مجلة الرسالة/العدد 237/بين القاهرة واستنبول
مجلة الرسالة/العدد 237/بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 5 -
متاحف طوب قبوسراي
يا أخي صاحب الرسالة
سلام عليك
وقفت بك في الرسالة السابقة على عرش الشاه إسماعيل الصفدي. وجدير أن نطيل الوقوف عند هذا العرش الذي بذلت الصناعة وسعها في هندسته وتذهيبه وترصيعه وتلوينه، ولاءمت فيه يد الإتقان بين الذهب والمينا والزمرد والياقوت، وألفت بين ألوانها تأليفاً متآلفاً مرضياً، وقد أرى فيه الذكر تتلألأ تلألؤ الجوهر.
وقفت عند هذا العرش أذكر الشاه إسماعيل هذا الملك الجبار الذي نشأ في زلازل الحادثات حتى ملك أزمة دولة مبتدأة وهو لم يبلغ الحلم؛ وما لبث أن مد سلطانه ما بين العراق إلى الهند، ثم أورث أبناءه دولة لا تزال آثارها شاهدة بمآثرهم، ناطقة بعظمة ملكهم، مذكرة بما طوى الدهر من سلطانهم.
هذا العرش ما خطبه، ما باله وخزائن سلاطين آل عثمان؟ هنالك ذكرت جلاد سليم وإسماعيل، وذكرت موقعة جالدران الموقعة التي كادت تذهب بدولة إسماعيل الناشئة؛ لولا أن عاقت سليماً العوائق. وجالدران وأرمديد وشمالي أذربيجان اصطفت فيه جنود سليم وجنود إسماعيل سنة 925 من الهجرة. قسم سليم جنوده، وجعل الانكشارية في القلب واتخذ مكانه خلفهم، وجعل المدافع وراء الجناحين وشد بعضها إلى بعض بالسلاسل. وصف إسماعيل جنوده، وتولى قيادة الجناح الأيمن مائة وخمسون ألف جندي صمدت لمثلها؛ فانظر هذه الحرب المتأججة يضرمها ثلاثمائة ألف!
ويحمل إسماعيل الفتى الشجاع، معتزاً بجنده، مفتخراً بنسبه العلوي، مصمماً أن ينتصر أو يقتل، ويشق جناح العثمانيين الأيسر ويحسب أن النصر مقبل عليه.
وتظاهر جناح العثمانيين الأيمن بالهزيمة وانقسم، فتحمل ميسرة إسماعيل وترمي بنف في الفرجة بين القسمين فإذا هي أمام المدافع، وإذا النيران تأخذها من كل جانب. لا تتبدل الحال ويواتي العثمانيين الظفر.
ويسقط إسماعيل عن جواده جريحاً وينجيه من الأسر القريب الفرار إلى تبريز
وبادر سليم يجمع الغنائم، ويزهى بما نال من ظفر على عدوه الجبار.
وسليم يدخل تبريز بعد ثلاثة عشر يوماً دون حرب، وكانت تبريز يومئذ دار الملك وبها خزانة إسماعيل قد جمع فيها ما أخذ من التيموريين وغيرهم من الأمراء الذين غلبوا على ممالكهم. وبينما يدبر للاستيلاء على ملك إسماعيل كله يرى بين جنوده إمارات العصيان فيرجع أدراجه قانعاً بما أحرز من نصر وما ملك من بلاده. ثم لم يقم في تبريز إلا ثمانية عشر يوماً.
هذا العرش مما غنم سليم في هذه الحرب الضروس.
وذكرت حينئذ الرجل الكبير قانصوه الغوري الذي خشي صولة سليم فمالأ الشاه إسماعيل فأفسد ما بينه وبين العثمانيين. وتتابعت الأحداث حتى كانت وقعة مرج دابق في رجب سنة 922 قبل وقعة جالدران بسنين ثلاث. وتصورت سليماً يحرز نصراً بعد آخر ويطوي مملكة بعد مملكة بجنده وعدده، ولا سيما هذه المدافع التي لم يتسلح بها محاربوه.
وعدت أتذكر ما أعقبت عداوة سليم وإسماعيل من عداوة بين المسلمين، وما أثارا من ضغينة بين أهل السنة والشيعة، وما كان القتال إلا على السلطان والجاه وإنما كانت المذاهب تعلة.
ثم تمادت الفكر وتوالت الذكر فأخذت أقيس الرجال الثلاثة واحداً بآخر، وأتذكر ما كان منهم في السياسة والعلم والأدب. وقلت: هؤلاء الثلاثة الذين سيطروا على وسط البلاد الإسلامية كانوا يمثلون ثقافة الأمراء المسلمين. وفيما أثر عن ثلاثتهم من شعر نماذج من أدب أمرائنا في القرن العاشر الهجري. وهممت أن أكتب إليك في هذا يا صاحب الرسالة ثم تذكرت أني أصف آثاراً في متحف، وأن الكلام على قانصوه وإسماعيل وسليم جدير أن يستأثر بمقال أو أكثر. ولعلي أجد فرصة بعد.
عبد الوهاب عزام