مجلة الرسالة/العدد 237/الفهم الفلسفي للثورة على الأخلاق
مجلة الرسالة/العدد 237/الفهم الفلسفي للثورة على الأخلاق
للأستاذ عبد العزيز عزت
سيدي الأستاذ الزيات
قرأنا بإعجاب في الرسالة الغراء ما كتبتموه، وما سطره أساتذة الأدب العربي في الثورة على الأخلاق، فأكبرنا فيكم نزعتكم إلى تأييد الفضيلة بهذا الأسلوب. وقد لاحظت بجوار ذلك غياباً نسبياً للفهم الفلسفي في ذلك الحوار الأدبي، مع أن الموضوع يمت إلى صميم الفلسفة بصلة وصلات. لهذا دعاني الواجب الفلسفي أن أحرر هذه الكلمة لعلها تلقي بعض الضوء من هذه الناحية على هذا الموضوع:
فهم بعض الناس في مصر الثورة أنها النزاع بين وجهتي نظر متناقضتين؛ فهناك أنصار القديم، وهناك المجددون؛ وهناك رجال الدين، وهناك (المستغربون)؛ وهناك أصحاب الفضيلة، وهناك (المسترذلون). نزعة (التثنية) هذه في تصور الشيء وضده، هي نزعة (حربية) لا تليق بطبيعة التفكير جرتها علينا من بعيد الحضارة الفارسية التي يسودها مذهب زرادشت في كتابه الأفستا الذي يقول بتنازع قوة الشر (أهرمن) وقوة الخير (أهورا). وكذلك جرتها علينا - فيما أرجح - من قريب مبادئ الثورة الفرنسية في تصور معنى الحرية والاستقلال؛ فهناك ابن الوطن من ناحية، وهناك الملك من ناحية أخرى؛ ذلك لأن التفكير في ذاته وسيلة سلمية هادئة لخلق (التماسك) في عقلية الفرد، وخلق التماسك في عقلية المجتمع؛ وهذا التماسك هو الانتقال من حالة نوعية إلى حالة من نفس النوع يجوز لها التخصيص. فكل ثورة هي نهاية ظاهرة لحالة تطور هادئ سبقته، وتضمنت هذه الثورة؛ فهي إذاً حاضر لماضي سبق قد مهد لها، وهي حاضر كذلك لمستقبل يأتي، تمهد هي له الثورة في نظر الفيلسوف الألماني شيلنج لا يمكن أن تنفصل عن التطور وعناصره الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل. (التطور هنا لا يقصد به نظرية داروين وسبنسر التي أثبت خطأها أستاذنا الفيلسوف لالاند في كتابه: (خداع التطور) وإنما التطور الذي نزل من فلسفة أفلاطون وقالت به المدرسة الألمانية الحديثة وخاصة هيجل وشيلنج وهو التطور المنطقي لمظاهر التاريخ عامة). فالثورة بهذا الفهم هي عنصر أكيد للسلام والتقدم.
ولنأخذ مثلاً ثورة أفلاطون في العهد القديم. هذه الثورة كما يحدثنا الفيلسوف الألماني زللر في كتابه (فلسفة أهل اليونان) الجزء الأول - جمعت بين الفلسفة الطبيعية التي سادت التفكير اليوناني إلى ما قبل سقراط، وجمعت الفلسفة المنطقية التي وجدت في عصره عند السوفسطائيين، وكذلك الفلسفة الأخلاقية التي قال بها سقراط، ففيها يلتئم عنصر الماضي وعنصر الحاضر وكذلك عنصر المستقبل، لأن فلسفة أفلاطون ضمنت الحياة للفلسفات المنطقية والأخلاقية من بعده، الأولى في تلميذه أرسطو والثانية في زعيم الرواقيين كريزيب ومن أخذ عن هذين الفيلسوفين إبان القرون الوسطى من عرب، ورومان، ومسيحيين. وهكذا بعد أن كانت الفلسفة المنطقية من قبل أفلاطون سبيلاً للشعوذة والسفسطة والثرثرة، أصبحت فلسفة محترمة تبغي إقامة العلم والبحث عن الحقيقة المجردة. كذلك بعد أن كانت الفلسفة الأخلاقية من قبله وسيلة لإخضاع الفرد في المجتمع اليوناني أو الدولة الحاكمة، أضحت سبيلاً لتحريره وتقوية إرادته.
ومثل آخر في العهد الحديث: ثورة كانت الألماني فهي قد جمعت بين تيار الماضي - بالنسبة إليه - وهو تيار فلسفة ديكارت حينما يتكلم عن ملكات العقل، وتيار الحاضر - بالنسبة إليه - وهو تيار الفلسفة الإنجليزية الممثل في فلسفة دافيد هيوم لأن (كانت) نفسه يقول أن هيوم (أيقضه من سباته الفكري). ونجد أثر هذا ظاهراً عندما يتكلم كانت في أثر الحواس في نظرية المعرفة؛ أما عنصر المستقبل فهو أن كانت كفل الحياة من بعده لفلسفات تنطق تارة باسم العلم مثل فلسفات أوجست كنت، وكورنوه وفلسفات تنطق باسم المنطق والإلهيات مثل فلسفة لاشلييه وفلسفة بوتروه (اقرأ كتاب أستاذنا العلامة الكبير لاسباكس أستاذ الفلسفة بجامعة كليرمون، ورئيس المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، والسكرتير السابق للوزير بريان وعنوانه: (المنطق وتطور العالم).
وعليه فالثورة في التفكير هي عنصر للسلام أي التوفيق بين الماضي والحاضر الفكري، ومظهر للتقدم، أي يجب أن تكفل خلق تيارات جديدة للفكر في المستقبل.
أما الآن فلنتحدث عن الثورة (الأخلاقية). الثورة في مجال الأخلاق تتضمن الإقرار بوجود هذا المجال، وتمييزه في نفس الوقت عن المجالات الأخرى كمجال النفس والاجتماع والمنطق، والإقرار كذلك بأن له طبيعة خاصة وأصولاً للتفكير فيه، وإلا أصبح البحث عبثاً، والجدال رغاء، وقلبت الأوضاع، وأنكر التاريخ، وجحدت المجهودات القائمة للفلاسفة. فنحن إذاً لا نوجه كلامنا إلى أصحاب الرذيلة الذين بخسوا الفضائل حقها. ولكنا نوجهه إلى الأساتذة أصحاب الفضيلة فنقول:
الثورة في مجال الأخلاق لا تبنى على إنكار الفضائل، وتجاهل أمر الثورات الأخلاقية في تطور التفكير البشري، ولكن على علاقة الفضيلة بالرذيلة أولا، وعلى استعراض التصور النوعي للفضيلة في الثورات الأخلاقية.
(1) أما عن تحديد علاقة الفضيلة بالرذيلة فلا يمكن البحث عنها خارج فلسفة الرواقيين، لأنه أعظم مبدأ أخلاقي وجد إلى الآن في تطور التفكير الإنساني، وذلك لأنه قضى على مبادئ الأخلاق التي تقدمته بتعاليمه السامية. فبينما سقراط يجتهد أن يتخذ من الأخلاق سبيلاً لتقييد حرية الفرد وإخضاعه للدولة الحاكمة في المجتمع اليوناني، نرى أفلاطون يفترض السوء في طبيعة الإنسان ويجتهد بعد ذلك أن يرفعه إلى قداسة عالم المثل. كذلك أرسطو فهو يميز وبنوع بين خلق الله فيقر الرق والاستعباد، ويضع أخلاقه للسادة من الناس، والأرستقراطية التي قضت مباشرة على مبادئه وأضحى فكره ميتاً بعد حروبا الاسكندر الأكبر، لأن المجتمع اليوناني في ذلك الزمان أصبح في حاجة ماسة لمن يخاطبه بلغة قليلة التجريد - أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال، يتحقق خلالها ذلك الفهم الواسع الذي أدركه اليونانيون باحتكاكهم بعد تلك الحروب بسائر الأمم الأخرى، لهذا لاقت تعاليم الرواقيين نجاحاً عظيماً وخاصة تعاليم كريزيب (اقرأ كتاب أستاذنا أميل برهييه وعنوانه كريزيب في مجموعة أَلكان لكبار الفلاسفة) لأنها ألغت الرق، وجعلت الناس سواسية كأسنان المشط أمام القانون الأخلاقي، وافترضت الخير في طبيعة الإنسان. وأهمية هذا المذهب لا تقف عند هذا الحد لأنه ساد بعد ذلك كل العالم الروماني، وعالم القرون الوسطى في أوربا خلال آباء الكنيسة. والأهم من ذلك أخيراً أن زعماء الفكر الحديث عندما كتبوا في الأخلاق تأثروا بالرواقيين، فمثلاً ديكارت في خطاباته مع البرنسيس اليزابيث، وسبينوزا في كتاب (الأخلاق) وكانت في كتابه عن الأخلاق.
