مجلة الرسالة/العدد 237/فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
مجلة الرسالة/العدد 237/فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 7 -
(إذا أمسك الله تعالى بالحق في يمينه، وبالدافع الدائم إليه في يساره، ثم أمرني بالاختيار: لسقطت على يده اليسرى وقلت أعطني هذا أيها الأب الأقدس، لأن الحق الخالص ليس إلا لك).
ليسنغ
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال).
أحمد أمين
المنهج والطريقة
رأيت في المقال السابق كيف تمتد يد (الديمقراطية) إلى (المعلم) و (المدرسة) و (الطالب) لتصلح من شأن التربية ما قد أفسدته النظم البالية والتقاليد الرثة، وسترى اليوم ما ينبغي أن يكون عليه المنهج وطريقة تدريسه حتى لا يكون الأمر مجرد (إنهاك عصبي) لا أكثر ولا أقل. . .!
يقسم الأستاذ (هورن) العلوم إلى خمس طوائف: فنية، وتشمل: العمارة والحفر والتصوير والموسيقى والأدب والدين؛ وإرادية وتشمل: النظم والأخلاق والقوانين؛ وعلمية عقلية وتشمل: المنطق والميتافيزيقا والجمال واللغة والأخلاق النظرية؛ وعلمية مادية غير عضوية وتشمل: الطبيعة والجيولوجيا والجغرافيا والفسيوجرافيا والفلك والمعادن والكيمياء؛ وعلمية مادية عضوية وتشمل: الحياة والنبات والحيوان والفسيولوجيا والتشريح وتاريخ الإنسان والاجتماع والاقتصاد.
وأنت ترى أن كلاً من هذه العلوم يعالج إحدى نواحي الكون معالجة خاصة، وأنها جميعاً ذات قيمة (ذاتية) كما يقول (هربارت) ولكنا في ناحية (الثقافة العامة) على الخصوص مضطرون إلى التفريق بينها في الدرجة والضرورة فلا نفضل منها إلا ما يتفق وغايتنا. ومن هنا كان ذلك الخلاف الهائل في آراء علماء التربية وأساليبهم؛ (فهربارت) يطالب بقيمة المادة (الذاتية) بصرف النظر عن نتائجها وآثارها، و (ديوي) يصر على اختيار المواد (النفعية) وفقاً لمذهبه العملي، و (ريدجر القائل بفكرة الملائمة مع البيئة يعطينا قِيمَاً آلية وأخرى ثقافية. فالأولى منها التحضيري كمواد القراءة والكتابة، ومنها العملي كمواد اللعب، ومنها (الاجتماعي) كمواد الأجناس والأديان والأخلاق والتاريخ والأدب، ومنها (التقليدي) كالخطابة والجدل؛ أما الثانية - الثقافية - وهي أرقى القيم جميعاً، فتدخل فيها المواد التي تحرر العقل وتهذب العواطف وترقى بالشعور، كالفلسفة الخالصة والأدب المجرد.
هذا وقد رتب الفيلسوف (سبنسر) المواد تبعاً لأهميتها وضرورتها فجعل علوم (الصحة) على رأسها، وتليها علوم (التربية) ثم علوم (السياسة والاجتماع) ثم علوم (الفراغ) أي (الفنون). . .!
أما (رسل) فقد فضل المواد التي (تُبقي وتحفظ قوة الخلق والتضلع والحيوية في الفرد، وتعينه على التمتع بالحياة ذاتها.
وأما الأستاذ (أمير بقطر) فيقول بانتخاب المواد التي تفتح على الطالب أكثر من باب واحد.
ولقد أدلى الأستاذ (أحمد أمين) برأيه في الموضوع فقال (إذا كانت قيمة الثقافة الذاتية هي أبداً في مقدار ما ترفعه في المثقف من وجهة النظر إلى الأشياء وتقويمها قيماً جديدة أقرب إلى الصحة، أسلمنا ذلك إلى نتائج خطيرة، فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر إلى الله وإلى الحياة، وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي إليه من نظر راق صحيح. وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.
وأنت ترى معي أن تلك النظرة من الأستاذ حصيفة كل الحصافة وبعيدة الغور وسامية المنطق، وأن نظرة (ديوي) مشوبة بالنفع العملي الذي يشوه فلسفته الخاصة، وأن ترتيب (سبنسر) يقلل من شأن تلك المتعة (العقلية والفنية) التي جعلها (هورن) جوهر الثقافة الحقيقية.
ومهما يكن من شيء فما دامت غاية التربية هي خلق الحياة الاجتماعية المثلى. وأعني بها تلك الحياة (التي يستطيع الفرد أن يجد فيها مجالاً لتحقيق مستلزمات حياته الأدبية والعقلية والروحية والمادية على أتم وجه بحيث يتسنى له أن ينمو ويتقدم أخلاقياً وروحياً ومادياً وعقلياً نمواً تتطلبه طبيعته وتستطيع أن تحققه الظروف مع البيئة) أقول ما دامت تلك هي غاية التربية فبجب أن نحاول تطبيق ذلك على مواد المنهج وطريقة تدريسها.
فالمادة يجب أن تكون تامة الوفاء بما تتطلبه (المرحلة) البدنية والنفسية من نمو، ويجب أن تكون محبوبة للطفل شائقة لديه لا هي بالسهلة ولا هي بالصعبة، ويجب أن تكون مستمدة من الحياة ومرنة تلائم الاختلاف بين عقول الأفراد، ويجب أن تظهر للطفل كأنها مادته الضرورية الخاصة، ويجب أخيراً أن تكون (بحيث ترتفع به إلى مستوى أرقى في العمل والشعور لا مجرد إنهاك عصبي).
وإذا كان الناقد الألماني (ليسنغ) يقول إنه يفضل (الدافع الدائم للحق) ما دام الحق الخالص ليس لغيره سبحانه وتعالى، فإننا يجب أن نتجنب حشو المنهج بالمواد ونكتفي بإثارة حب البحث في الطالب ناظرين دائماً إلى الكيف لا إلى الكم حتى يكون المتعلم دائماً ذا عقل خصب لا يهرم بكبر السن، ولا ينوء تحت أثقال معلومات مهوشة، ولا يني يبحث ويطلع بعد الدراسة محتفظاً بربيع الحياة.
وما دامت دراسة (الطبيعة) ذاتها وسيلة للاحتفاظ بالحياة وللمتعة فيها والرفاهية، فلا تعارض إذاً بين الدراسات الطبيعية العلمية والدراسات النفسية الفنية، وإذاً فليكن في المنهج ثقافة عامة توسع الإدراك وتدقق الفهم، وتاريخ وجغرافيا يزيدان في معنى التجارب الإنسانية وثروتها، وعلوم طبيعية تفتح مجالاً للعقل وتؤدي به إلى الصيغ والقوانين الكلية، ولعب يجعل الدراسة شائقة وينفس عن الغرائز، وفلسفة خلقية وميتافيزيكية واجتماعية توطد من مركز الناشئ في المجتمع والكون وتفهمه علاقة الأرض بالسماء. . .!
أما الطريقة فلا تكاد تقل خطورة عن المادة، بل أن المستحدثات في التربية لتنصب عليها بوجه خاص، ذلك أن دراسة علم النفس للطفل وقواه قد كشفت عن أصول أساسية ينبغي أن يتبعها (المعلم) في تدريسه، ومن هذه الأصول ألا تكون الطريقة (قياسية) إلا في آخر مراحل التدريب؛ أعني أنها يجب أن تكون استقرائية قائمة على المشاهدة بحيث تجعل الطفل في حالة (اختبار) حقيقية يرغب فيها لذاتها، وتنبه فكره إلى المسائل التي يعالجها، وتتيح له القدرة على تدبير هذه المسائل بمعرفته وملاحظته، وتجعله مسئولاً عن حل الحلول التي تعرض له بطريقة منظمة، وتعطيه أخيراً الفرصة التي يختبر بها صحة فروضه ويتأكد من صحتها.
هذا إلى وجوب تفهيم الطفل قيمة ما يدرس ومدى نفعه في الحياة العملية والمعنوية ليزداد جهده فيه وإقباله عليه، وليكون قلبه معه دائماً في عمله، وإلى وجوب وقوف المدرس بين بين فلا يترك الطفل يمضى إلى إشباع ميوله دون رقابة، ولا يملي عليه ما يريد إملاء قسرياً، بل يتبين ما يتحفز فيه من غرائز وميول ويقدم له ما يساعده على ما يريد.
ولما كانت الطريقة هي ترتيب المادة بحيث تكون أكثر فاعلية في الاستعمال فإنها لا تكاد تخالف المادة قط. أليس من (يأكل) يتناول طعاماً هو (الأكل) نفسه؟
وقد نجم من فصل الطريقة عن المادة قلة فرص التجاريب أمام الطفل، وسوء فهم النظام والشوق، والعناية المقيتة بالحفظ وحده، وجعل عملية التعليم ميكانيكية عديمة الروح، فأدى الأمر إلى تخشب آلي (بسبب الفصل بين العقل والنشاط الذي له من خلفه غرض يدفعه).
أفرأيت هذا كله؟ أفلاحظت ما فيه من قوة ونفع وسمو؟ إنهم هكذا يفكرون في أمريكا وكذلك يطبقون. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية