مجلة الرسالة/العدد 277/فردريك نيتشه
مجلة الرسالة/العدد 277/فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 2 -
(إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحة متقلبة كالحياة نفسها، وفي النسا كما في الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون على أية مائدة ويرتوون من أي ينبوع. وماذا عساه يفهم من الحب من يرى المحبوب مائدة وينبوعاً؟ قلّ من الناس من يدرك أن من أنكر على المحبوب شخصيته التي لا تستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها)
(لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ مائلة لعيان من يريد أن يرى أفما كانت كل الأمم التي اندثرت واستبعدت تمر أولا في مرحلة تدني الأخلاق وانطلاق الشهوات عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان؟)
(سوف يأتي يوم، وهو غير بعيد، تتنبه المدينة فيه إلى أن الرجل المتفوق الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ولا من فحص خلايا المتزوجين بالمجهر حتى ولا من تلقيحهم بالمواد الكيماوية أو تطعيمهم بغدد القرود
إن الرجل الكامل أو الأقرب إلى الكمال إنما هو ابن الحب الكامل، فالمحبة وحدها هي السبيل المؤدي إلى إدراك الحق والقوة والجمال لندع العالم المتمدن يفتش في علومه ونهضة مفكريه عن هذا الحب الذي تخيله ماركس متجلياً في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع هذا الفيلسوف في نظرياته، ليفتشوا أنهم لن يتصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.
أما نحن أبناء هذا الشرق الذي انبثق الحق فيه انصباباً من الداخل بالإلهام لا تلمّساً من الخارج، فلنا المسلك المفتوح منفرجاً أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.
لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنة ثراءً وتنظيماً تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.
إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلاً حراً قوياً يفهم حقيقة الحياة ويتمتّع بالعظمة الكامنة فيها إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لأعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلاً وتتحطم كل محاولة للنفوذ إلى علته المستقرّة فيه منذ تكوينه)
(ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمَّشى بلا سند إلى قبره. ليست المرأة المستعبدة بلقمة ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير، ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم آباؤهم وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود ويرهقوهم بالقطعية والإهمال بعد أن يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة المتعثرة. . . الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة، والمرأة التي تتقصف متهتكة ماسخة هيكل نسمات الله مركعاً لنفايات البشر من عبّاد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودَين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة َّوالآلام المحتّمة، ومن يدري أن حديث معصية الأبوين ليس رمزاً لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم. . . ويلُ للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه، وويل للمرأة التي تدنس منبت أطفالها)
ليس في تمهيد موجز كهذا مجالُ لبحث فلسفة نيتشه التي شغلت كبار كتاب القرن التاسع عشر ولم يزل الفلاسفة يكتبون عنها إلى اليوم، غير أن ما تناولناه إلماماً من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص من قدر هذا العبقري لأنه اقتحم أسرار الكون معتمداً ذاته فعاد عن هذه الأسرار مدحوراً. وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها عند عقيدة صريحة تستغني عن الإيمان بالقوة الخفية المتعالية عن التعليل والتحليل؟ حَسْبُ نيتشه في موقف حيرته، وما هي بالدرجة الوضعية على سلم التفكير، أن يهتك سريرته أمامك دون أن يلجأ إلى إعمال السفسطة لإيجاد وحدة ظاهرية وتناسب ٍمزّيف في صرح تفكيره، حسب أن أندفع وراء المثل الأعلى الكامن في (إرادة القوة) تبعاً لتعبيره وفي نفس الإنسان الخالدة تبعاً لعقيدة المؤمنين، فبسط أمام المفكرين من مشاهد المجتمع ومن مسالك الأرواح على معابر الأرض ما لم يلمحه سواه من المنشئين.
إن ما ترانا بحاجة إلى الوقوف عنده من فلسفة نيتشه في كتاب زرادشت الذي لم تفته قضية اجتماعية لم يقل فيها كلمة كان لها دويها في العالم الغربي، إنما هو هذه المبادئ التي تجتث ما غرست قرون العبودية في أوطاننا من استكانة حولت إيمانها إلى استسلام في حين أن روح شرعتها يهيب بالنفس إلى الجهادين في سبيل الوطن والإنسانية جمعاء.
إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب، وما علَّم هذا الدين أن الحياة معبر على المؤمن اجتيازه وهو مُعرِضَ عن كل ما حوله معلق أبصاره على باب قبره. بل علم أن الحياة مرحلة من أشواط الآزال والآباد وما تطهر أنفسَ لم تحترق أجسادَها ولم تَعد صلاحاً لباقياتها بإصلاح زائلاتها.
ليس نيتشه إذا مبدع فكرة التكامل للإنسان على الأرض فإن التكامل مبدأ جعلته الأديان السماوية أساساً لكل وصية تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، غير أن الدين قد أراد للإنسان تكاملا ًروحياً يهيئه إلى أدراك بارئه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر مالا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على الأرض فيجعلها جنةَ خلدٍ يستوي عليها بجبروته إلهاً. . .
وقد عزب عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرَّت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان، ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية.
لذلك الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيواناً أو استبدال الحيوان إنساناً. لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقبٍ كرَّت ما ورراه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبداً ضمن حلقة إنسانيته.
لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية: (لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى. على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته)
ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله، فكيف زين له خياله أن في هذا النوع إنساناً فائقاً لا يزال كامناً منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضاً في عاصفات الأحقاب؟. .
إن بدعة الإنسان المتفوق إنما هي تقديرنا تشوق نفس شعرت بأنها كانت وستكون، وقد ضرب الإلحاد حولها نطاقا ًفتوهمت أنها ستبلغ في هذه الحياة ما ليس من هذه الحياة.
إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة ويباهي بكفره؛ غير أننا لا نكتم القارئ الكريم ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى ويستجلي كل رمز، يحفزنا إلى القول بأننا لم نر كفراً أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادى بموت الله ثم يراه متجلياً أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة، فإن هذا الملحد، بالرغم من اعتقاده بأن الجسد هو اصل الذات وان الروح عرض لها وبأن كلا الروح والجسد فانيان، لا يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل شيء واستمرار كل شيء فيقول:
- أواه كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداءَ. إني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأنني أحبك أيتها الأبدية!
إنني أحبك، أيتها الأبدية
أين هذه الهتفة الرائعة تصدو في أعماق روح تتطَّير من الزوال من ابتسامة الملحد الصفراء وهو لا يرى وراءه وأمامه إلا العدم والزوال، بل يكاد يرى وجوده خدعة وخيالاً كاذباً.
إن فلسفةّ لا تستنيم لفكرة الفناء ولا ترى في النهاية إلا عودة إلى بداية ليست بالفلسفة الجاحدة، فالمفكر المؤمن بإنسانية عليا تتدرج إلى الكمال حتى ولو قال بألوهية الإنسان على الأرض لا يمكنه أن يؤمن في قرارة نفسه بكمال مطلق تتشوق روحه إلية ما وراء هذا العالم.
ولابد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة الفيلسوف، وليس في حياته القصيرة وهي مليئة بالآلام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها. وهل نيتشه إلاَّ فكرة وهل حياته إلاَّ وقائع ميادينها السطور والصفحات؟
ولد هذا العبقري الثائر سنة 1844 في بلدة روكن من أعمال ألمانيا وكان أبوه واعظاً بروتستانياً من أسرة بولونية هجرت بلادها في القرن التاسع عشر على أثر اضطهاد شرد منها أشياع كنيسة الإصلاح.
وما بلغ فردريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه فكلفت أمه تربيته وتربية أخته فأرسلته إلى مدرسة نومبورغ ثم انتقل منها سنة 1864 إلى كلتيّ بون وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره سنة 1869 تجلَّى نبوغه فعين أستاذاً للفلسفة في كلية بال.
بعد سبع سنوات أي سنة 1876 ظهرت عليه أعراض (الزهري الوراثي) فحكمه صداع شديد أضعف بصره فبقي يلقي الدروس حتى سنة 1879 إذ اضطر إلى الاستعفاء ليذهب متنقلاً بين روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو يعمل الفكر ويكتب مصارعاً علته عشر سنوات، فلا هو يبرأ منها فيحيا، ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت إلى أن جاءته سنة1889 بالفالج مقدمة للجنون فتوارى سنة 1900 بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة وإرادته الوَّثابة الجبارة
(يتبع)
فليكس فارس