا غير الفردوس ينفى إليه العصاة والمتمردون، ولا جاز في وهمها أن ينقل الإنسان من دار إلى دار بسبب الثورة على الأدب والذوق. وكيف تدرك حواء هذا المعنى وقد ولدت في جنة دانية القطوف، ولم تسمع بأخبار الأرض إلا بعد أن قضى الله في أمرها بما أراد؟

ويظهر أيضاً من كلام شيث أن آدم كان يخاف الله أشد الخوف، وكان يدرك بفطرته أن النعيم قد يزول بالعصيان، وأن لابد من تأديب حواء إن تمادت في الضلال.

كان آدم يفهم جيدا أن الله لا يتأذى بجهل الناس، وإنما يوقع العقاب بالجاهلين لخروجهم على نظام الوجود، وهو نظام يتأثر باليسير التافه من الانحراف، لأنه غاية في الدقة والترتيب، ولا يحتمل الثبات على الاعوجاج.

وكان آدم يقسم لئن رأى حواء ليذيقنها العذاب على ما اعتزمت من قرب شجرة التين؛ ولكنه كان يتخاذل حين تقبل عليه بجسمها الفينان، وثغرها الرشوف، فقد كانت ثناياها أحب إليه من حب الزمان، وكان قدها الرشيق نهاية ما يتصور من روعة الخطرات.

كان آدم يشعر بأن عزيمته تتحلل إلى أوهام حين يرى جسم حواء، وكان يعجب من أن يكون في الأوامر والنواهي ما يضع حدوداً لسيطرة تلك الضبية العصماء.

والظاهر أن الجسد الجميل يزيغ البصائر والعقول، وينقل الرجل من حال إلى أحوال، ويضيف الحليم إلى طوائف السفهاء، ولا عاصم للرجل من فتنة الجمال إلا إن حمته وقاية الله.

وكان قدّ حواء من القدود السمهرية، وكانت لها مشية تزلزل القلب والوجدان، وكان لها في الضوء لون وفي الظل لون، وكانت ظلال الأهداب توهم أن على خديها زغبا يشبه زغب الخوخ، وكان غضبها أحلى من الرضا وقطيعتها أطيب من الوصال، وكان تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر غريبة الغرائب في السحر والفتون.

وكان آدم أضعف من أن يقاوم حواء، فقد كان في فورة الشباب، والشباب جهل، وكان أعجز من أن يرجع على نفسه بالتأديب والتهذيب وهو يعاقر الجمال لأول عهده بالوجود، وأخطر الحب هو الحب الأول، ولكل آدم في الدنيا حواء

كان آدم يقسم ويقسم ثم يقسم لئن رأى حواء ليقطعنها إلى قطع صغيرة حقيرة ثم يقدمها إلى ما في أرباض الجنة من ثعالب وذئاب، جزاء بما تقترف من التفكير في قرب شجرة التين، ولكنه كان يصعق حين تشرف عليه بقدها المرهف وطرفها النشوان.

كان يبدأ بالزجر، ثم ينتقل إلى العتاب، ثم ينتهي بالاستسلام، وذلك مصير الغرماء لأمثال حواء

دعاها مرة إلى أحد الأدغال ليقتلها في خفية ويستريح، فحماها منه جسمها المجدول بأسلاك الكهرباء، فارتد وهو هائم حيران، وعرف أن الهوى فرض على من وهبه الله نعمة الشعور بعبقرية الجمال.

كان آدم رجلا وكانت حواء امرأة، وإذا تلاقى الرجل والمرأة فلا مجال لغير الغي والضلال، وقد غوى آدم بطاعة حواء فقضى الله في أمره بما سجل التاريخ.

جسد حواء صنع ما صنع. جسد حواء غفر جهل حواء جسد حواء فعل بآدم الأفاعيل، فزين له الخضوع لهواها الأثيم

كان آدم يضطرب ويرتعد، حين تختال أمامه حواء بقدها المؤلف من الأحلام والأهواء، وكان لا يعرف أين يضع قدميه وهي تساوره بعينين غافلتين عما تصنعان بقلبه المأخوذ، وعقله الموقوذ، وهل يبقى لمن يصارع الجمال قلب أو عقل؟

جسد حواء صنع بآدم ما صنع، ولكنه تماسك في إحدى اللحظات وقد جالسها تحت السدرة فدار بينه وبينها ما سجل شيث من هذه الأحاديث:

- أين كنت يا حواء؟

- وما أنت وهذا السؤال؟

- من حقي أن أسأل

- وليس من واجبي أن أجيب!

