مجلة الرسالة/العدد 338/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 338/الكتب
رحلات
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذه رحلات وأسفار، صور شاهدها قلم مبين، وناهيك بقلم يحمله الدكتور عبد الوهاب عزام.
وقراء الرسالة لا شك يعرفون الدكتور الفاضل باحثاً مدققاً وعالماً متمكناً، وناقداً بارعاً، ورجلاً تتمثل كل معاني الرجولة في أخلاقه وفي سلوكه، ولكن قلّ فيهم من يعرفه شاعراً موهوباً من الطراز الأول، يستطيع أن يجري في الحلبة فيسبق، لأنه رجل لا يحب أو قل لا يحسن الإعلان عن نفسه، فهو يجاهد ويجاهد حتى يرضي بالجهاد ربه ونفسه، ثم لا يعنيه بعد ذلك مأرب، فيرضى من الغنيمة بالإياب.
وشاعرية الأستاذ عزام تتجلى في قصائده (المكتمة) أو قل الموءودة، وهو لا شك محاسب بين يدي الله (إذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت)، وإن هذه الشاعرية لتتجلى أيضاً في آثار قلمه في الوصف والإفصاح عن إحساسه بالمرئيات، فأنت إذ تقرأ هذه الرحلات، فستجد فيها دقة الباحث، وحكمة العالم، وظرف الأديب، وخيال الشاعر وعاطفته. وأي شعر أبلغ من قول الدكتور، وهو يجيل النظر في أرجاء سيناء: (وأصبحنا نطل على بيداء ليس فيها إلا رمال تتخللها أعشاب وأشواك، ولكنها سيناء! والله ماذا ضمنت سيناء من الخبر والعبر! فيها الطور الذي آنس موسى من جانبه نور الهدى، وعليها مدَّ الزمان وجزر بالغير سعيدة وشقية، والجيوش هازمة ومهزومة، فتمثّل جيوش الفراعنة ذاهبة إلى الشام وآيبة، أو جيوش بابل وفارس مطرودة وطاردة، ثم جيش الإسكندر وجيوش الرومان، ثم جيوش العرب والترك دول بعد دول، وسطور تمحو في صحائف الزمان سطوراً، كما خط في القرطاس سطر على سطر، تزاحمت الذكريات، وترادفت العظات).
بل أي شعر أفصح من قول الدكتور على قبر صلاح الدين الخالد: (ثم رقينا درجات قليلة إلى باب آخر؛ فيالك حجرة جمعت من العظمة سورة متلوة على الدهور، وحوت من عبر التاريخ ما تضيق به السطور! يالك حجرة كعنوان الكتاب الكبير يقتحمه النظر في لحظة، ثم لا يزال ينفتح على الصفحة بعد الصفحة! يالك من مكان وسع ملء الزمان! ويالك من أحجار طويت على إعصار! مجدر جف به الشرق والغرب، وطأطأ له الصديق والعدو. هذا مرقد (صلاح الدين)، طفنا بالقبر ووقفنا هنيهة خاشعين، ووقعت أبصارنا على صورة تمثل المجاهد العظيم؛ ثم قال أحدنا: أين التاج الذي وضعه على القبر ملك الألمان غليوم؟ قال دليلنا: أخذه الإنكليز! قلت: إن مجد (صلاح الدين) أعظم من أن يزيده غليوم وأجل من أن ينقصه الإنجليز، فليعطوا أو فليأخذوا، وليمدحوا أو يذموا، فذلك صرح لا تناله أيديهم، ومجد قصرت عنه أمانيهم، وحلبة التاريخ تشهد من كان الفارس الأمجد؟!).
فهذا هو إفصاح الشاعر وخياله وإحساسه. . . وهذا هو الأسلوب الذي صور به الدكتور الفاضل كل المشاهد التي رآها والآثار التي وقف بها في حلب ودمشق وبغداد وبلاد الفرس وموطن الأتراك، ثم في الحجاز مشرق النور المحمدي، وفي أوربا حيث السفوح كلها البهاء والرواء والشعر، فجاءت هذه الرحلات صورة قوية من عقل الرجل وقلبه، فهي فوق ما فيها من علم وتعريف آيات بينات من الأدب الوصفي الرائع، وقطع من العشر المرسل تفيض بالعواطف والأحاسيس، وتملأ نفس القارئ بالعظات والعبر، والحكمة والبهجة. وبهذا المعنى ستظل رحلات عزام خالدة خلود العواطف الإنسانية، باقية بقاء الإحساس القوي في نفس الكبير.