فالرواقيون آباء الأخلاق لم ينكروا في ثورتهم الفضائل ولم يبخسوا كذلك الرذائل حقها وما لها من أهمية في الحياة؛ غير أنه يستحيل في نظرهم فصل الاثنين عن بعضهما، لأن الإنسان مركب من روح وجسم وهي البداهة كلها فله شهوات تدعو إلى الرذيلة، وله غايات روحية سامية يريد تحقيقها؛ غير أن الشهوات والميل إلى الرذيلة ليست بطبيعية في الإنسان، فالإنسان كأساس خَير بطبعه، ولكن الحياة الخارجية المادية ومغرياتها هي التي تفسد عليه داخليته ونفسه الطاهرة. ولما كان أغلب الناس لا يمكنهم التضحية بمغريات الحياة الخارجية؛ أضطر الرواقيون ألا يتجاهلوا أمر الرذيلة وأثرها في التخلق فحسبوا لها حساباً بل جعلوا منها ضرورة لازمة للفضيلة؛ ويقدمون لذلك ثلاث حجج، (يجدها القارئ في كتاب أستاذنا برهييه والأستاذ بيفان
أولاَ - حجة بالمقارنة؛ فالرذيلة تابعة للفضيلة وشرط أساسي لها؛ ويضربون لذلك مثلاً جمال رأس الإنسان الذي يتضمن في نفس الوقت نوعاً من الضعف هو رقة عظامه وتعرضه في أي لحظة للأخطار الطارئة، فإذن ليس هناك جمال خالص من ضعف أو قبح يشوبه، كذلك. , ليس هناك فضيلة خالصة ولا بد للرذيلة أن تلازمها فهي ضرورية لها.
ثانياً - حجة منطقية: تتلخص في أن النقيضين متضامنان؛ فالخير يتضمن الشر في تصوره، والحسن يتضمن القبيح في إدراكه، والفضيلة تتضمن الرذيلة وهلم جرّاً. . .
ثالثاً - حجة أخلاقية: يقول الرواقيون: الرذيلة ليست من طبيعة مغايرة للفضيلة، فكلاهما من نوع واحد. وليست الرذيلة هي حرباً على الفضيلة، وإنما هي فضيلة ضالة، والعقل في تصورها وفعلها خاطئ، ومهمة الأخلاق هي العودة بما ضل إلى الطبيعة الخيرة الأولى.
هذا الفهم للعلاقة بين الفضيلة والرذيلة اضطر الرواقيين إلى تصوير نوعين من الأخلاق: أخلاق لا يصح أن نسميها (خارجية) نجدها في كتاب (الواجبات) لشيشرون، وهي تختص بمغريات الحياة الجارية وتنبني على ما يجب فعله وما لا يجب أن يفعله الإنسان في يومه، والتحقير من أهمية الماديات لتغير قيمتها بتغير الأشخاص والأزمان والأصقاع، فهي أشياء عارضة، وينبغي الزهد فيها، والإعراض عنها، فهي أخلاق تهتم بتخفيف وطأة الرذيلة.
وأخلاق نسميها (داخلية) تبنى على رياضة الإرادة، أساسها ضبط النفس وغرضها الوصول إلى الخير المطلق، ونجدها في كتاب شيشرون المسمى وهي ما يصح تسميتها كذلك بلغة العلم الحديث (أخلاق نظرية) ترمي إلى خلق الانسجام بين إرادة الوجود في الفرد، وإرادة الوجود في العالم، وإرادة الوجود في المجتمع.
كذلك الاستعراض النوعي للفضائل في ثورات الأخلاق، يدل دلالة واضحة على أن هذه الثورات لم تكن حرباً على الفضيلة ولم تكن للحط من قيمة الإنسان إلى قدر هو أرفع منه؛ وإنما كانت برداً وسلاماً عليها، ترسم سبل الوصول إليها وإمكان تحقيقها: فالثورة اليونانية الأخلاقية كما يذكر الفيلسوف بوتروه في كتابه (مسائل في الأخلاق والتربية) كانت ترمي إلى رفع الإنسان إلى القداسة العقلية بحيث يصبح العالم بيتاً للإنسان والآلهة (أنظر كذلك شيشرون (طبيعة الآلهة)). ويتحقق حلم الرواقيين في خلق مدينة العقلاء فيسود السلام على الإنسانية، بإحسان كل إنسان إلى أخيه فلا يبقى هناك فضل (ليوناني) على أجنبي.
والثورة الدينية في الأخلاق: إبان القرون الوسطى ويمثلها فيلون الإسكندري في اليهودية، والغزالي في الإسلام، والقديس أوغسطين في المسيحية، تتلخص كلها في تلك النزعة القديمة الشرقية التي أختص بها الجنس السامي وهي فكرة الخطيئة الأولى وما تتطلبه من التحلي بالفضائل كوسيلة لإنفاذ خلق الله من وصمتهم والعود بهم إلى جنات الخلد والنعيم (أنظر كتاب مُنك (في الفلسفة العربية اليهودية)، وكذلك كتاب أستاذنا العلامة جلسن بالكليج دي فرانس وعنوانه: (المسيحية والفلسفة)).
ثم جاءت بعد ذلك الثورة الحديثة في الأخلاق تقيم الفضائل وتناصرها ولكنها تفهمها بشكل آخر جديد، فبينما نجد القداسة العقلية عند اليونان، والقداسة الربانية عند اليهود والمسلمين والنصارى، نجد القداسة العملية النفعية عند الإنجليز في شخص هبز ومدرسة بنتام وميل وسبنسر (أنظر عند الإنجليز وأيضاً سبنسر التطور والأخلاق.
أصبحت الأخلاق عندهم تهتم بالحياة الجارية وتتأثر بالفهم الرياضي فأضحت (حساباً للذات) من وجهات الكم والكيف، والبقاء، والزوال؛ وأصبح الفرد وأنانيته محوراً للأخلاق. ظهرت ثورة أخلاقية جديدة في ألمانيا هي ثورة كانت تذكرنا بآراء الرواقيين في العهد القديم لأنها ترتكز على فكرة الواجب ' المجرد عن الغايات النفعية والأغراض العارضة، وأن الإنسان في تخلقه يجب أن ينظر إلى ثلاثة أفكار: أولاً: أن يكون التخلق واحداً لكل الناس. ثانياً: أن يحترم الإنسانية في شخصه. ثالثاً: أن يتخلق وأن يملي على نفسه تخلقه دون أن يخضع في ذلك إلى مؤثر ما. لهذا كانت نهاية مبدئه الإرادة الحرة (انظر دلبوس فلسفة كانت ونحن بعد هذا لا نريد أن نعدد الأمثلة أكثر من ذلك لنثبت أن للأخلاق والثورة عليها أو فيها طبائع وأصولاً ومبادئ لا تبرر مطلقاً ما ذهب أليه الثائرون. لهذا غضبت النفوس الكريمة وناصرت الفضائل التي هي السبيل الوحيد لوجود الضرر كمنكر، لأن ديكارت لا يفصل التخلق عن المعرفة والسبيل الوحيد كذلك لوجود الفرد اجتماعياً، لأن دور كيم لا يؤمن بقيمة الفرد إلا إذا آمنت الناس من حوله بما ينطق ويفكر. فما كتبه الأستاذ الزيات، وعزام، والخولي هو لسان المجتمع في هذا الموضوع المعبر الصادق عن المشاعر الخفية التي تكنها نفوس المصريين أجمعين من حولهم، فليكفر إذا هؤلاء الثائرون - اعتباطاً - عن آرائهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة.
عبد العزيز عزت
خريج جامعات القاهرة وباريس، وكليرمون
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة