مجلة الرسالة/العدد 187/إلى رجال التعليم:
مجلة الرسالة/العدد 187/إلى رجال التعليم:
نقد نظام التعليم في مصر
للأستاذ ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العربية بالعراق
يذكر القراء أن المربي الكبير الأستاذ ساطع بك الحصري كان قد وفد إلى القاهرة في العام الماضي ليطلع على الأنظمة التعليمية المصرية فزار المدارس وقرأ المناهج ثم لاحظ على نظام التعليم عندنا ملاحظات قيمة لم يرد أن ينشرها يومئذ لصفته الرسمية في وزارة المعارف العراقية. فلما أنتقل منها إلى دار الآثار رأى أن يذيع هذه الملاحظات في مصر عن طريق الرسالة ليطلع عليها القائمون على شئون التعليم فيها ثم يناقشونها. وهذه فرصة حسنة يتيحها الأستاذ لرجال التعليم ليبادلوه الرأي فيما يجب أن يكون عليه نظم التعليم في عهد مصر الحديث.
(الرسالة)
- 1 -
لعل ابرز المآخذ التي تستلفت أنظار الباحث المحايد عندما يلقي نظرة انتقادية عامة على نظام التعليم في مصر هو (حرمان المدارس الابتدائية من أساس متجانس متين) فإن الدراسة في هذه المدارس لا تبتدئ ببداءة (الأعمال المدرسية) كما هو شأن المدارس الابتدائية في سائر أنحاء العالم، بل تبتدئ بعد ذلك بسنة أو سنتين، لأن المدرسة الابتدائية لا تقبل إلا من (يعرف القراءة والكتابة). وهذه (المعرفة) لا تتيسر بطبيعة الحال إلا بالتخرج في رياض الأطفال، أو بالدراسة في الصفوف الأولى من المدارس الأولية مدة سنتين أو اكثر، أو بالدراسة في المنزل مدة غير محدودة وإذا تركنا الدراسة المنزلية جانباً، ولاحظنا الفروق العظيمة الموجودة بين أساليب التعليم والتربية المتبعة في رياض الأطفال من جهة، وفي المدارس الأولية من جهة أخرى، اضطررنا إلى القول بأن (أسس المدارس الابتدائية) في مصر بعيدة عن (التجانس) بعداً كبيراً. وإذا شبهنا تلك المدارس بالمباني، نستطيع أن نقول: إنها ليست مشيدة على الأرض المتينة، بل قائمة على دعائم غ متجانسة، يختلف بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً من حيث الطول والعرض والعمق والمتانة.
لهذا السبب، تشاهد بين طلاب الصفوف الأولى من المدارس الابتدائية فروق عظيمة، من حيث العمر والمعلومات والقابلية العقلية
ومن المعلوم أن (عدم التجانس بين الطلاب) من أخطر الآفات التي تعتري (نظام التعليم الجمعي)، ومن أكبر المشاكل التي تعقد مهمة المعلمين الذين يقومون بتعليم عدد غير قليل من الطلاب في فصل واحد ووقت واحد. ولذلك تجد رجال التربية في البلاد الغربية يبحثون عن ألف طريقة وطريقة لزيادة التجانس في الصفوف ويسعون دائما للتأليف بين ضرورات التعليم الجمعي وبين مطالب الفروق الفردية.
وأما نظام التعليم الابتدائي المرعي في مصر - فبعكس ذلك - يزيد هذه المشكلة زيادة هائلة. لأنه يضيف إلى الفروق الطبيعية فروقاً اصطناعية ناشئة عن اختلاف نتائج الدراسة السابقة.
إن التخلص من مضار هذه المشكلة ليس من الصعوبة بمكان. إذ يكفي لذلك تغيير النظام الحالي على أساس (إتمام بناية المدرسة الابتدائية بإيصال أسسها إلى الأرض القوية)؛ وجعلها مؤسسة تعليمية قائمة بنفسها، تتعهد بتعليم وتربية الأطفال منذ بدء أعمارهم المدرسية، دون أن تتكل على مؤسسات أخرى في تعليم القراءة والكتابة.
- 2 -
ومن المآخذ البارزة التي تستلفت الأنظار في نظام التعليم في مصر هي (اصطباغ رياض الأطفال بصبغة مدرسية)، واضحة.
