مجلة الرسالة/العدد 453/العادات والإصلاح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 453/العادات والإصلاح

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1942



كيف نعود إلى التشريع الإسلامي

للأستاذ محمد محمد المدني

يشعر كل امرئ منا بأنه خاضع في نفسه، وفي نظام بيئته، وفي دائرة عمله، وفي كل ناحية من نواحي حياته ونشاطه إلى عادات متنوعة تتحكم فيه، وتفرض عليه سلطانها الجبار وإرادتها القاهرة، وتطبعه بطابعها من حيث يريد أو لا يريد.

يشعر كل منا بذلك في نفسه، ويشعر به في الناس من حوله لا فرق فيه بين طبقة وطبقة، ولا بين بيئة وبيئة، ولا يختلف فيه غنى عن فقير، ولا كبير عن صغير، ولا متعلم عن جاهل.

في الطعام والشراب عادات، وفي اللباس والزي عادات، وفي الجلوس إلى الناس والتحدث معهم عادات، وفي البيت عادات، وفي الطريق عادات. . . وهكذا

وإننا لننتهز فرص الأيام والحوادث، والأعياد والمواسم فنتخذ منها مناسبات لعادات شتى نحافظ عليها ولا نتسامح فيها، وربما عددناها من شعائرنا، وحسبناها من تقاليد ديننا!

هذه فطرة في الإنسان لا بد له منها بقطع النظر عن شريف العادات وذميمها. قضت بذلك حكمة العليم الخبير، ليكون الاستقرار والهدوء، ولتتركز شؤون الحياة، ولينجو الناس من الاضطراب والمفاجآت وأخطار التقلب السريع والتطوير العنيف لذلك يجب أن يدخل في حساب كل مصلح ما للعادات من سلطان على النفوس، ورسوخ في الأذهان، واستقرار في المجتمع ولكن بجانب هذه الفطرة في الإنسان طبيعة أخرى هي طبيعة هذه الحياة نفسها، أن الحياة تأبى الركود، ولا يصلح معها الجمود، ولا بد لمن في سبيل الرقي والكمال؛ فإذا ظل الإنسان عبدا لعاداته، رازحا تحت سلطانها، لا يفكر في التحول عن نظامها المفروض قيد شعرة، بل ينقد غيره ويعنف عليه في النقد إذا رآه يفكر في التحويل أو يدعو إليه، ويقف في سبيل دعوات الإصلاح والتجديد لاوياً عنقه، مثيراً المشاكل، فإنه يكون محتقرا لإنسانيته ملغيا لعقله جاهلاً بالحياة وما ينبغي للحياة!

وإذا أصرت طائفة من الناس على أن نصادر دعوات الإصلاح في دائرتها، أو على أن تقف في طريق الحياة العاملة الناصبة المنتجة المجددة في غير دائرتها لمجرد المحافظة على العادات والتقاليد الموروثة، فقد عرضت نفسها لعوامل الانحلال والفناء.

هي إذن معركة حامية الوطيس بين طبيعتين متقابلتين: طبيعة الخضوع للعادات والتأثر بسلطانها، وطبيعة الحياة التي تطلب إلى كل حي أن يسايرها ويتدرج معها، ولا بد من تدخل العقل للفصل في هذه المعركة ووضع علاج يوجد به التوازن بين هاتين القوتين الضروريتين للإنسان. لا بد أن نزن كل شيء بميزان العقل، وان نسترشد بنور هداه في كل طريق نسلكه، وأن ننزل على حكمة راضين غير متبرمين

في كل أمة دعاة إلى الإصلاح يقفون منها موقف المرشد الناصح، ويعكفون على مشاكلها ليضعوا لها الحلول، وعلى أمراضها ليصفوا لها العلاج

وكثيرا ما يقع بين الناس وبين هؤلاء الدعاة المنادين بمبادئ الإصلاح خلاف، وقد يؤدي هذا الخلاف إلى إثارة المتاعب ووضع العقبات في طريقهم، بل قد يؤدي إلى التشكك في نياتهم وأغراضهم وانصراف النفوس عن دعوتهم. ولست أرى في ذلك شذوذاً، وإنما هو شيء طبيعي، لأن المصلح الداعي إلى الخير يحاول أن يلفت الناس عما ألفوا. يحاول أن ينتزعهم من أحضان عادات حبيبة إلى نفوسهم، عزيزة عليهم. يحاول أن يصادر الأهواء والنزعات وشهوات النفوس، فلا عجب أن تكون دعواته ثقيلة على الأسماع، كثيرة الخصوم والمستهزئين.

وقديما جاء محمد رسول الله إلى العرب بدين العقل والفطرة والسيادة والعزم والكرامة الإنسانية، فقاوموه ووقفوا في سبيل دعوته استكبارا أن يتركوا ما ألفوا، أو ينخلعوا مما ورثوا، وقالوا: أنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون! ولم يقفوا عند هذا الحد بل زعموا انهم لا يدركون ما يقول، وان قلوبهم في أكنة مما يدعو إليه، بل رموه بالكذب والافتراء وهم الذين لقبوه من قبل بالصادق الأمين؛ ورموه بالجنون وهم يعلمون أنه أقواهم عقلاً وأعظمهم رشادا.

هكذا قابل الناس دعوة سيد المصلحين، وبمثل هذه الدعاوي والتهم واجهوه. والتاريخ يحدثنا عن كل مصلح بمثل ما حدثنا به عنه، فكم شرد المصلحون وعذبوا، وكم أوذوا واضطهدوا، وكم قذفوا بالتهم، ودبرت لهم المؤامرات، وحيكت من حولهم الاكاذيب، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين.

لا بد لدعاة الإصلاح إذن من الصبر وتحمل المشاق، ولكن هذا وحده لا يكفي، لا بد إلى جانبه من اللباقة وحسن التصرف وتقدير الظروف والأحوال حق قدرها؛ وإنما يكون ذلك بالتدرج دون الطفرة. لقد تدرج القرآن بالمسلمين من قبل، فكان ينزل أولاً في بيان العقيدة والاستدلال عليها؛ وكان ينزل بمكارم الأخلاق؛ وكان ينزل في الزراية على العادات الذميمة. ثم جعل - بعد أن استقرت الدعوة - ينزل بتشريع الأحكام شيئاً فشيئاً، حتى أن قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، لم ينزل إلا في العام الذي توفى فيه رسول الله ، فهو لم يفاجئهم بالدين كاملا قد استوفى جميع مبادئه وأحكامه، ولو فاجأهم بذلك لفشلت دعوته، وقل أنصاره وحماته!

لقد تناولت هذا المعنى في مقال لي قبل اليوم، وإنما أسوقه الآن ليتخذ منه المصلحون عبرة وليعرفوا ما فيه من موضع الأسوة الحسنة، فيتدرجوا بالأمة كما تدرج القرآن

لقد بدأ هذا الدين غريبا، وهاهو ذا يعود غريبا كما بدأ: أصبحت تقاليدنا غير تقاليد الإسلام، وأخلاقنا غير أخلاق الإسلام، وأحكامنا غير أحكام الإسلام، وقوانيننا غير قوانين الإسلام. أصبحنا نحرص على العادات التي ورثناها عن الآباء والأجداد أكثر من حرصنا على الدين. وإن أحدنا ليثور ويتألم إذا حاول محاول أن يصادره في عادة من عاداته، ولا يثور إذا اعتدى معتد على دينه، زاعماً أن للدين ربا يحميه، وما يريد بذلك إلا تبرير سكوته على العدوان وإيثاره للسلامة!

عندما أبطلت عادة الاحتفال بالمحمل انقطعت العلاقة بيننا وبين حكومة الحجاز، وظل حكامنا ووزراؤنا معنيين بهذا الشأن في كل مفاوضة لإعادة هذه العلاقة، حتى إذا نجح وزير من وزرائنا في إعادة الاحتفال بالمحمل وإرسال الكسوة عددنا ذلك ظفراً بتبادل الناس التهنئات بالتوفيق إليه، ولكننا مع هذه الغيرة الشديدة على تقليد من تقاليدنا نرضى بهذه التشريعات المجلوبة، والأوضاع المقلوبة، والنظم المستعارة! نرضى بشرائع فرنسا وبلجيكا ونحن أمة القرآن!

يتساءل الناس: ماذا نصنع لكي نعود إلى أحضان الإسلام ونعمل لمبادئ الإسلام؟ ماذا نصنع ليعود التشريع الإسلامي مصدرا للقانون العام في مصر والشرق؟ ماذا نصنع لنستظل بلواء القرآن ونهتدي بهدى القرآن؟

والجواب في ذلك عند الذين بيدهم الحول والطول، ولهم الإشراف على مناصب التشريع والتنفيذ في البلاد: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريباً. يقولون: ماذا نصنع وقد أصبح للأمة نظام ثابت متركز، وقانون قد ألفه الناس، ووضع اقتصادي قد سرى إلى سائر معاملاتها ولن تستطيع التخلص منه؟ ماذا نصنع وقد ألفنا في الأحكام والقضاء والعقوبات نظاماً معيناً لا تسمح لنا المعاهدات والقيود الدولية بالخروج عنه؟

يقولون هذا، ويردون به دعوة الدعاة إلى هذه الشريعة، وهم يعلمون أن هذه الشريعة لا تجافي أصول المدنية الحديثة، ولا تنفر من مجاراة النهوض والتقدم، وأن مؤتمرات أوربا قد شهدت لها بذلك وسجلته في قراراتها، وأن ما لا يدرك بالطفرة يدرك بالتدرج وحسن التأتي.

لا نقول لكم: اقلبوا التشريع في البلاد رأسا على عقب، ولا نقول لكم فضوا الشركات والمصارف التي تتعامل بغير ما يقضي به الدين فيما بين يوم وليلة، ولا نقول لكم نفذوا ما جاءت به الشريعة الإسلامية في أحكام القضاء والعقوبات دفعة واحدة؛ وإنما نقول لكم تدرجوا بالأمة في سبيل العودة إلى أحكام الإسلام كما تدرج القرآن بالمسلمين من قبل: خذوا في كل قانون تضعونه منذ اليوم، وفي كل تعديل تقررونه، بمبادئ القرآن، ولا بأس من أن تؤجلوا ما لا تقدرون عليه حتى تعدوا النفوس له، وتقنعوا أنفسكم وتقنعوا الناس به. فإنكم إذا بدأتم السير في هذا الطريق تمهد أمامكم وتيسر لكم، ولم تصادموا به تعهدا من تعهداتكم!

(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟)

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة