مجلة الرسالة/العدد 409/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 409/الكتب
مجالس الغوري
للأستاذ محمد لطفي جمعة
نشرت لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ شهر للأستاذ النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام كتاباً جميلاً يمثل فترة من تاريخ مصر في آخر القرن التاسع الهجري، وطرفاً من القرن العاشر.
وقد شاء أدبه وفنه ووفاؤه وثقافته أن يجعل من علاقته بقبة الغورى أثراً أدبياً، لأنه رئيس جمعية الأخوة الإسلامية التي تعقد اجتماعها في القبة مرة في كل أسبوع؛ فبحث ونقب في مكاتب مصر والآستانة حتى اهتدى إلى ثلاثة آثار نفيسة للغوري: أولها ترجمة تركية للشاهنامة التي نشرها الدكتور منذ بضع سنين؛ وثانيها هذا الكتاب للمجالس؛ والثالث في المجالس أيضاً، ولكنه أصغر حجماً وأضيق نطاقاً، وفيه تكرار لبعض المجالس الواردة في الكتاب الكبير. ويحسن بي قبل أن أتكلم عن الكتاب أن أشكر الدكتور العالم الذي أثبت بنشر هذين الكتابين أن كانت لبعض سلاطين مصر ندوة أدبية هي أشبه الأشياء بمجمع العلوم والآداب يضبط فيها الوقت بالدرجات ويحضرها لفيف من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء وتدور فيها الأحاديث حول المسائل العقلية والفقهية والتاريخية، ولا تخلو من سمر رقيق وفكاهة ودعابة. وكان السلطان نفسه يرأس الاجتماع ويتلقى الأسئلة ويجيب على بعضها عندما يثبت عجز الحاضرين.
وهذه الصورة الجميلة لسلطان صالح كريم شجاع من أجمل صور التاريخ وتجعل لآثار الغوري التي نشهدها ونراها أثراً حياً في النفوس. كان الملك من رجال قاتيباي، ولم يكن ينظر إلى السلطنة؛ ولكن تقواه وعلمه وإخلاصه أوصلته إليها فقابل ذلك بالشكر لله والإحسان إلى الفقراء. وكان زمنه زمناً رخواً فهناك قصة عن هجوم بعض السفن الحربية على شواطئ مصر وانصرافها بقراءة الفاتحة. وهناك صورة أخرى لأخلاق البدو والحضر في الحجاز ومؤامرة بعض أمراء مكة مع هولاكو على جيوش الظاهر بيبرس ومحمله، وتدبير مكيدة لقتل أمير المحمل المصري. فدلت على أن تلك البلاد المقدسة ما زالت على وتيرة واحدة إلى ان أنقذها الله بالعهد السعودي وكان السلطان إذا فقد ولده بالوفاة أو صديقاً عالماً أو وزيراً حكيماً كف عن الجلوس في ندوته يومين أو ثلاثة، وكان يجلس للناس ويسمع شكواهم، ويوزع الصدقات عليهم بيده، ويجد في ذلك لذة عظمى؛ وكان ينظم الشعر العربي والتركي ويضع الألغاز بهما، ويداعب جلساءه بمعضلات الفقه. ولم يكن مقصراً في الحرب فقد بنى قلاعاً في جدة وفي ينبع؛ ومن أسماء سلطان الحرمين ما يدل على أن كل حكومة شرقية طمعت في أن يكون لها سلطة في الحجاز
وقد اهتدى الدكتور الأستاذ عبد الوهاب عزام إلى نسخ مخطوطة فقارنها وصححها وطبعها ولقى في ذلك مشقة يستحق عليها كل إعجاب وثناء. ومن محاسنه أنه أبقى الأسلوب على حالته ليدل على حقيقة ما كان يكتب. وللسلطان الغورى هنة واحدة وهو أن كرمه أفقره فاحتاج إلى أخذ ضرائب فادحة من الشعب؛ ومن بين الذي وقع عليهم هذا الحيف سيدة مغنية معاصرة فرض عليها خمسة آلاف دينار فباعت حليها أو ما زعمت أنه كل ما تملك وحملت إليه ألف دينار وشفاعة القاضي فقبلها السلطان وأعفاها. وإذن كان في القرن التاسع الهجري في القاهرة قيان يغتنين من الغناء ويدخرن المال الكثير ولا يدفعن عنه زكاة حتى يأتي السلطان وينتزعه انتزاعاً. فما أشبه اليوم بالبارحة فيما عدا اغتصاب مال القيان. وأشكر اللجنة التي أعانت على نشر الكتاب والدكتور عزام على عمله الجليل
محمد لطفي جمعة