مجلة الرسالة/العدد 187/التعب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 187/التعب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 02 - 1937



للأستاذ محمد جلال

ألقى الأستاذ ميكائيل فستر خطبة في هذا الموضوع بجامعة كمبردج في 14 يونية سنة 1893 لا تزال ذات قيمة.

ولابد للباحث من الرجوع إليها ليعرف نشوء الآراء وتبدلها فيما هو بصدده. ولذلك سأبدأ بتدوين ملخص رأيه.

قال الأستاذ فستر: (إن قوة الإنسان الجسمانية محدودة بنقيصتين هما: ميل الجسم إلى السكون حتى ليعسر حثه على الحركة. وسرعة استعداده للتعب، أي العجز عن مواصلة العمل المطلوب منه.

والتعب ينشأ حتى من تكرار أبسط الحركات. ولنضرب لذلك مثلاً تحريك صنج أو ثقل باليد. أن هذا العمل يتم فسيولوجيا على الوجه الأتي: يحصل في الجهاز العصبي المركزي - ولنطلق عليه اسم (المخ) تبسيطاً للشرح - تغيرات تبعث على حدوث تغيرات أخرى في حزم من الألياف تسمى الأعصاب. وهذه التغيرات التي يسميها الفسيولوجيون دوافع عصبية تحدث في العضلات تغيرات من شأنها أن تجعلها تقصر ثم تنكمش حتى تتلاقى أواخرها معاً. وفعلها هذا يحرك روافع عظيمة. وبذلك تنثني الذراع أو اليد ويرفع الثقل

ومن الجلي أن التعب قد ينشأ بطرق ثلاث على الأقل.

(1) نكوص العضلات

(2) نكوص الأعصاب

(3) نكوص المخ، أو نكوص اثنين منها أو الجميع معاً.

أما ما يعتري العضلات من نصب فلا يتوقف على مقدار ما تنفقه من جهد مثل ما يتوقف على مقدار سرعة ذلك الجهد وتعويضه، أي على مقدار الفرق بين سرعة الهدم وسرعة البناء

ويشذ القلب عن جميع عضلات الجسم بأنه لا يعرف الكلل، وحينما يعجز عن الاستمرار في تأدية وظيفته يكون ذلك بسبب اختلال أو فساد يصيب أحد أجزاء الجسم الأخرى لا بسبب اختلاله أو فساده هو ألا في ما ندر.

وتوجد عوامل لتعب العضلات غير الإفراط في بذل رأس ماله الحيوي، ذلك بأنها ميدان حياة وموت، إذ تحمل إليها الشرايين مواد حية وتنقل منها الأوردة مواد ميتة. ومن مظاهر الحياة الغريبة أن كل عضو يصنع سماً لنفسه وهو يؤدي حركة من حركة

فالتعب يتوقف على مقدار ما تفرزه العضلة من السم الضار بها كما يتوقف على ما تدخره بقية أجزاء الجسم من قوة تعين بها تلك العضلة على مقاومة ما يعتريها من وهن بإزالة السموم وجلب مواد حية جديدة.

على أن كل عمل تأتيه العضلات يشاركها فيه المخ والأعصاب، وما ينجم من تعب لا يصيب العضلات وحدها. ومن المشاهد أن الإنسان قد يبلغ به الجهد حد الإعياء، ومع ذلك قد يدفعه الفرح أو الخوف المفاجئ إلى إتيان ما كان يظنه منذ لحظة مستحيلاً، وقد تشل حركتنا وتنضب قوتنا من تأثير انفعال مباغت. ولما كانت العضلات لا تحس ولا تشعر ولا تدري بما يفاجئ، فلا يمكن أن تتأثر بالانفعالات، فالتعب الذي يمحوه الأمل أو الذي يعجل به اليأس لا يمكن أن يعزى إلى العضلات بل لابد أن يكون مصدره الجهاز العصبي.

وهنا يجب التنبيه على التفرقة بين الأعصاب والجهاز العصبي فالأعصاب لا تتعب مطلقاً، وإنما الذي يكل هو المخ أو الإرادة، وهذا ما نقصده بالجهاز العصبي، وهو أقل قدرة من العضلات على تحمل التعب. ولعل سرعة تكرار ذبذبة الأمواج الصوتية والضوئية وغيرها مما يجتهد المخ مسجل الاحساسات، فأننا لنرى أن الصوت المستمر يأتي علينا وقت لا نسمعه كما نفقد الشعور بلمسة واصبة ولا نشعر بحلاوة ما نأكل أو نذوق من مادة سكرية نأكلها أو نذوقها دون انقطاع، وإحساسنا يكاد يصبح بليداً، دون أن ندرك بفعل التكرار، ولذلك تفقد الملذات لذتها في نظرنا بطول المدة وتشبع الجسم وسآمته

ولما كانت أعضاء الجسم جميعاً مرتبطة في العمل، فالجهد الذي يصيب أحدها لا تسلم منه سائر الأجزاء. . . ولما كان الدم يحمل السموم كما يحمل المواد المنعشة فإن مروره في الجهات الحساسة كالمخ قد يسبب لها اضطراباً وقلقاً أو تخديراً وموتاً.

على أن تلك السموم تفيد بعض الأعضاء التي تتغذى بها أو تحولها إلى مواد غير ضارة أو تقذف بها إلى خارج الجسم، ولذلك تجب علينا العناية بالأعضاء الداخلة وخصوصاً الكبد.

ولا يفوتنا أن الجلد لا يقل أهمية عن الكبد. وليذكر كل واحد أن لأبداننا علينا حقوقاً يجب أن نوفيها بالراحة والرياضة غير المجهدة).

هذا بعض ما يقوله الأستاذ فستر.

أما الدكتور فلوري فقد أفرد باباً للتعب في كتابه الطلي الذي جعله مقدمة لطب النفوس، وفيه يقول: (إن الإنسان يستنفد قواه اليوم ما يتعرض له من مختلف الذبذبات، فقد أقام المسيو فيريه البرهان على انه يكفي أن يمر تحت نظرنا لون زاه، أو على سمعنا صوت، حتى يهيج جهازنا العصبي إلى حد يزيد قوتنا مؤقتا ثم يعقب ذلك خمول دائم. فإذا قدرنا ما يقع تحت أبصارنا من ألوان الصور، وما يقرع أسماعنا من أصوات الموسيقى وحركة العربات وغيرها، أمكننا أن نكون فكرة عن مقدار ما يذهب من قوانا هباء بسبب التعب الجسماني ليس غير

وإذا أضفنا الإجهاد العقلي وما تستنفده حياتنا العاطفية استطعنا أن نعرف أن أجل نومنا قصير لا يعوض ما كابدنا من مشقة، وهذا هو الإرهاق بعينه، ولا يكون علاج هذا الإرهاق المدمر ألا بإحدى وسائل ثلاث:

الراحة والمران ثم تنبيه المراكز العصبية تنبيهاً منظماً

أما الراحة فتتطلب العزلة التامة بعيداً عن المنغصات والمثيرات في بيت من بيوت العلاج المائي بحيث لا يقطع تلك الحياة البسيطة التي يقضيها المجهد هناك ألا فترات الأكل والاستحمام والنزهة والتعرض لتيارات الكهرباء الاستاتيكية.

وفلوري يرى أن هذه الوسيلة شرها أعظم من خيرها ولا يقرها علاجاً إلا حين يخفق كل علاج سواها، فإن المرء لا ينبغي له أن يرتمي في أحضان السآمة بل يجب عليه أن يصون نشاطه ويذكيه بتنمية ميله الطبيعي إلى العمل بالمران. فإن البطالة والكسل مصدر كل الموبقات ومنبع عدة اضطرابات وأمراض عصبية. والتعب الحقيقي نادر عارض لا يلازم المفكرين المنتجين إلا أمداً قصيراً، ولكنه كثيراً ما يلازم الفارين من متاعب الحياة الذين يقضون أوقاتهم دون عمل، والذين لا ينتجون إلا إذا هبط عليهم وحي أو الهام. لأمثال هؤلاء لا تنفع الراحة إذ هم في راحة دائمة، والراحة لا تفيد ألا من تعوزه، وهي لا تعوز ألا من يبذل أقصى الجهد في عمل متواصل. أي أناة وجلد ومثابرة، وأي جهد استلزمته مؤلفات إسكندر دوماس الكبير أو مؤلفات بلزاك أو ميشليه أو هوجو أو تيير؟ فلنر كيف كان هؤلاء الفحول يشتغلون

يقول دوماس الصغير في والده: لم يكن والدي يشتغل متقطعاً، بل كان يشتغل يومياً من وقت استيقاظه حتى الظهر غالباً؛ ولم يكن الغذاء ألا فترة راحة، وإذا تناول طعامه وحيداً، وهذا نادر، نقلت له مائدة صغيرة إلى حجرة العمل حيث يأكل برغبة ولذة كل ما يقدم إليه. فإذا انتهى الأكل عاد إلى كرسي العمل وتناول قلمه. ولم يكن يشرب وقت الغداء إلا النبيذ الأحمر أو الأبيض مخلوطاً بماء سلتز، فلا قهوة ولا خمر ولا تبغ. أما بقية اليوم فلم يكن يتناول فيه ألا شراب الليمون. وشغله في المساء قليل، ولكنه على كل حال لم يكن يسهر أبداً حتى ساعة متأخرة من الليل بل كان ينام نوماً عميقاً.

ولم يكن يشعر بتعب ألا إذا قضى على هذه الحال عدة أيام بل عدة اشهر. عند ذلك يسافر للصيد والقنص في رحلة قصيرة يستغرق معظم وقتها في النوم دون أدنى تفكير، فإذا ما حل ببلدة فيها ما يدعو إلى الفرجة ذهب لمشاهدة غرائبها ودون مذكرات عنها؛ فكل راحته في تغيير العمل.

ولقد شاهدته في عدة سنين يصاب بالحمى يومين أو ثلاثة عقب عمله اليومي المستمر، وتبلغ ضربات قلبه 120 أو130 فيعالج نفسه بالنوم العميق وشراب الليمون يوضع له في جفنة عظيمة على منضدة بجوار السرير، فكلما استيقظ تناول جرعات، منها وبعد مضي يومين أو ثلاثة ينتهي كل شيء فيقوم ويستحم ويبدأ عمله.

وكان دائماً في صحة جيدة لا يرتاح راحة تامة إلا في الصيد والسفر، ولم أعهده يرتاح في المنزل مطلقاً. غير أنه كان كثير النوم؛ وقد ينام بالنهار (على حسب هواه) ربع ساعة نوماً مصحوباً بشخير عظيم، فإذا ما استيقظ امسك بالقلم، ولم يكن يمحو شيئاً حين يكتب، وكان جميل الخط

أما دوماس الصغير فكان على خلاف والده، متقطع العمل يسكت أشهرا ثم يستأنف الكتابة، ذلك بأنه كان عديم الخيال، معتمداً في تأليفه على الملاحظات والتفكير؛ فكان لابد من أن يستغرق زمناً طويلاً في المشاهدات، ثم يفكر في طريقة صوغ القصة، حتى إذا ما نضجت عمد إلى تدوينها على القرطاس؛ وكان يقضي مدة المخاض في حركة، حتى إذا ما أراد الوضع بدأ عمله مبكراً واستراح عند الظهر. وكان يحب التأليف في الريف، ولا يشتغل في اليوم اكثر من ساعتين أو ثلاث، وكلما طال عمله طال نومه وقلت رغبته في الأكل، وكانت صناعة الكتابة منهكة له، وكثيراً ما اضطر إلى الانقطاع عن العمل بتاتاً مددا طويلة.

على أنه كان كأبيه من حيث الاعتدال، فلم يكن يشرب نبيذاً ولا قهوة ولا خمرا ولم يكن تبغاً.

