مجلة الرسالة/العدد 409/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 409/البريد الأدبي
فقر الأنبياء
ليس الفقر عيباً، وإنما السكوت عن مقاومة الفقر هو العيب، فنحن
جميعاً مسؤولون عن محاربة ما يحيط بنا من متاعب معنوية وحسية،
ومن واجبنا جميعاً أن نطمع في الانتفاع بما في الوجود من ثمرات.
على شرط أن ننال ما ننال عن طريق الجهاد المحمود
وقد سأل الأديب (ح. ع. مطر) عن فقر الأنبياء وما يدل عليه من معانٍ على فرض ان الفقر يدل على ضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية.
وأجيب بأن الأنبياء رحبوا بالفقر طائعين، لتقل شواغلهم الدنيوية فيستطيعوا القيام عروض الهداية والتهذيب، وليكون في انصرافهم عما في الدنيا من منافع قطعٌ لألسنة من يروق لهم اتهام الأنبياء بحب المال، وهو اتهام يزعزع ثقة الجماهير ويروضها على التمرد والعصيان
والمعروف أن الناس في كل أرض يتزيدون على الزعماء والمصلحين ويجعلون طلب الدنيا من أكبر العيوب، فليس غريباً أن ينسلخ الأنبياء من المنافع الدنيوية ليصدوا من يعارضون باسم الغيرة على الأخلاق؛ كأن الأخلاق تكره أن يتزود المصلحون بثروة الرزق الحلال!
وفي طلب السلامة من أذى السفهاء قال الرسول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة) أو كما قال، فلست أملك الرجوع في هذه اللحظة إلى نص الحديث
والعدل يوجب أن يكون ما يترك الأنبياء ميراثاً حلالاً لأبنائهم، ولكن الحرص على قطع ألسنة المتزيدين هو الذي أوجب أن يحرم الأنبياء أبناءهم من ذلك الميراث، وذلك ظلم جميل
ومن نحن حتى نرحب بالفقر كما رحب به الأنبياء؟
أولئك رجال يأخذون زادهم من الإيمان واليقين قبل أن يأخذوه من الطعام والشراب، فمن أنس في نفسه القدرة على الظمأ والجوع لينقطع إلى مجاهدة النفس ومجاهدة الآثام الاجتماعية فهو أقرب منا جميعاً إلى التخلق بأخلاق الأنبياء
العصاميون
وقال قائل: كيف تهتم الفقراء بضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، ومن بين الفقراء نبغ العصاميون؟ وأجيب بأن العصاميين هم حجتي على أن الفقر داء له دواء. فالرجل العصامي يقيم الدليل على أن القوة الخلقية قد تقتلع ما يعترض طريق الرزق والمجد من حواجز وأسداد. والتاريخ يشهد بأن أكثر العظماء كانوا في البداية فقراء، فما تفسير هذا الذي يشهد به التاريخ؟
إنما كان ذلك لأن الفقير الموهوب تقوى عزيمته بفضل الاعتماد على الله وعلى النفس، ومثله في ذلك مثل من يعيش بلا عصبية تحميه، فهو يستعد للمقاومة في كل وقت، ومن ذلك الاستعداد يفوز بمناعة جسمية وروحية تصد عنه عدوان المعتدين فالذين يمنون الفقراء بأموال الأغنياء يقتلعون بذور العصامية من النفوس، ويعدون الجيل المقبل لأمراض أخفها الاعتماد على الغير، وهو بداية الخذلان
الإحسان إلى من يعجزون عن الارتزاق هو أوجب الواجبات، وهو الشاهد على اتصافنا بالكرم والجود، أما الإحسان إلى من يقدرون على الارتزاق فجريمة اجتماعية، ولا يشجع على هذه الجريمة غير الكتاب الذين يعيشون بفضل الرياء الاجتماعي وهو رياء له عواقب سود، في الدنيا وفي الآخرة، والآخرة حق، ولو كره من يراءون الناس
الحب والبغض
أما الأديب الذي كتب من المنصورة خطاباً في صفحات طوال عراض فمن حقه أن يبغضني كيف شاء، فما أفكر في الحب ولا في البغض حين أحاور قرائي، وإنما أفكر في الصدق، لأستطيع القول - ولو بيني وبين نفسي - بأني لم أفكر أبداً في مخادعة قومي، فالدنيا أصغر وأحقر من أن تروضنا بمغرياتها الأواثم على جلب منفعة وقتية ببعضها الصدق
وفي مجلة الرسالة كتاب أعظم مني، فما الذي يمنع بعض الناس من غض النظر عما أكتب، وقد صح عند ذلك (البعض) أن مقالاتي في الإصلاح الاجتماعي لم تصب هوى من قلبه الرقيق؟
أفلح الدكتور طه وأخفقت: أفلح لأنه دعا الحكومة إلى إنقاذ الفقراء، وأخفقت لأني قلت باعتماد الفقراء على أنفسهم وعلى سواعدهم، فما تستطيع الحكومة أن تعين رجلاً لا يعين نفسه، ولا يستطيع المجتمع أن يحمي مخلوقاً يعجز عن حفظ مكانه بين طبقات المجتمع
أنا رجل فقير يحارب الفقر في كل وقت، وأنتظر من إخواني الفقراء أن يعينوني على محاربة ذلك العدو البغيض، لأصبح ويصبحوا من المياسير بفضل الكسب الشريف
لا يهمني أن يحبني قرائي، فما يبكي على الحب غير النساء، وإنما يهمني أن يكون ما أكتب صورة صادقة لما يعتلج في صدري عن آراء وأهواء
الصدق هو الذي يرفع أدب اللغة العربية. وهو الذي يزيد في ثقة الرجال بعضهم ببعض. أكرمنا الله جميعاً بنعمة الصدق وهدانا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، فهو وحده الحبيب الذي تتشرف بحبه القلوب
زكي مبارك
إلى الباحث الجليل (* * *)
السلام عليكم:
وبعد فقد جاء في بحثكم الممتع في العدد 404 من الرسالة الغراء ما يلي:
(في درة الغواص في أوهام الخواص: ويقولون: بعثت إليه بغلام، وأرسلت إليه هدية، فيخطئون فيهما؛ لأن العرب تقول فيما يتصرف بنفسه: بعثته وأرسلته، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا) وتقول فيما يُحمل: بعث به وأرسلت به، كما قال سبحانه إخباراً عن بلقيس: (وإني مرسلة إليهم بهدية) فعقبتم على ذلك في الحاشية بقولكم: (قلت: هل يرى الحريري الريح والصيحة والحاصب مما يتصرف بنفسه؟ ففي الكتاب: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً)، (إنا أرسلنا عليهم حاصباً)، (إنا أرسلنا عليهم صيحة). . .)
قلت: الإرسال في هذه الآيات الكريمة بمعنى التسليط، لا بمعنى التوجيه، فليس يقال في مفعوله: (إنه مما يتصرف بنفسه، أولا يتصرف)، حتى يتفرغ عليه دخول الباء عليه أو عدم دخولها؛ إذ يمتنع أن يقال: سَلَّط عليه بكذا ومن أمثلة الإرسال بمعنى التسليط قول الأساس: أرسل كلبه وصقره على الصيد، أرسل الله عليهم العذاب
وإكمالاً للبحث نورد ما جاء في (التاج) قال: (والإرسال التسليط، وبه فُسِّر قوله تعالى: (إنا أرسلنا للشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)، أي سُلّطوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم. والإرسال أيضاً التوجيه، وبه فسر إرسال الله عز وجل أنبياءه عليهم السلام)
هذا ما عنَّ لي أعرضه على الأستاذ المحقق
(ا. ع)
وفاة الأستاذ محمود مصطفى
استأثر الله في الأسبوع الماضي بالأستاذ (محمود مصطفى) أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية؛ وقد كان رحمه الله من أصحاب الملكات القوية في الأدب واللغة. تخرج في دار العلوم ثم أشتغل في التعليم في المدارس الأهلية والأميرية بقية شبابه الأول، ثم فاختير للتدريس في كلية اللغة فقسم حياته العاملة بين التعليم والتأليف حتى زود المكتبة العربية بطائفة من الكتب النافعة في تاريخ الأدب والعروض. وقد قال الأديب البر محمد عبد المنعم خفاجي إن للفقيد سفرين جليلين في الأدب المصري منذ الفتح العربي إلى الآن يقعان في ألف صفحة، وقد عكف في آخر حياته على إعدادهما للطبع حتى انتهى منهما قبل وفاته بأسبوع. رحمة الله رحمة واسعة وعوض الأدب والعربية منه خير العوض.
تأبين المرحوم محمد مسعود بك
اجتمع في مسرح الحديقة في مساء الأربعاء الماضي جمهرة من أعيان الفضل وأقطاب الأدب ورجال الصحافة للاحتفال بتأبين العالم البحاثة المرحوم (محمد مسعود بك). فألقي كلمة الافتتاح معالي الأستاذ محمد علي علوبة باشا؛ ثم تتابع الخطباء والشعراء فجلوا مواهب الفقيد وآثاره في الصحافة والعلم والخلق والأدب والوطنية والترجمة. وكان الشعراء على الأخص قد احتفلوا لما قالوا فجاءت قصائدهم من محكم الشعر وجيده. وقد نشرنا منها في هذا العدد قصيدة الشاعر الكبير خليل مطران بك، وسنختار في العدد المقبل فرائد من قصيدتي الأستاذين محمد مصطفى الماحي ومحمد الأسمر لأنهما نشرتا بالأهرام.
وقد كانت الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ يحيي مسعود نجل الفقيد شكراً جميلاً للمحتفلين وتحية بره لوالده. أجمل الله عزاءه وعزاء الوطن في الراحل الكريم
حول بشر بن عوانة
كانت (المكشوف) قد ذكرت في بعض أعدادها أن الأستاذ بطرس البستاني أول من نفى شخصية بشر بن عوانة في الجزء الثاني من كتابه (أدباء العرب) فرأت (الرسالة) من واجبها أن تنبه إلى أنها أشارت إلى هذه الأسطورة في يناير سنة 1935. ويظهر من العدد 296 من المكشوف أنها نشرت هذا التنبيه ولاحظت عليه أن الجزء الثاني من (أدباء العرب) طبع للمرة الأولى في شباط سنة 1934 فيكون أسبق
نقول يظهر لأننا لم نطلع على العدد الذي نشرت به هذه الملاحظة لاضطراب البريد بين البلدين في هذه الظروف. ولو كنا اطلعنا عليها لنشرناها فينتهي الأمر من جهة الزميلة، ويبقى الرأي من جهتنا موقوفاً إلى أن نطلع على الطبعة الأولى من هذا الكتاب
اكتشاف جديد لا طالة عمر الإنسان
جاء من هنتنجتون في ولاية فرجينيا أن الأستاذ ماليسوف أستاذ علم الكيمياء الحيوية في معهد الفنون والصناعات في بروكلين أعلن في اجتماع عقد في هنتنجتون أن الإنسان يستطيع أن يعيش 185 سنة بفضل المادة الجديدة المسماة (صوديوم ثيوسيانتت) وقد اكتشف تأثيرها بعد تجارب عديدة
وكان مما قاله أيضاً أنهم استطاعوا في التجارب التي أجروها في الأرنب أن يبطلوا فيها أعراض كبر السن. ثم قال إن مادة الكولستروك اللزجة التي تشبه الشمع ترسب كمية منها في الأوردة والشرايين، وأن ثمة علاقة بين العمر وهذه الراسبة، وأن هذه المادة الكيميائية الجديدة (الصوديوم ثيوسيانيت) توزع الكولسترول من غير أن تحدث ضرراً في الجسم.
حول وأد البنات عند العرب في الجاهلية
لجأ الأستاذ الصعيدي - وهو من علماء الأزهر الشريف - إلى المغالطة والتقول عليَّ بما لم أقله بعد أن سُدّت أمامه السبل في تأييد ما يذهب إليه. فقد أنقسم رده الأخير إلى نقطتين تمثل كلتاهما أقصى ما يمكن أن تصل إليه الجرأة في طمس الحقائق: 1 - يقول في النقطة الأولى: (وقد رأى الأستاذ علي عبد الواحد وافي أن حمل قوله تعالى (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) على معنى أنهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون لا يستقيم مع الآيات الأخرى كما ذكرت (أي كما ذكر الأستاذ الصعيدي)، لأنها صريحة في أنهم كانوا يجعلون ذلك لأنفسهم لا لآلهتهم)
وأنا لم أر مطلقاً هذا الرأي، بل رأيت - عكسه تماماً - كما صرحت بذلك في كلمتي الأخيرة إذ قلت ما نصه: (على أن ما ذكرناه في المقال السابق بصدد الذكور (أي نسبتهم لآلهتهم) تحتمله آية النحل، وخاصة لأن الضمير في الآية التي قبلها يرجع إلى الشركاء: (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. . . ا. هـ. البيضاوي) نصيباً مما رزقناهم، تالله لتسألن عما كنتم تفترون، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) فرجع الضمير في (لهم) إلى الشركاء الذكورين في الآية السابقة ليس محتملاً فحسب، بل أرجح كثيراً في نظري من رجعة إلى المشركين، لأن موضوع الحديث هو تقسيمهم المخلوقات بين الله وشركائهم لا بين الله وأنفسهم. ويزداد هذا المعنى تأييداً إذا ربطت هذه الآيات بآيات الأنعام: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. . . وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. . .) ويزداد هذا المعنى تأييداً كذلك إذا لاحظنا أنهم ما كانوا ينسبون خلق شيء لأنفسهم، بل كان ذلك يتردد بين الله وآلهتهم
2 - وذكر في النقطة الثانية ما نصه: (وكذلك رأى الأستاذ علي عبد الواحد وافي أن النصوص القرآنية صريحة في أن العرب كانوا يجعلون الملائكة بنات الله، فلم يسعه إلا أن يعترف بهذا)؛ ويقصد بذلك - كما يفهم من سياق كلامه - أنني كنت أنكر هذه الحقيقة، حتى كتب ما كتب، فلم يسعني حيال قوة حجته إلا أن أعدل عن إنكارها وأعترف بها
مع أنني لم أذكر أنكر مطلقاً هذه الحقيقة، بل اتخذت منها دليلاً على صحة ما ذهبت إليه، كما صرحت بذلك في أول كلمة لي في هذا الموضوع؛ إذ قلت ما نصه: (ولم يقف أمر اعتقادهم عند حدود العالم الطبيعي: عالم النبات والحيوان والإنسان، بل جاوزه إلى عالم السماء؛ فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث. ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم أنهم من هذا النوع) ثم أوردت الآيات التي تؤيد هذا ومنها قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً. . .). (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى). (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً. . .). (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون، ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله. . .)
وأسأل الله أن يوفقنا إلى تحري الصدق في القول ويهيئ لنا من أمرنا رشداً
علي عبد الواحد وافي
في اللغة
من حق الأستاذ الكبير (ا. ع) عليّ، وقد سلفت عندي يده، وطوق رقبتي ثناؤه، ان أشكره على حسن ظنه وجميل رأيه في قصيدتي التي نشرتها بالرسالة وجعلتها ذكرى لمولد النبي عليه السلام.
ولقد تقبلت نقده المؤدب المهذب بقبول حسن، فقد والله لمحت من خلال سطوره أدب الناقد، ورقة الأديب، وتواضع العالم وأنا مع الأستاذ الكبير أن كلمة (سمحاء) التي استعملها في قصيدتي النبوية لم ترد في كتاب من اللغة مما بين أيدينا. ويظهر أنها دلفت ألينا فيما دلف من ألفاظ أخر. ومن الغريب أنها دائرة على شباة أقلام كثير من كتابنا المعتمد بهم ولقد وجدت المرحوم قاسم أمين يستعملها اكثر من مرة في كتابة تحرير المرأة (راجع الطبعة الثانية من الكتاب ص 128، 162)
على أن نفراً من محققي كتابنا الأعلام فطن إلى خطئها، واستعمل في مكانها كلمة (السمح والسمحة) للمذكر والمؤنث، وفقاً لما جاء في اللغة. وفي الحديث الشريف (بعثت بالحنيفية السمحة).
وللأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات فظل إشاعة هذا الاستعمال الصحيح ولا زلت أذكر له مقاله البليغ (أمة التوحيد تتحد) في العدد 384 من الرسالة، ويشير فيه إلى الديمقراطية (السمحة) وكيف كان في مكنة العرب والمسلمين أن يعيشوا في حماها بوجه من الوجوه.
أما قول الأستاذ الفاضل إن الفعل (تفيأ) يتعدى بالباء أو بنفسه كما صنع أبو تمام. ولا يتعدى باللام كما جاء في قصيدة (ميلاد نبي) فهو قول نقبله على العين والرأس، ولكني أضيف إليه أن تعدية هذا الفعل باللام ليست خطاء، فحروف الجر ينوب بعضها عن بعض. وقد عدى القرآن الكريم الفعل (يخيَّل) بالي في قوله تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى). ولكنه يَرِدُ كثيراً في الشعر العربي معدّى باللام كما لا يخفى على علم الأستاذ الكبير.
محمد عبد الغني حسن