مجلة الرسالة/العدد 187/الفقر أستاذ. . .
مجلة الرسالة/العدد 187/الفقر أستاذ. . .
للأستاذ السيد محمد زيادة
التقى رجلان فقيران، كلاهما مدقع ذليل لفقره. . . وجلسا يتشاكيان ويتناجيان بأحاديث يصل فيها الفقر إلى الألم، ويصل الألم إلى الحسرة، وتبلغ الحسرة إلى الثورة، وتنتهي الثورة إلى الدموع. . . ثم يكون بعد الدموع الاستلام والجلد والهدوء والراحة
قال أحدهما للآخر: هبك أصبحت غنياً من أهل الترف والنعيم والجاه؛ فكيف تكون في غناك، وماذا تعمل إذ ذاك بمالك؟.
فأجاب: أكون ظلا مباحاً يأوي إليه الشَّرَدُ بلا قيد، ويتفيؤه الفقراء بغير عناء، وأكون حلقة الاتصال بين الأغنياء والمساكين. . . أعطي أولئك المكانة والمظهر، وأعطي هؤلاء النفس والجوهر
وأما مالي فلا يكون ألا مطية للكرم ومجالاً للعطف وسبيلاً للرحمة، ولا أكون عليه إلا كالأمين على مال موقوف للخير ولا يكون لي منه ألا ما للمرضع من لبن ثديها تدرُّ به للتربة
والتقى رجلان غنيان كلاهما مرهوب مرفوع لغناه. . . وجلسا يتداعبان ويتنادمان بأحاديث يصل فيها الغنى إلى الفخر، ويصل الفخر إلى الكبر، ويبلغ الكبر إلى التعاظم، وينتهي التعاظم إلى الوقاحة. . . ثم يكون من الوقاحة انتفاخ الأوداج واتساع المزاعم وادعاء المستحيل
قال أحدهما للآخر: هبك أصبحت فقيراً من أهل البؤس والعدم؛ فكيف تكون في فقرك؟ وماذا تجد إذ ذاك في دنياك؟
قال الثاني: وهل تتوقع الفقر لأمثالنا؟
قال الأول: ليكن هذا مستحيلاً، ولنفرض انه وقع. . .
قال الآخر: إذن أنتحر. . .
ومشت الأيام في طريقها إلى غايتها. . . فإذا الفقير المعدم غني موسر يتدرج نحو الثراء وشيكاً؛ فيجد في كل عمل حظاً، ويكسب من كل حظ ثروة، ويحس في كل ثروة سعادة. . . لأن الدنيا رضيت عنه فراحت تسترضيه، ومالت إليه فأخذت تستميله وقد كان بين آخر العسر وأول اليسر يحمل تلك النفس الطيبة التي كان يحملها وهو فقير والتي أوحت إليه إذ ذاك أن يقول لصاحبه ما قال. . . فظلم نفسه باستمساكه بمذاهب الفقر واستعذابه حياة الفقراء!!. ثم تتغير قليلاً فكانت دنياه مزيجاً من حياته القديمة وحياته الجديدة، فأنصف نفسه بذلك وعدل بين الفقر والثراء!!. ثم تتغير تغيراً بينياً فنسى الفقر ونسى أنه كان فقيراً، وحقر الفقراء واستقر في الأغنياء، وطغى واستكبر، وبدل النفس الخيرة بنفس شريرة، واستطاب لسانه كلمة أنا. . . وبذلك لبس الغنى كما يشاء الغنى أن يلبس
وويل للغني من جهلة إذا تسلط على عقله الغرور فتعبده!!. ينسيه أنه إنسان ويلقي في روعه أنه فوق مرتبة البشر، ليجرد من صفات الإنسانية، ويكسوه صفات غيرها تصيره تحت؛ ودائماً تحت مرتبة البشر. . . المال في يده مفسدة لخلقه ومضيعة للفضيلة ونداء للجشع وقضاء على الرحمة. . .
لقد تلف الرجل، وفقدته الحياة حياً فلم يصبح معدوداً في الناس؛ وإنما اصبح رقماً حسابياً لثروة واسعة ليس من ورائها خير
ومشت الأيام في طريقها إلى غايتها، فإذا الغني الذي استبعد على نفسه الفقر قد رجع فقيرا يستبعد على نفسه الرجعة إلى غناه. تمور به الدنيا وتهيئ له في كل خطوة عثرة، وفي كل عثرة كبوة، وفي كل كبوة مصيبة، وفي كل مصيبة هماً وشقاء. . . لأنها غضبت عليه فراحت تقصيه عنها شيئاً فشيئاً لتقطع أسباب المودة بينها وبينه
وكان في بدء انكسار حظه واغتراب نجمه يستكبر على الفقر ويتعظم على القدر، ويحاول بشق النفس ألا يتحول مرتعه ولا يتبدل منزعه، فوضع نفسه بهذا أمام الدنيا في موضع الحرَد والعنت ليناصبها العداء، ويملي عليها العصيان والكبرياء!!. ثم اشتدت عليه غضبة الدهر فأيقظت فيه بعض عقله ونبهته إلى حاله ومصيره. . . فأعتدل طغيانه، وفتر عنفوانه، وهمت به نفسه الخائرة الواهنة تريده على أن ينتحر فراراً من الفقر النازل؛ ولكن راجعته بوادر السمو المنساقة إليه في بوادر الفقر. . . فتشجع واستمهل نفسه فيما أرادت!!. وكان في هذا كالذاهب على رغمه إلى ميدان الحرب. . .
ثم تمت صنعه الفقر فيه. فتأهب للصبر الطويل، وتماسك عزمه لاحتمال الفاقة وصراع الزمن. وتهذبت سريرته من شوائب الغنى وكفر المادة؛ وبذلك أسلمت نفسه بالحقيقة وحسن إسلامها.
الفقر في ذاته قبيح شديد القبح؛ ولكنه في عمله جميل رقيق الجمال، إذا نزل بالرجل مسخه وبدل في طبيعته، وصير منه للناس الفقراء رجلاً خفيفاً محبوباً، وصير منه للناس الأغنياء رجلاً ثقيلاً مبغضاً، وصير منه بين أولئك وهؤلاء رجلاً بين المحبوب والمكروه. . . فيصبح الرجل بفقره ثلاثة رجال، لكل منهم روح خاصة تضعه في مكانه من الإنسانية
وإذا رضى الله عن رجل ممن ولدوا أغنياء واحبه امتحنه بمحنة الفقر ليخلق منه إنساناً في أرفع درجات الإنسان، وإذا غضب رجل ممن ولدوا فقراء ومقته هيأ له الغنى وغمره به، ليخلق منه رجلاً آخر بين الإنسان والحيوان. . حتى إذا أراد الله وعاد الأول إلى غناه وعاد الثاني إلى فقره شعر كل منها بنعمة الفقر
وإن الفقير ليتعلم من فقره القناعة فيجد سعادته في قناعته، كما يتعلم الغني من غناه الجشع فيجد شقاءه في جشعه. . .
ولا يعرف الفقير أنه فقير إلا إذا عرف أن غيره غني. . . ولا يشعر بوجود الفقر معه إلا إذا شعر بامتناع الغني عليه؛ فإذا اجتمع قوم من الفقراء ولم يكن بينهم واحد من الأغنياء، لم يجدوا للفقر مَضَضاً ولوعة، ولم يحسوا أنهم الفقراء. . . حتى يكون منهم أو يكون بينهم ذو يسار فيرونه في مباهج النعيم ومناهج السعادة، فيفكرون فيجدون في حياته حياة أخرى لم يألفوها ولم يعرفوها، ثم يفكرون فيجدون في حياته فراغاً لا يملؤه إلا المادة، ونقصاً لا يسده إلا الثراء. ثم يفكرون فيعرفون أنهم فقراء. . .
والفقراء في هذه الحياة مظلومون لأنهم يحرمون بقدر ما يعملون. . .
والفقر يمتاز من الغنى بأنه ألزم للحياة وادعى لسلامتها. فليس الناس إذا جمعهم الفقر فصاروا جميعاً فقراء، كالناس إذا جمعهم الغنى فصاروا جميعاً أغنياء. . إذ لو أراد الله الحالة الأولى لوجدنا الناس كتلة واحدة مبنية على الطهارة الفطرية مدعمة بالإخلاص الروحي؛ يتبادلون المعروف ويتعاونون على أيامهم بمناعة الأيمان وقناعة النفوس. . . فتصلح لهم وتصلح بهم الحياة، ويعيشون في نعيم دونه نعيم الغني. . .
ولو أراد الله الحالة الثانية لوجدنا الناس كالوحوش بنفوس داجية وعقول ضارية؛ يتعشق كل منهم التسلط حيث لا مجال للتسلط، ويستكبر على القيام براحة نفسه فلا يجد من يقوم براحته. . . فتفسد عليهم وتفسد بهم الحياة، ويعيشون في جحيم أخف منه جحيم الفقر. . .
فالفقر أستاذ أخلاق، ومن قدر له أن يكون أحد تلاميذه فقد قدر له أن يتقلى دروس الحياة.
طنطا
السيد زيادة