مجلة الرسالة/العدد 272/في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
مجلة الرسالة/العدد 272/في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
بنيتي العزيزة بثينة
لعل رسالتي الأولى بلغتك فسرَّتك. وهذه رسالتي الثانية.
قلت لنفسي وأنا على الباخرة (محمد علي): قد ركبت هذا البحر بحر الروم أربع عشرة مرة فلماذا لم يوح إليَّ شيئاً؟ لماذا لم أصفه أو أصف حالي فيه بكلمة؟ إنني حين أسافر إلى الشام أو العراق أو تركيا أو إيران أكتب عنها جهد المقِل، وعلى قدر ما يواتيني البيان، وتأذن لي المشاغل. وإن لم أكتب أظلّ راغباً في الكتابة، وتبقى في نفسي معان تودّ الإعراب عن نفسها أحدث بها نفسي وأصحابي بين الحين والحين. فلماذا لم أخط حرفاً عن البحر الأبيض وأوربا؟
قالت نفسي بعد تفكير طويل: أنت رجل عصبيُّ قد ملأ نفسك التعصب لقومك العرب ولدينك الإسلام فلست تبالي بغيرهما، ولا تستلهم البيان إلا منهما
قلت: هذا حق، ولكن يحسن أن تُصورِّيه صورة أخرى؛ أحرى بك أن تقولي: إنك حينما ذهبت في بلاد الشرق وجدت قومك ولغتك وتاريخك وآثار أسلافك فتفرح أو تحزن، وتنبسط أو تنقبض، ويجول فكرك بين الماضي والحاضر فاخِراً أو خجلاً، راضياً أو ساخطاً، داعياً أو ناهياً الخ. ولكن أوربا وأهل أوربا ليس بيننا وبينهم من سبب إلا ما أصابنا منهم وإلا هذا الجلاد الدائم بيننا وبينهم
قالت: ألا تكون مرة إنسانياً تسمو على العصبيات وتخرج من هذه الدوائر الضيقة، وتنظر إلى الإنسانية في سعتها، والحقائق في شمولها، والعالم في جملته؟
قلت: قد سألت السبب لك الحق، وصدقتك الجواب؛ فأما الإنسانية والعصبية فموضوع آخر لا أريد أن أكدَّر على نفسي صفو هذا السفر الممتع في هذا الجوَّ الصاحي والبحر الساجي، بالكلام في الإنسانية والعصبية وما يتصل بهما؛ فهذا كلام إن عرف أوله لم يعرف آخره على أني - وحقاً أقول - أحسّ الآن في نفسي معاني كثيرة يلهمني إياها هذا البحر العظيم الذي نبتت حضارة الإنسانية على شواطئه، وحوت أعظم وقائع البشر صفحاته، ولا يزال تاريخ البشر يسكن إذا سكن ويهيج إذا هاج. كم وعى التاريخ من حادثات على سواحل هذا اليم العظيم وعلى أمواجه!
ألم يكن العرب فوق هذا البحر سلطان أعظم من لججه، وعزمات أهوال من أمواجه؟ إن دولتهم لم تبلغ من عمرها خمس عشرة سنة حتى طمحت إليه، ومدت سلطانها عليه؛ ولم تبلغ العشرين حتى جالدت الروم فيه، وحطمت أساطيلهم بأسطولها، وشهد العالم أعجب وقائع البحار: العرب الذين لم يعرفوا إلا الإبل سفن الصحراء، يغلبون الروم في البحر! أجل، هزموهم في موقعة ذات الصواري سنة إحدى وثلاثين. ثم فتح العرب الجزر الشرقية، ثم سارت من بعدُ أساطيل بني الأغلب لفتح صقلية فاستولوا عليها حقباً طوالاً، ثم. . .
قالت نفسي: قد انتكستَ في العصبَّية فانفسح لك مجال القول وانطلق لسانك تُشيد بالعرب ومجد العرب. ألم أقل إنك عصبي؟ ألم أقل إنك عربيٌ مسلم متعصب؟
قلت: إن هذا الأمر عجب! إن ذكرت تاريخ قومي كان هذا عصبية، وإن رويت تاريخ غيرهم كانت إنسانية؟ أليس قومي من البشر فتاريخهم للبشر تاريخ؟
لقد جاوزنا البارحة جزيرة كريد التي سماها العرب إقريطش وكان لهم دُول وغِيَر. أفتلزمني الإنسانية أن أذكر كل من ملكوا هذه الجزيرة إلا العرب؟ ليست العصبية أن أذكر قومي وأشيد بمآثرهم، وليست الإنسانية أن أنساهم وأغمط حقهم وأعق تاريخهم؛ ولكن العصبية أن أتزيد في القول فأحمدهم بما لم يفعلوا، أو أتحيف غير قومي فأبخسهم ما فعلوا. فأما أن أذكر الحق وأروي الصدق، فحقٌّ على الناس جميعاً وهو لقومي أحق
هاهو ذا مضيق مسٌينا قد اقترب، والسواحل عن يميننا وشمالنا تشتعل بالأضواء المتلألئة، والمصابيح المنشورة بين السواحل والجبال. وهو، ونور الحق، وجمال الشعر، منظر رائع جميل في هذا الليل السياحي، والباخرة تشق طريقها متمهلة تأخذ ذات اليمين مرة وذات الشمال أخرى، تتحرى سبيلها بين شعاب البحر وصخوره. والمنارات تومِض وتخبو، تهدي السفينة طريق النجاة وتحذّرها مواطن العطب. لشدَّ ما تعجبني وتملأ نفسي غبطة هذه الحضارة الوهاجة، والمدنية المضيئة! وشد ما أرجو الخير للناس جميعاً في ضوء هذه الحضارة! ولشدَّ ما يؤلمني ويملأ نفسي أسفاً أن أذكر أن في طيّ هذه الحضارة دمارها وأن تحت هذه الأنوار نارها، وأن هذه المياه وهذه السواحل وما وراءها يبيّت للحضارة شرَّا، ويريد بها أمراً نُكرا. ليت الناس يدركون السلام، ويعرفون الوئام، فلا يبنوا ليهدموا، ويعمروا ليدمروا. . .
إن السفينة تتجه شطر الشمال الآن. وهاهو القطب أمامنا وبنات نعش الكبرى قد دارت إلى الشمال وهوت نحو الأفق. ونحن الآن في المضيق. فهذه إيطاليا إلى اليمين، وهذه صقلية إلى اليسار. أأستطيع أن أمر هنا، إنساناً أو شيطاناً، فلا أذكر قومي في صقلية وسواحل أوربا وأفريقية، وما كان لهم من مجد مؤثل، وعزة قعساء، ثم أذكر ما يحل اليوم بساحتهم في أرجاء العالم من العذاب والخراب؟ أأذكر طرابلس أم أذكر المغرب أم أذكر فلسطين؟
. . . إن قلبي يكاد يوحي إلى لساني لعن هذه الحضارة. إني أتخيل الآن ذلك الفقيه أسد بن الفرات يقود جيش الأغالبة على لجج البحر لفتح صقلية، وهو يحمل قلباً أبر بالإنسانية والحضارة من قلوب أبناء عصرنا
قالت نفسي: لا تغضب إذا ذكرتك أن العصبية جاوزت بك الحق. أترى أسد بن الفرات وأساطيله شيئاً مذكوراً بجانب هذه المدنية الخلاقة التي تذكرك بها هذه السفينة الكبيرة تمخر عباب البحر في ظلمات الليل لا تبالي أهاج البحر أم سكن؟
قلت: لم أتكلم عن الصناعة والعلم ولكن ذكرت الرحمة والبر بالناس، والعمل لإسعادهم والإخلاص في إنصافهم، والدعوة إلى المؤاخاة بينهم والتواضع للحق والبعد من الزهو والإعجاب والفخر والكبرياء، ومراقبة الله في خلقه
وبعد فقد جاوزنا المضيق وتركنا صقلية كما ترك الزمان تاريخ العرب. فأريحيني من هذا الجدال، وانظري إلى السماء والماء، واستشعري شيئاً من الصفاء والسلام
وبعد فيا بنيتي العزيزة! قد أخذت القلم لأصف لك بعض ما رأيت بعد أن فارقنا السفينة، وأحدثك عن سفري من جنوة إلى لوسرن في سويسرا، ولكن سبق إلي حديث البحر وتبعه القلم، ولست أجد الآن فراغا لاطالة الحديث. فحسبك هذه النبذة في هذه الرسالة. وعسى أن أجد عما قليل فراغا للرسالة الآتية. وأحسبها ستكون رسالة أختك مي لا رسالتك. والله يحفظك ويرعاك والسلام.
(بركسل)
عبد الوهاب عزام