مجلة الرسالة/العدد 277/بين الشرق والغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 277/بين الشرق والغرب

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 10 - 1938



لباحث فاضل

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

(ثالثاً): (كذلك لا يعترض علينا بالجانب العلمي من الثقافة الإسلامية لأنها نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني)

انتهى الكاتب إلى أن الجانب العلمي من الثقافة الإسلامية نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني. ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟

1 - (الذين يتفكرون في خلق السماوات ولأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا. . .)

2 - (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت. . .)

3 - (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون)

4 - (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخلق من بين الصلب والترائب)

هذه آيات بينات اعتقدها المسلم لا بالسيف ولا بغيره، ولم تدخل في معتقده عن طريق العاطفة والمسايرة بل دخلت عن طريق العقل فقط. ألا تري أن في كل حرف فيها دعوة صريحة إلى التفكير في مخلوقات الله؟ ولماذا دعاهم إلى هذا التفكير؟ ليعتقدوا بعظمة الله أم يهتدوا بوجوده؟ لاشك بأن للاهتداء إلى الوجود لأن التعظيم يكون لشيء يعتقد بوجوده وهم لم يعتقدوا بعد ذلك.

سمح لهم بالشك في كل شيء والتفكير في كل شيء ودعاهم إلى تحرير عقولهم من قيود العبودية الزمنية. وبعد ألا تعتبر هذه الدعوة أساساً عملياً، لأن استمال العقل في التفكير في مخلوقات الله وهو الأسلوب العلمي بعينه. أفيكون اليونان أصحاب الفضل في ذلك فيأخذ عنهم فلاسفة المسلمين هذا الجانب العلمي أم يكون الدين الإسلامي هو الأصل الأول؟ لهم لا يكون اليونان وفلاسفتهم أصحاب هذا الفضل إلى إذا أخذ القرآن بأساليب الفكر اليونان أو إلا إذا اعتبر متكلمة المسلمين وفلاسفتهم فلسفة اليونانيين مصدر أوليا في معتقدهم وكان القرآن مصدراً ثانوياً، والحقيقة تكذب هذا وذاك. وهم ما استعانوا بالفلسفة اليونانية إلا بعد أن تشربت قلوبهم معتقدهم الديني، وما كانت لهم الفلسفة إلا أداة منطقية لا علمية، والمنط غير العلم إلا إذا امتزجا (قبل أيام)

(رابعاً): (انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وانتهى الغربي إلى أنه قديم)، وهذا ما قاله. والمقصود من هذا واضح، وتقرير هذا القول يحمل الناس على تقرير التفاصيل بين العقلية العلمية للغرب وبينهما لمتكلمة المسلمين. هذا صحيح لو كان الكلام صحيحاً، ولو عنى متكلمة المسلمين بكلمة حادث ما عناه حضرة الفاضل. فأنا نعلم وغيرنا يعلم بأن كلمة (حادث) هنا لا تعني ولا تدل على تاريخ زمن معين كأن يقال كذا آلافاً من السنين، وإنما عني متكلمة المسلمين بهذه الكلمة أن العالم حادث بالنسبة للخالق، أي أن الخالق قديم بالنسبة لمخلوقاته، فقرروا القدم الذي لا حد له إلى الله وقرروا الحدثية إلى مخلوقاته

(خامساً): وبعد ذلك فمتكلمة المسلمين (انتهوا إلى أن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكلَّ ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وسيكون). هذا ما قاله حضرة الفاضل، فهل نفي بهذا القول طبيعة العقل العلمي لهؤلاء المتكلمة؟ أليس الدين الإسلامي المرجع الأول لهؤلاء المتكلمة؟ فلماذا نأخذ الناحية السلبية من هذا القول ولا نقرر بأن الدين الذي اعتمدوا عليه كأساس أولى في مذاهبهم الكلامية قد دعاهم إلى أن يسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه وهو الذي دعاهم إلى ألا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة؟ فإذا كانوا قد اعتقدوا تلك الناحية السلبية فقط من قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون)، فهل يتناسب هذا الاعتقاد مع حقيقة الواقع وهم إنهم جعلوا للعقل حقه في تقرير مصير صاحبه ثم هل يتفق هذا القول مع كثير من أقوال متكلمة المسلمين كالنظّام والجاحظ وغيرهما في الشك وفي تقدير العقل إلى أبعد حدود التقدير؟

ثم نراه منح العقلية الغربية منحة تأباها وقرر لها مذهباً تنفر منه لأن العقل لا يقره فقال: (انتهى الغربي إلى أن إرادة الله مقيدة بنظام الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار).

أي كلام هذا؟ وكلام من هو؟ ومن قال بأن الغربي يعتقد هذا إلا إذا فقد الجانب العلمي من قوى تفكيره؟ للكون سنن ولنظامه نواميس فمن أقرها ومن وضعها؟ أليس هو الله؟ ومن يفكر بأن إرادة الله هي التي تسيطر على هذا الكون؟ أفيكون خالق الشيء مقيداً به وتكون إرادته متعلقة به؟ فإذا كان بقاء النظام الكوني دليلاً على شيء فهو أن إرادة الله لم تتغير وأنه أراد الكون على حاله. فإذا تغير هذا النظام الذي أراده الله اعتقدتم بأن هذا النظام مقَّيدُ بإرادة الله إذا فلتنتظروا.

(سادساً): في نظر الغربي (أن في قدرة الإنسان تغيير القدر له عن طريق معرفة النواميس المحَكمة في وجوده) أهذا كلام يقال؟ فلا هو منطق ولا هو علم، ولا هو حقيقة ولا هو خيال. رجل لا يعلم ما قُدَّر له فكيف يكون قادراً على تغييره؟ ثم هب بأنه علم ما قدر له كأن أوحى الله له بذلك أفيكون قادراً على تغيير ما أراد الله وتكون إرادة الله؟ نحن لا نفهم من هذا القول إلا أنه كفر من ناحية دينية وكفر آخر من ناحية عقلية؟ وكفر ُواحد عظم في حد َّذاته فكيف بالكفرين؟

إذا كانت علوم الغرب دليلاً على عقليتهم فإلى أي حد انتهوا في علومهم؟ كان يقال قديماً بأن مَن بحث في العلوم الطبيعية ابتعد عن الخالق، واليوم يقال بأن كل من امتهن هذه الصنعة وسلك هذا الطريق فلا شك بأنه يسير بخطى واسعة نحو الخالق إن كان كافراً به.

فهؤلاء علماء مادة الحياة كلما عجزوا عن تفهم سر شيء ازدادوا إيماناً بأن قدرة عليا فوق قدرتهم واتفقوا على غير موعد بأن إرادة الخالق قد أخضعت كل النواميس لها، ونحن ما علمنا ليومنا هذا إلا ما أراد الله لنا أن نعلم. أفيذهب بنا الغرور إلى حد تقييد الله بشيء خلقه؟

(سابعاً): (ثم المسيحية هي التي سادت أوربا في العصور الوسطى فنزعت بها منزع التفكير المعروف) الواقع يقرر عكس هذا، إذ ليس في الدين المسيحي ما يقرر ذلك الجمود في القوى الفكرية كالذي ساد في العصور الوسطى.

نحن نعلم بأن المسيحية وجدت في الشرق فكانت سبباً إلى حد كبير في توجيه منازع التفكير المختلفة من روحية واجتماعية وخلقية فقامت بنصيبها من الإصلاح، وسارت المسيحية بتعاليمها إلى الغرب ذاته وكانت حاله أسوأ حال فهذبت من نفوس أقوامه ما ساعدتها طبيعتهم الخشنة وعقليتهم السميكة. وخنقت المسيحية في الدير والكنيسة تراث اليونان والرومان وغيرهم فقدمت للتاريخ العلمي خدمة لا تقدر بقيمة. وبعد هذا لم تكن المسيحية ولم تكن روح النسك الشرقية التي جاءت معها سبباً فيما ساد العصور الوسطى من فوضى واضطراب وقصور في النواحي الثقافية والعلمية. أيتهم الشرق بأنه سبب ذلك ولا يتهم الغرب وأقوامه هم الذين وجهوا تعاليم الديانة المسيحية وجهة مادية؟

ثم ما هي العقلية التي جاءت بصكوك الغفران وما هي الطبيعة التي تقبلت الشرائع القوطية؟ أجاءت مع المسيحية من الشرق أم نبتت في الغرب ومن بنات أفكار أقوامه، وهذا هو الواقع.

(ثامناً): (فإن شارل مارتل أنقذ العقلية الغربية من العقلية الشرقية حين كانت تغزو أوروبا على يد العرب) لو جاء بهذا الكلام أحدُ من الغرب لعذرناه، وطبيعة الإنسان كثيراً ما تغالط نفسها فتنكر الفضل على مستحقه. ولكن أن يأتي هذا الكلام من شرقي عربي فهذا ما لا يصدق.

حقيقة صد شارك مارتن تيار العرب، فترى ماذا صد مارتل وماذا منع عن أوروبا؟ أمنع روح النسك؟ والعرب لم يعرفوا بذلك لا في الشرق ولا في الغرب؟ أم أنه صد عن أوربا سبعة قرون من ينابيع الفكر والعلم والثقافة؟ وهذا ما أقر به علماء الغرب ومؤرخوهم قبل أن ينكره أحد من الشرق والعرب. سلوا مؤرخي النهضة الأوربية واستفتوا كتبهم عن أثر الأندلس في تلك النهضة، ألم تكن جامعاتها وحلقاتها قبلة للطلاب من كل ركن في أوربا؟ فلماذا تأثروا بالعلم ولم يتأثروا بالنسك؟ ألان العلم أسهل اقتباسا من النسك أو لأن العلم كان لديهم ولم يكن النسك؟

أفيكون مارتل بعد هذا قد أنقذ العقلية الجرمانية وهي كما يعلمها طلبة التاريخ من العقلية الشرقية يأتي بها العرب، أم يكون مارتل قد أنقذ الجهل من العلم قروناً؟

(تاسعاً) وأخيراً، وهذا أبعد ما استبعدنا أن يأتي به الدكتور العالم وهو أن العلم يتلون بروح الأمة، فكتب الرياضيات والطبيعيات وحقائقها في فرنسا هي غيرها في ألمانية، لأن لكل لوناً خاصاً في الحياة. فالنظرية الآرية تختلف في كل قطر على هذا الأساس الذي أتى به لأن روح الأمتين مختلفة. ولربما كانت نظرية الحمار في بلاد الإنكليز نظرية الدب في روسيا لأن روحيهما مختلفان.

هذا بعض ما لاحظناه على المقال المذكور ولو كان مجرد رأي لما حاولنا الجدل فيه، ولكن الكثير منه يتصل بالأمة العربية والأمم الإسلامية وبعضه يتصل بالحقائق التاريخية.

أما الرأي من حيث هو فيما لا يتصل بهذا أو ذاك فميدان المناظرة فيه واسع فسيح وهذا ما لم أقصده في هذا المقام والسلام.

(* * *)