ومن المعلوم أن رياض الأطفال تعتبر - عادة - بمثابة معاهد (تربية قبمدرسية) تتعهد بتربية الأطفال - (حتى وصولهم إلى الأسنان المدرسية) - بالأساليب الملائمة للأعمار التي تتقدم تلك الأسنان بوجه عام.
وأما نظام التعليم المتبع في مصر فينظر إلى (رياض الأطفال) نظره إلى (المدارس) تماما. فإن التعليمات الرسمية المتعلقة بها تحمل عنوان (منهج الدراسة) و (مدارس رياض الأطفال) وتوصل عدد (الدروس) في الأسبوع إلى الأربعة والثلاثين، وتكرر كلمات (الدرس) و (الدراسة) و (أوقات الدروس) و (خارج أوقات الدروس) على الدوام، حتى إنها تنظر إلى (التهذيب) أيضا كدرس من الدروس، وتعين (الغرض من تدريس التهذيب للأطفال، وتبين كيف يجب أن (تلقي عليهم دروس التهذيب)، وكيف يجب إن يجري (تدريس التأمل في مشاهد الطبيعة).
إن حركة التطور والتقدم السريعة التي حصلت في ساحة رياض الأطفال منذ بداءة القرن الحالي - ولاسيما ما كان منها بسبب آراء وأعمال دكرولي ومونتسوري - اتجهت على الدوام نحو (تخليص رياض الأطفال من الصبغة المدرسية). واعتقد أن أسباب بقاء رياض الأطفال في مصر بعيدة عن هذا الاتجاه، بهذه الصورة، تعود أولا وبالذات إلى كيفية (تكوين المدرسة الابتدائية). إذ من الطبيعي أنه عندما يطلب من رياض الأطفال إن تهيئ الطلاب إلى المدارس الابتدائية القائمة على الطراز الذي ذكرناه آنفا، ويحتم عليها تعليم القراءة والكتابة والحساب بالقدر الذي تتطلبه المدارس الابتدائية الحالية - يتعسر جعلها (دور تربية) أكثر من جعلها (بيوت تدريس)، بل يصبح من الضروري جعلها (مدارس من نوع خاص).
إن التعديل الذي يدخل على أسس المدارس الابتدائية، - وفقا للاقتراح الذي أدرجناه في الفقرة السابقة - يفسح في الوقت نفسه مجالا واسعاً لإصلاح رياض الأطفال وفقا للنزعات التربوية الحديثة، ولجعلها بمثابة (معاهد تربية قبمدرسية) - كما تقتضيها النزعات المذكورة - اكثر من (مدارس إعدادية للمدارس الابتدائية) كما هي الحال الآن
- 3 -
غير أن أهم المآخذ التي تؤخذ على نظام التعليم في مصر، هو (الاختلاف العظيم الموجود بين الدراسة الابتدائية وبين الدراسة الأولية) إذ أن مناهج هذين النوعين من المدارس المصرية يختلف بعضها عن بعض اختلافا كلياً، ولا توجد بينهما رابطة منظمة تسهل انتقال الأطفال من الواحدة للأخرى؛ حتى ولا يوجد تماثل نسبي يساعد على تقريب تأثيراتهما على نفوس الأطفال على الأقل.
لنفرض أننا أخذنا جدولين يبين كل واحد منهما خطة الدراسة المتبعة في كل واحد من هذين النوعين من المدارس؛ واستبدلنا فيهما تعبير (اللغة العربية) بتعبير (اللغة البيتية) أو (لغة الأم)؛ وعرضنا الجدولين على أحد المربين دون أن نخبره بماهيتها، فلا شك عندنا في أنه عندما يقارن هذين الجدولين بعضهما ببعض، سيظن أن كل واحد منهما يعود إلى مملكة، وسيجزم بأن هاتين المملكتين تختلفان اختلافاً كلياً من حيث الحاجات والتقاليد والنزعات. وإذا أخبرناه بأن هذين الجدولين يعودان إلى مملكة واحدة، فسيقول بدون تردد (إذن يجب أن يكونا عائدين إلى دورين مختلفين من الأدوار التي مرت عليها حياة تلك المملكة)، وسيظن أن هذين الدورين ينفصل بعضها عن بعض بتطورات خطيرة وانقلابات عظيمة؛ وعلى كل حال سوف لا يتصور قط أن هذين الجدولين يمثلان مناهج الدراسة المتبعة في نوعين من المدارس التي تربي أبناء جيل واحد في مملكة واحدة بل في مدينة واحدة.
وفي الواقع تصوروا جارين يسكنان في محلة واحدة، وافرضوا أن لكل منهما طفلاً في التاسعة من العمر، غير أن الأول قد أرسل ابنه إلى مدرسة ابتدائية في حين أن الثاني أرسل ابنه إلى مدرسة أولية أو إلى مكتب عام؛ ثم قارنوا بين الدروس التي سيتلقاها كل واحد منهما، تجدوا أن الأول سيخصص ستة في المائة من أوقات دراسته لتعليم الدين والقرآن، في حين أن الثاني سيخصص ثمانية وعشرين في المائة من مجموع أوقات دراسته لنفس الموضوع، كما أن هذه الأوقات ستصل إلى أربعين في المائة إذا ذهب الطفل إلى أحد المكاتب العامة؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأول سيخصص خمس مجموع أوقات دراسته لتعليم اللغة الإنكليزية، وسيبدأ بدراسة تلك اللغة قبل أن يبدأ بتعلم قواعد اللغة العربية نفسها؛ في حين أن الثاني سوف لا يتعلم شيئاً منها طول مدة دراسته المقبلة. وعلاوة على كل ذلك، فإن الأول سيخصص اكثر من ربع أوقات دراسته للرسم والأشغال اليدوية والتربية البدنية، في حين أن حظ الثاني من هذه التمارين والأعمال سيكون شبيهاً بالعدم.
وإذا لاحظنا مدى تأثير هذه الفروق العظيمة على عقلية الأطفال ونفسياتهم، وجب علينا أن نقول: إن نظام التعليم المتبع في مصر لا يساعد على تكوين (جيل موحد الشعور).
كان يوجد في البلاد الغربية أيضا بعض الفروق بين مناهج الفصول الابتدائية التابعة للمدارس الثانوية وبين مناهج المدارس الابتدائية المستقلة عنها، غير أن تلك الفروق كانت (طفيفة جداً) بالنسبة إلى الفروق الهائلة التي تشاهد بين مناهج المدارس الابتدائية والأولية في مصر. مع هذا، قام علماء التربية ورجال السياسة في تلك البلاد بحملات عنيفة ضد تلك الحالة، وأثاروا حولها أبحاثاً دقيقة ومناقشات شديدة، انتهت في معظم البلاد بتوحيد أسس الدراسة الابتدائية وفقا لمبدأ (المدرسة الموحدة) ذلك المبدأ الذي يلخص في عبارة (شعب واحد، مدرسة واحدة).
أفليس من الغريب جداً ألا تبدأ في مصر إلى الآن أية حركة ضد هذا النظام؟.
إنني لا اجهل بأنه نشأت في مصر - منذ مدة - حركة مباركة تطالب بتوحيد التربية والتعليم، وتعمل في سبيل ذلك بنشاط وقوة. غير أني ألاحظ في الوقت نفسه أن أغراض تلك الحركة المباركة وخططها لم تتعد حدود (التوحيد بين المدارس الأميرية والمدارس الحرة؛ في حين أنني اعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه الحركة لا يمكن أن تثمر الثمرة الكافية، إذا لم تسع لتوسيع نطاق عملها فتشمل في الوقت نفسه (توحيد أسس الدراسة في المدارس الأميرية نفسها).
إن الفرق العظيم الموجود بين مناهج المدارس الابتدائية والأولية كان من أول النقائص التي استوقفت نظري في نظام التعليم في مصر عندما زرت مدارسها للمرة الأولى سنة 1921 قبل مجيئي إلى العراق؛ واستمرار هذه الفروق بدون معارضة أو انتقاد كان من أهم ما استقلت نظري عن زيارتي الثانية لها سنة 1936
لقد عرضت ملاحظتي هذه - عند زيارتي الأولى على وشك المعارف بكتاب خاص. وعندما قدمت العراق، وجدت أن السلطة الإنكليزية كانت قد نقلت هذا النظام إلى هذه البلاد أيضاً، وكانت قد أحدثت مدارس أولية تختلف بمناهجها عن المدارس الابتدائية. وأول الأعمال التي أقدمت عليها - عندما توليت إدارة المعارف العامة هنا - كان القضاء على ذلك النظام؛ فقد وحدت برامج الدراسة في السنين الأربع الأولى توحيدا تاما، وجعلت الدراسة الأولية منطبقة على دراسة السنين الأربع الأولى من المدارس الابتدائية كل الانطباق.
أقدمت على ذلك - حينئذ - تحت تأثير عقيدة تربيوية اجتماعية، قبل أن أرى مفعولها في كثير من البلاد بصورة فعلية. فإن مبدأ (المدرسة الموحدة) كان قد دخل حديثاً في صلب دستور (وايمار) في ألمانيا؛ غير أن معظم البلاد الأوربية كانت قد ظلت بعيدة عن الأخذ به، كما أن جميع البلاد الشرقية - بما فيها تركيا - كانت معرضة عنه. غير أن التطورات التي حدثت في نظم التعليم العام في تلك البلاد وغيرها - منذ ذلك التاريخ - أثبتت تماماً أنني كنت مصيباً في ذلك العمل كل الإصابة.
أفلا يجب على مصر أيضا أن تقوم بعملية مماثلة لتلك، وتعيد النظر في أسس نظامها التعليمي على مبدأ (توحيد أسس الدراسة)؟
- 4 -
من الأمور التي يجب أن تلاحظ بوجه خاص، أن الفروق العظيمة التي أشرنا إلى وجودها بين مناهج المدارس الابتدائية ومناهج المدارس الأولية كانت تتماشى بفروق مماثلة بين معاهد المعلمين الذين يتولون شؤون التربية والتعليم في كل نوع من نوعي هذه المدارس،
فإن معلمي المدارس الأولية يتخرجون في دور المعلمين الأولية في حين أن معلمي المدارس الابتدائية يتخرجون في معهد التربية. غير أن الفروق الموجودة بين دور المعلمين ومعهد التربية في مصر، لم تكن من نوع الفروق الاعتيادية التي تنتج من اختلاف (درجة التحصيل العام) أو (أسلوب الاستعداد المهني) فحسب، بل هي من نوع الفروق العظيمة التي تنتج من اختلاف (نوع الدراسة ونزعتها). و (نوع الثقافة التي تتولد منها). وذلك لان دور المعلمين الأولية تستند على المدارس الأولية، فالمدارس الأولية الراقية، وتستمر على خططها ونزعاتها، في حين أن معهد التربية يستند على المدارس الابتدائية، والثانوية، ويستمر على خططها ونزعاتها.
إنني لا أود في هذا المقام أن أتطرق إلى خطط كل من معهد التربية ودور المعلمين الأولية ومناهجها وأبدي رأيي في هذا الخطط والمناهج نفسها، بل أود أن الفت الأنظار إلى الفرق العظيم الموجود بين نوع الثقافة واتجاه العقلية التي يستند عليها ويصل إليها كل واحد منهما. وأقول: إن الفروق العظيمة التي شرحنا وجودها بين مناهج الدراسة الابتدائية والأولية تشتد وتقوى بصورة هائلة خلال تطبيق تلك المناهج، من جراء الهوة العميقة الموجودة بين معاهد معلمي المدارس الابتدائية والأولية.
ولهذا السبب تصل (ثنائية التربية والتعليم في مصر) إلى أقصى الدرجات التي يمكن أن يتصور الإنسان وجودها في مملكة واحدة
إنني كثيراً ما تصفحت التقارير التي قدمها الخبراء الفنيون الذين استقدمتهم الحكومة المصرية للاسترشاد بآرائهم في إصلاح معارفها، وأوردت أن اطلع على رأيهم في هذه الثنائية، ولو من خلال التقارير التي قدموها؛ وعلمت أنهم لاحظوا هذه الثنائية؛ غير أنهم لم يبدوا أي اعتراض عليها. ويغلب على ظني أن السبب في ذلك كان اعتقادهم بأن هذه الأمور تتعلق بتقاليد مصر ونزعاتها التي لا يجوز المناقشة حولها. لأنهم قسموا النظام التعليمي في مصر إلى قسمين، عنونوا أحدهما بعنوان (المدارس التي على النمط الأوربي) واكتفوا بإبداء بعض الملاحظات لإصلاح كل واحد من هذين النظامين على حدة: غير أني أرى من الضروري أن نتساءل قبل كل شيء: هل يجوز أن يكون في مملكة واحدة نظامان من المدارس، أحدهما على (نمط أوربي) وثانيهما على (نمط محلي أو غير أوربي؟)
أنا أعتقد أن ذلك مما لا يجوز بوجه من الوجوه. فعلى مصر أن تأخذ من الأنماط الأوربية ما يلائم حالاتها وحاجاتها، ثم توجد نمطاً قومياً خاصاً بها. فلا يجوز لها مطلقاً أن تؤسس صنفا من المدارس (على النمط الأوربي) بجانب صنف آخر يبقى على نمط غير أوربي. وإذا كان لوجود هذين النمطين بعض المستوجبات والمبررات في بدء تأسيس المعارف، فلا يمكن أن يكون لبقائهما الآن أي موجب بعد أن وصلت مصر إلى هذه المرحلة من مراحل نهوضها، وبعد أن صارت تحكم نفسها بنفسها. . .
يظهر أن مصر الفت هذا النظام المزدوج منذ مدة طويلة. ولعل هذه الألفة الطويلة كانت من أهم الأسباب التي حالت دون انتباه مفكري مصر إلى أضرار هذا النظام.
غير أنني أعتقد أن إعادة النظر في أسس النظام التعليمي في مصر على مبدأ (توحيد أسس الدراسة) أصبحت من أهم الإصلاحات الضرورية لمصر في بدء عهد نهضتها السياسية والاجتماعية الحديثة. فإن بقاء نظام التعليم على ما هو عليه من الثنائية يكون خطراً على وحدة الشعور التي يجب أن تسود البلاد.
قد يقول قائل: لا خوف على وحدة الشعور في مصر أبدا لان هذه الوحدة تجلت بأجلى مظاهرها خلال كفاح المصريين الطويل ضد الحماية والاستعمار؛ غير أنني أقول بأن (وحدة الشعور) التي عملت عملها خلال ذلك الكفاح كانت (وحدة) من نوع خاص، تكونت تجاه عدو مادي وخارجي، استمر في إرهاق نفوس الجميع منذ مدة تنيف على نصف قرن. أما الآن فستدخل مصر في حياة كفاح جديدة تتطلب النضال في سبيل إصلاح النقائص الداخلية وضمان التقدم في جميع مناحي الحياة.
إن وحدة الشعور التي تكونت وتجلت خلال الكفاح السياسي لا تلبث أن تندثر خلال هذا النضال الإصلاحي إذا لم تغذ بتربية موحدة مستندة على نظام تعليمي موحد.
ولذلك أقول: إن إعادة النظر في أسس نظام التعليم أصبحت من الواجبات التي تتحتم على مصر في مستهل حياة النهوض التي دخلتها الآن.
- 5 -
هذه ملاحظات تتعلق بأسس نظام التعليم في مصر، ابسطها أمام الرأي العام المستنير بكل احترام وصراحة وإخلاص. وأرجو ألا يعتبرني أحد متطفلاً على مصر بهذه الملاحظات، فإني عربي صميم أدين بدين (العروبة) في أيمان وصدق، واهتم بمصر بقدر ما اهتم بسورية والعراق. ولا أكون مغالياً إذا قلت: أنني اهتم بمصر اكثر مما اهتم بسورية والعراق، لأنني أعرف أن مصر - بحسب أوضاعها العامة - أصبحت (القدوة المؤثرة) في العالم العربي بأجمعه. فاعتقد لذلك أن كل تقدم يحصل في مصر لا يخلو من النفع لسائر البلاد العربية، كما أن كل نقص يعيش ويستمر في مصر لا يخلو من ضرر العدوى إلى سائر البلاد العربية.
فكل خدمة تسدى إلى مصر تكون كأنما أسديت إلى سائر البلاد العربية جمعاء.
بغداد
أبو خلدون
(ساطع الحصري)