مجلة الرسالة/العدد 277/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 277/التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
لم يتردد في العمل على إبطال قرار فريمونت على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي العام له ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا؛ ولقد كان من أبرز خلال أبرا هام أنه كان لا يعرف التردد أو النكول إذا هو عقد النية على أمر اقتنع بصوابه واطمأن إلى نفعه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به؛ وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأى ثم انصرف عنه، ولذلك كانوا إذا عزم أذعنوا طوعاً أو كرهاً فما لهم من ذلك بد. . .
وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يسأله أن يعدل قراره وأن يظهر للناس كأنما يفعل ذلك من تلقاء نفسه؛ ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن يتراجع؛ فلم ير الرئيس بدَّا من أن يعلن قراراً عدل به قرار فريمونت غير عابئ بما كان من مخالفة الرأي العام له ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير. . . وبذلك العمل الحازم الحكيم قضى الرئيس على نذير من نذر الفرقة والتنابذ، وكسب بذلك وقوف ولاية كنتولي إلى جانبه. . . ولا تتحسبن الرئيس كما تقول عليه خصومه ومخالفوه في الرأي من أنصاره، قد اتخذ بذلك سبيلاً رجعية؛ كلا، إنما هي السياسة الحكيمة تقضى عليه ألا يتنكب الطريق التي رسمها منذ شبت الحرب، ألا وهي جعل المحافظة على الوحدة أساس هذا الصراع القومي؛ أما مسألة العبيد فما هو بغافل عنها وإنما هو يؤثر الأناة حتى تتهيأ الفرصة. . .
هذا ما كان من أمر فربمونت؛ أما ما كليلان فلقد ظل يدرب جيشه على حدود فرجينيا وهو لا يفتأ يرسل إلى الرئيس يطلب فرقاً جديدة، ولا يفتأ يتبرم بأي استفهام يأتيه من قبل الرئيس عما هو عسىُّ أن يفعله؛ ولقد كان هذا القائد الشاب يكره من الحكومة تد شؤونه؛ بل لقد كان يزدري أعضاء مجلس الوزراء ويرميهم بالغبا، أو كما يقول إنه شاهد أكبر نوع من الإوز في ذلك المجلس.
وبلغ به الذهاب بنفسه حدَّا جعل الناس يظنون به الظنون حتى ليحسبونه يتطلع إلى الرياسة، فهو ينتظر لا يعمل عملاً حتى تواتيه الفرصة إلى انقلاب يأتي به على غرة. . . ولكن الرئيس على الرغم من مسلك ما كليلان يعينه قائداً عامَّا للقوات بعد أن يترك سكوت العمل لكبر سنه.
ولا يقف صلف ماكليلان عند حد، فلقد ذهب الرئيس مرة إليه يستنبئه عن أمر، فتركه القائد لحظة ينتظر قبل أن يلقاه؛ وشاع ذلك في الناس، وأشارت إليه الصحف، وانعقدت الآراء على استنكاره، ولكن الرئيس لم يعبأ بما حدث، فما كان هوبالذي تلهيه المسائل الشخصية عما هو فيه، ولقد رد على ذلك بقوله (إني لأمسك لما كليلان زمام جواده إذا هو جاء لنا بانتصارات).
ولكن حدت بعد ذلك أن ذهب الرئيس ومعه كبير وزرائه إلى مكان القائد فلم يجداه، فجلسا ينتظران حتى رجع؛ وأنبأه بعض الجند بانتظارهما إياه؛ فصعد إلى غرفته وأرسل إليهما رسالة يأسف فيها لعدم استطاعته أن يراهما لأنه متعب! واستشاط سيوارد من ذلك غضباً، ولكن الرئيس راح يهون الأمر عليه. .
على أنه كف بعدها عن زيارة ذلك القائد المدل بنفسه. .
وقدر الرئيس فضلاً عن ذلك أن يلاقي العنت من الرأي العام كما يلاقيه من أكابر قواده، ومن أمثلة ذلك ما كان من موقف الناس إزاء قرار فريمونت فلقد بالغوا يومئذ في إعنات الرئيس وإحراجه. . حتى كان موقف آخر فعادوا إلى غيهم يأخذون على الرئيس مسالك القول والعمل، وكان ذلك الموقف نتيجة لما أدت إليه الحوادث بين حكومة الاتحاد الشمالي وبين الحكومة الإنجليزية. .
كان لنكولن يخشى أن تسوء العلاقات بين حكومته وبين إنجلترا، إذ كانت الأنباء تنذر بذلك؛ فكثير من رجال الحكومة الإنجليزية كانوا يرون أن تعترف حكومتهم بالاتحاد الجنوبي كحكومة مستقلة حتى يتسنى لإنجلترا أن تدخل سفنها الموانئ الجنوبية وعلى الأخص موانئ القطن، دون أن يكون في ذلك تصادم مع الحصار المضروب عليها من الشماليين. . وأخذت الصحف الإنجليزية تدعو إلى ذلك وتلح في الدعوة غير عابئة بما ينطوي عليه ذلك من التحدي لأهل الشمال. واشتد غضب حكومة الاتحاد الشمالي بقدر ما عظم فرح الجنوبيين، إذ كان كل فريق ينظر باهتمام شديد إلى ما عساه أن يحدث من جانب إنجلترا. . وبلغ من استياء سيوارد أنه كتب احتجاجاً إلى الحكومة الإنجليزية، لم يخفف من حدته ما أدخله عليه الرئيس من تعديل، فلقد كان يحرص أشد الحرص أن يفوت على الجنوبيين ما يأملونه من انضمام إنجلترا إليهم.
وفي هذا المأزق الحرج يأتي أحد القواد البحريين عملاً تزداد به الأمور تحرجاً حتى ليحسب الناس أن الحرب واقعة بين إنجلترا والولايات المتحدة ما من ذلك بد. . .
وبيان ذلك أن القائد البحري ولكس داهم سفينة إنجليزية كانت تحمل رسولين من قبل الولايات الثائرة أحدهما إلى إنجلترا والآخر إلى فرنسا أبحرا ليسعيا لدى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية أن تأخذا بيد الاتحاد الجنوبي. . . وأرغم ولكس الرسولين على النزول فأسرهما على الرغم من احتجاج قائد السفينة الإنجليزية.
ووصلت الأنباء إلى وشنجطون فراح الناس يعلنون إعجابهم بالقائد ولكس ويثنون على عمله، وما لبث أن انهالت عليه رسائل الإعجاب والثناء؛ ولقد أثنى عليه فيمن اثنوا المجلس التشريعي نفسه، وكثير من الزعماء ورجال الصحافة؛ وهكذا انحاز الرأي العام إلى جانب ولكس كما انحاز إلى جانب فريمونت من قبل لتزداد بذلك الأمور تعقداً وخطراً. . .
أما عن موقع النبأ في إنجلترا فلك أن تتصور مبلغ ما أثار من سخط واستنكار، في ظروف كتلك التي نتحدث عنها، وكذلك كان للنبأ في فرنسا موقعه الشديد وأثره السيئ.
اعتبرت إنجلترا هذا العمل من جانب القائد ولكس إهانة موجهة إلى العلم البريطاني الذي كان يخفق في سارية تلك الجارية التي كانت تحمل الرسولين وقدمت لندن وشنجيوط احتجاجها وأنذرتها أن تقابل العدوان بمثله إلا أن تسرع بتقديم الترضية الكافية، ولن تقنع إنجلترا بأقل من إطلاق الرسولين وعدم التعرض لهما ثم الاعتزاز عما حدث. . .
عندئذ اشتد هياج الولايات ورأت في إنذار إنجلترا إياها معاني الإذلال وسوء النية وقبح استغلال الحوادث؛ وأصر الناس على المقاومة مهما يكن ثمنها. وأمدت إنجلترا حامية كنده وأخذت الولايات تزيد في قوة ثغورها الشمالية، وفي الجملة لم يبق إلا إعلان الحرب. على أن بعض العقلاء استطاعوا أن يطيلوا الوقت المحدود للإنذار بضعة أيام عل أهل الولايات وخصومهم في إنجلترا يرون حل تحقن به الدماء.
وأخذ الوقت يتصرم ولكن أهل الولايات مصرون على موقفهم لا يثنيهم عنه شيء! ورئيسهم ووزراؤه يفكرون في هذا الخطر الداهم، وكان سيوارد يميل إلى خوض غمار الحرب ضد هؤلاء الإنجليز الذين تنطوي قلوبهم على الحقد والحنق منذ خلعت الولايات الأمريكية نير إنجلترا في عز ة وإباء.
وهكذا يجد لنكولن نفسه في شدة ما مثلها شدة. . . فهو بين أن يجاري الرأي العام وبذلك يجر على البلاد حرباً خارجية طاحنة تأتي مع الحرب الداخلية القائمة في وقت واحد، أو يطلق الرسولين ويقضي على أسباب الخلاف بينه وبين إنجلترا وبذلك يجنب بلاده خطراً محدقاً، وإن تعرض بعدها للوم اللأمين وسخط الساخطين واتهامات المبطلين. . .
ولكنه لنكولن الذي لا يعرف الخور والذي لا يطيش في الملمات صوابه. . . إنه الرجل الذي تزداد عزيمته مضاء بقدر ما تزداد الحادثات عنفاً وخطراً، والذي تزداد قناته صلابة كلما ازدادت الخطوب فداحة والأعباء ثقلاً واستفحالاً. . .
عقد أبرا هام مجلس وزرائه وأخذ يناقش الأعضاء ويناقشونه وهو من أول الأمر لا يؤمن بعدالة ما فعله ولكس؛ وبعد جهد استطاع أن يحمل المجلس على قبول رأيه ثم أعلن بعدها في شجاعة وحزم إطلاق الرسولين، وأجاب على إنذار الحكومة الإنجليزية برسالة متينة جاءت دليل قوياً على حكمته وبعد نظره، رسالة احتفظ فيها بكرامة بلاده وعزة قومه، وجنبها بها في الوقت نفسه خطراً ما كان أغناها عنه يومئذ.
وارتاحت إنجلترا لما فعل الرئيس وأثنى رجالها على حنكته وشجاعته! ولكنه لاقى في بلاده من السخط والاستياء ما لا يقوي على مواجهته غيره، وأوشكت مكانته في القلوب أن تزعزع، وراح يرتاب فيه المتحمسون ويصفون عمله بالجبن والخور. . . ولكنه فيما بينه وبين نفسه يعتقد أنه أسدى صنيعاً إلى قومه لا يدركه إلا العقلاء، الذين لا يجعلون في كل وقت للعواطف سلطانا على أعمالهم. . . . قال مرة يرد على الساخطين (لقد حاربنا بريطانيا العظمى مرة لأنها فعلت عين ما فعله الكابتن ولكس؛ فإذا ما رأينا إنجلترا تحتج على هذا الفعل وتطلب إخلاء سبيل الرسولين فواجبنا هو ألا نخرج على مبادئنا التي ترجع إلى عام 1812. . . . يجب أن نطلق هذين السجينين وحسبنا حرباً واحدة في وقت. . . .)
ومضى العملاق بعدها في سبيله يؤدي للإنسانية رسالته؛ وإننا لنرى هذا الجبار الذي درج من بين الإحراج والأدغال يحمل العبء وحده في الواقع. . . بل إنه كما ذكرنا ليلاقي مما يفعل كثير من أكابر رجاله أعباء تضاف إلى أعبائه ولكنه معود حمل الأعباء ومواجهة الأنواء.
وإنه ليسأل نفسه: ألم بأن لهؤلاء الرجال أن يعملوا كما تطلب الظروف؛ وماذا على فريمونت لو كان رجع إلى الرئيس، ثم ماذا على ما كليلان لو أنه خفض جناحه وألان جانبه واخذ الأمور بالشورى. .؟ ولكن ها هو ذا قائد آخر يفعل مثل ما فعل فريمونت، وذلك هو هنتر الذي كانت له القيادة في كارولينا الجنوبية؛ وكان هنتر أكثر جرأة من فريونت أو على الأصح أكثر نزقاً فلقد أعلن أن سكان فرجينيا وفلوريدا وكارولينا الجنوبية من العبيد أحرار بعد اليوم إلى الأبد. . . .
ولم يسع الرئيس إلا أن يجعل ينقض هذا القرار في غير مجاملة أو هوادة، فلقد كان هنتر خليقا أن يعتبر بما كان من أمر صاحبه فريمونت مما أعلنه الرئيس قوله: (إن حكومة الولايات المتحدة لم تخول للقائد هنتر ولا لأي قائد أو شخص سواه من السلطان ما يعلن معه تحرير العبيد في أية ولاية من الولايات، وإن هذا الإعلان المزعوم، سواء كان حقيقياً أو زائفاً، هو إعلان باطل)
ولا يكاد الرئيس ينتهي من نزق إلا ليواجه نزقاً غيره، فهاهو ذا وزير الحربية كامرون يرسل رسالة إلى بعض الضباط شبيهة بما أعلنه فريمونت وصاحبه. . ولولا أن تدارك الرئيس الأمر لأحدثت من سوء الأثر ما يصعب بعد علاج؛ ولقد أبرق الرئيس إلى مكاتب البريد لترد نسخ تلك الرسالة المطبوعة وحال بذلك دون وصولها إلى وجهاتها. .
ولما أن يئس الرئيس من ما كليلان وقد مضى عليه أكثر من عام وهو لا يعمل اكثر من تدريب جنده ولا ينفك يطلب فرقاً جديدة؛ رأى أن الموقف، يقضي عليه أن يدرس فنون الحرب والتعبئة! أليس هو بحكم مركزه القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية؟ وإذاً فعليه أن يتعلم فن الحرب اليوم كما تعلم مسح الأرض من قبل وتخطيطها وكما تعلم القانون حتى حذقه، بل وكما تعلم القراءة والكتابة قبل ذلك جميعاً وهو بين مطارح الغابة.
شمر الرئيس عن ساعده وراح يدرس ويتعلم لايني ولا يكل ساعات طويلة من النهار وساعات من الليل؛ الخريطة مبسوطة أمامه، ومعلموه من الحربيين يتناوبون العمل معه واحداً بعد الآخر حتى فهم بعض الفهم وأصبح له شيء من الرأي! يا الله من هذا العبقري الجبار الذي يحمل على كتفيه ما كان ينوء بحمله أطلس أو أخيل!
واستطاع الرئيس بعد مدة أن يدلي للقواد برأي في فهم، ولكنه كان حذراً يعرض الفكرة ويترك القطع بصحتها للقائد المرسلة إليه. ولقد كتب مرة إلى أحدهم برأيه ثم شدد عليه ألا يتقيد به قائلا إنه يلومه أكبر اللوم إن هو تحيز له أو تردد عن العمل تمليه عليه خبرته إذا كان ذلك الرأي لا يتفق وهذه الخبرة. . .
على أنه يكتب إلى ما كليلان نفسه ذات مرة مشيراً عليه بما يجب أن يعمل، في خطة مرسومة على أساس فني، ولما رد ما كليلان عليه يرفض تلك الخطة لم يقره الرئيس، وعاد فكتب إليه يسأله أسئلة تدل على فهم دقيق وإلمام شامل، ويدع له أن يجيب على تلك الأسئلة الفنية إجابة صريحة ونزيهة والرئيس مستعد بعدها أن يقره. . ثم تحاكما إلى أخصائيين، فما زال الرئيس يدلى لهم بحججه ويريهم أن خطته أضمن وأسلم من خطة القائد ما كليلان، ولكنهم، آخر الأمر أقروا خطة ما كليلان، فلم يسع الرئيس إلا أن يذعن وإن كان لا يزال يرى وجاهة آرائه. .
(يتبع)
الخفيف