- إذن نفترق؟

- والى أين تذهب، وللجنة أسوار أمنع من الجبال؟

- السور الحصين هو أنت يا شقية، فإذا نجوت منك فقد نجوت من جميع المهالك والحتوف

- أنت تنجو مني يا آدم؟ أنت تنجو مني؟

(ونظرت إليه بعينين نجلاوين فخشع واستكان وهم بأشياء)

- كل ما فيك جميل يا حواء، إلا التفكير في قرب شجرة التين. . .

- والموت أهون من الصدوف عن شجرة التين

- هي محرمة بأمر الله

- وكيف وقد رأيت ظبية تعطو إلى أوراقها منذ لحظات بلا تهيب ولا تخوف ولا احتراس؟

- الظبية حيوان

- ونحن من الحيوان

- ولكن التكاليف تجعلنا أعظم من الحيوان

- وما قيمة التكاليف؟

- التكاليف لا توجه إلا إلى الحيوانات الراقية

- وأنت حيوان راق يا آدم؟

- لأني في صحبة حواء!

(هنا وقع اشتباك بين خلقتين فطريتين لم يؤهلهما التهذيب لمراعاة الأدب في النضال والصيال) - كان الظن أن تعرف ما نعاني من الظلم في الفردوس

- وماذا نعاني يا حواء؟

- نعاني الخضوع للأوامر والنواهي، وتلك أول مرة أفهم فيها المراد من وصف الله بأنه صاحب العزة والجبروت

- وهل يظلمنا الله يا حواء؟

- انعدام المساواة من صور الإجحاف

- أتريدين أن نكون أشباها لما في الجنة من طير وحيوان؟

- وما المانع من ذلك؟

- المانع أننا ارتقينا؛ وللرقي تكاليف

- وما حظنا من الرقي المقيد بواجبات وفروض؟

- هو حظ عظيم، يا حواء

- وكيف؟

- لأنه يجعل لنا إرادة ذاتية

- ومعنى ذلك إنه يبيحني أن أصارعك فأصرعك؟

(وتصارع آدم وحواء فانصرعت حواء)

- لا تنزعجي من الهزيمة، أيتها الشقية!

- أحب أن أعرف ماذا تأكل حتى صرت أقوى مني

- طعامنا واحد، ولكن الروح مختلف

- يظهر أنك تأكل من شجرة التين

- قوتي الحقيقية ترجع إلي الانتهاء عن أكل شجرة التين، وطاعة الله هي أعظم سلاح يتسلح به الرجال

- والنساء؟

- الطاعة قوة ينتفع بها جميع الخلائق، حتى الشجر والنبات

- نحن إذا خلقنا للمتاعب، فالطاعة لا تتم إلا بجهاد عنيف

- الجهاد الصادق رزق نفيس، يا حواء، ولا يكون إلا بتوفيق، فهو يستحق الشكران - أتريد أن أجاهد نفسي فأبتعد عن شجرة التين؟

- ليتك تفعلين!

- أسمع يا آدم، فعندي فتوى تنفعك

- أنت تفتين يا حواء؟!

- دع اللجاجة ثم اسمع. . . حدثتني الحية أن النهي عن شجرة التين نهي تنزيه لا نهي تحريم

- وإذن

- وإذن يجوز قرب الشجرة بلا تعرض لغضب الله، وإن تعرضنا للعتاب

- اسمعي يا حواء واعقلي. . . أنا لا أعرف الفرق بين نهى التنزيه ونهى التحريم. إنما أعرف أن الله نهى عن الشجرة، وأعرف أن الطاعة واجبة، وأنا أخشى عواقب العصيان

- قلت لك أن الحية حدثتني. . .

- أنت في نعيم يحتاج إلى حراسة، فاحترسي من الدسائس يا شقية!

- كل شئ جائز، إلا أن تكون في الجنة دسائس، فهذب كلامك يا آدم!

- الدسيسة لا تلاحق غير السعداء بالعيش الطيب والمواهب السامية. وستعرفين يا حواء صدق ما أقول إن استمعت كلام تلك الرقطاء

- قلت لك أن قرب الشجرة لن يعرضنا لغضب الله

- ولا يعرضنا للعتاب؟

- عواقب العتاب هينة، وهو في الأغلب يتوج بالأعتاب

- المهم في نظري أن نقف حيث وقفتنا الإرادة الربانية، بلا تخريج ولا تأويل، فكل خروج على الطاعة يترك في القلب حفرة، والحفرة قد تتحول إلى هاوية، وإذا تذوق المرء أو المرأة طعم الجموح فعلى الأخلاق العفاء

- أنا لا افهم معنى النهى عن شجرة التين، ولها ثمرة معسول

- من حق الله أن ينهى عن الطيبات

- لأي غرض؟

- ليختبر قدرتنا على ضبط النفس، فلا قيمة لترك الأشياء الكريهة، وإنما القيمة في ترك الأشياء الشهية حين يوجه إليها النهي، ولو عن طريق التنزيه، كما أفتت الحية الباغية

- لا تذكر الحية بسوء أن تكون للمرأة صديقات!

- هل يغيظك أن يكون لي في الجنة رفيقة اسكن إليها من وقت إلى وقت؟ أنت إذن لا تحبني

- احبك حباً لا يطاق، ولهذا الحب عواقب ستعملين أنباءها بعد حين!

- قبلني أن كنت تحبني

- ستقبلك الحية فهي أقرب إليك مني!

(وفي تلك اللحظة سمع فحيح هو دعوة الحية فجرت إليها حواء، وتركت آدم لمصارعة ما في صدره من آراء وأهواء)

فماذا قال آدم لضميره وهو يحاوره تحت السدرة بعد انصراف حواء؟

من كلام شيث نفهم أن آدم زلزل بعد ذلك الحوار، فقد تأهبت نفسه لمناقشة الأوامر والنواهي، وصح عنده أن لكل مسالة وجهين، وان من حقه كمخلوق مفكر أن يدرس ما يعرض لذهنه من حقائق وأباطيل

بدا له أولاً أن الطاعة أفضل، وأن الهيام بالتخريج والتأويل قد يكون من نزغات الشياطين؛ ثم رجع فرجح أن النهي قد يكون ضرباً من الإغراء، فليس بمعقول أن تكون ثمرة التين من الخبائث وهي فيما يظهر طيبة المذاق.

والتفت مرة ثالثة فرأى من الحمق أن يخالف الرجل عن أمر الله من أجل امرأة

ثم عاد فرأى أن تلك المرأة هي رفيقه الأول والأخير في الفردوس، فما ارتاحت نفسه لرؤية الأشجار والأزهار إلا وهو مأهول الروح بهوى حواء

هي امرأة لا تخلو من هوج وطيش وسخف، ولكنها من ذوات المعاني، فقد كانت تعرف كيف تصيره جذوة من الصبوة حين تشاء، وكان آدم لا يتمتع بإشراق الفكر إلا في لحظات الصبوات.

ومن عجيب أمره أنه كان يتمثلها حين تغيب، فقد كانت ذاكرته تعي الأصوات والألوان والحركات إلى الحد الذي يسمح بأن يعانق حواء وبينه وبينها فراسخ وأميال

ولكن. . . ولكن الله نهاه عن الشجرة، فماذا يصنع؟ توجه إلى الله بهذا الدعاء:

(يا خالق الكوثر، ويا فاطر الأعناب والنخيل، بك استجير ُظلم الجمال!

يا مبدع العيون الكحيلة، والخدود الاسيلة، بك استغيث من سحر الفتون!

أنت سويتني بيديك من جسد وروح، وأنا بالروح أطيعك وبالجسد أعصيك، فهل ترى عدالتك أن الحسنات يذهبن السيئات؟

أن كنت ترى أن شجرة التين شجرة مسمومة فاصرف عنها حواء، فلم تعد لي طاقة على مقاومة حواء؛ ولطف صنعتك هو الذي جذبني إلى تلك الهوجاء.

وإن كنت ترى أن الهاوية تترقب من يعصيك فجرد حواء من سحرها الفتان لأملك من أمري ما لا أملك، لأستطيع الصبر عن ثغرها الرشوف، فأنت يا مولاي تعلم أني بها من الهائمين

أنا عبدك وحواء أمتك، فاقض في أمرنا بما تشاء، يا أحكم الحاكمين)

وانتظر أدم أن يغير الله ما بنفسه بعد هذا الدعاء الصادق، ولكن الأقدار سكتت عنه فظل مخلوقا من جسد وروح، أو من طين وماء

وفي لحطة من لحظات الضجر عزم على المعصية ليعرف مكانه من الوجود

في تلك اللحظة ظهرت حواء، فهتف:

- إلى شجرة التين، يا حواء!

- هل غيرت رأيك، يا آدم؟

- بعض الشيء!

- أنت إذن تحبني؟

- ومن أجل هذا الحب أتعرض لمكاره وخوب، فقلبي يحدثني بأننا مقبلون على بلاء!

- لا تحزن فأنا معك

- من موجبات الحزن انك معي، يا حمقاء!

فكيف انتهت بهما الأمور تحت شجرة التين؟

(للحديث شجون)

زكي مبارك