أما بلزاك العظيم فقد كان غريباً في حياته التأليفية. فلم يكن يكتب ألا بعد أن يلبس لباس الهبان، وكذلك كان سلوكه مثلهم منظماً نقياً جيدا. ويروى تيوفيل جوتييه أن بلزاك كان ينصح لتلاميذه أن ينقطعوا للعمل سنتين أو ثلاثا بمعزل عن الناس، وألا يشربوا إلا الماء ولا يأكلوا إلا الأرانب، وأن يناموا عند تمام الساعة السادسة مساء ويستيقظوا عند منتصف الليل فيبدأوا عملهم حتى الصباح، كما كان ينصحهم بالعفاف المطلق؛ وكان كثير التكرار لهذه النصيحة الأخيرة. ولم يكن هازلا في نصائحه. وقد كان عظيم الإنتاج بفضل إرادته الخارقة ومزاجه التقشفي وانقطاعه عن الناس انقطاع المتحنثين الأبرار. وكان في سلوكه مستقيماً حتى لم يكن يشرب النبيذ

وأما هوجر فكان مفرطاً في شرب الخمر والأكل دون اكتراث، ولكنه ككل عظماء المنتجين، كان يبدأ عمله في ساعات محددة من وقت الاستيقاظ إلى وقت الغداء. وكان يستيقظ في الساعة السابعة دائماً فيغسل رأسه بماء بارد، ثم يبدأ يكتب وهو واقف بسلاسة دون محو صفحات من نثر أو نظم قد أختمر في عقله في مساء اليوم السابق في أثناء نزهته المعتادة بعد الظهر. وما أكثر ما صنف! ولكن تصانيفه الهائلة لم تجهده أبداً وذلك بفضل نظام العمل.

أما ميشليه فكان من عادته أن يكتب مبكراً؛ فكان في أول حياته يستيقظ في الرابعة صباحاً، ثم اصبح في وسط حياته يعمل نحو الساعة الخامسة: وفي آخر حياته صارت السادسة هي ساعة بدء العمل. وكان محباً للنوم، هادئه عميقه، وكان ينام الساعة التاسعة مساء حين كان وحيداً. وكان يدرس قبل نومه الحقائق الأساسية الخاصة بالفصل الذي عليه أن يكتبه في اليوم التالي، فمما لا شك فيه أن العقل يشتغل بالليل وصاحبه نائم.

وكان معتدلاً في غذائه، لا يأكل شيئاً ثقيلاً، ويكثر من الخضر؛ وقبل بدئه عمله يتناول فنجانة صغيرة من قهوة ولبن دون خبز وفي الحادية عشرة صباحاً يأكل بيضتين وشريحة من اللحم المشوي؛ وقد يأكل قليلاً من الفاكهة ويشرب قليلاً من النبيذ أما الخمر فلم يكن يتعاطاها ولم يكن يحب القهوة ألا باللبن

وكان يشتغل في كل يوم ست ساعات طول حياته، ولم يكن يحب الملاهي، وما كان يزورها ألا نادراً؛ وما كان يلهيه عن عمله شيء، فإذا ما أتم كتابه شعر بأثر متاعب العمل المتواصل فلا ينجيه من آلامه إلا الريف والتاريخ الطبيعي

مما سبق يتبين أن هؤلاء العظماء قد اشتغلوا كثيراً جداً دون انقطاع تقريباً مدى عدة سنين ولم يصابوا في صحتهم بسوء، فقد عاش دوماس الكبير 67 سنة وميشليه 74 وتيير 80 وهوجو 82 ودوماس الصغير 71، ولم يمت صغيراً ألا بلزاك فقد عاش 51 سنة فقط. ولعل لكثرة مشاغله وهمومه المالية أثراً في ذلك؛ فكثيراً ما كان يضطر إلى العمل 16 ساعة في اليوم شهرين متتاليين أو ثلاثة أشهر. فلا عجب إذا كل وعجز عن المقاومة وإن كان قوى الجسم مفتول العضلات.