مجلة الرسالة/العدد 115/شكوى الشيخ إلى ابنه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 115/شكوى الشيخ إلى ابنه

مجلة الرسالة - العدد 115
شكوى الشيخ إلى ابنه
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1935



للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

أبوك بان يردى بنىَّ مهدُ ... كأن الردى سيف عليه مجرد

ويشكو تباريحاً تكاد تهده ... وشيخوخة ليست عن الموت تبعد

أحسُّ بقرٍ في عروقي وأعظمي ... يكاد دمي منه بجسميَ يجمد

أقادُ إذا رمتُ المضيَّ لحاجة ... وأمشي كما يمشي الأسير المقيد

كأنك بي شلواً على النعش سائراً ... وعما قليل في التراب يوسَّد

وليس مخيفي الموت إن هو زارني ... ولكن وراَء الموتِ شملٌ مبدَّد

تعال فقبلني بني مودَّعا ... فانّ فراقي عنك يا ابني مؤبَّد

ولي من حياتي يا بُني بقيةٌ ... ولكنها عما قليل ستَنْفُذ

بنيَّ أقم حيناً بجنبي فإنني ... على غير ما قد كنتَ من قبل تعد

أبوك من الآمال جرَّد نفسه ... وأنت فتى فيه المنى تتجدد

ولم يك حظاًنا من الدَّهر واحداً ... فلي الأمس من أيامه ولك الغد

أنا اليوم أشقى بالمشيب ووهنه ... وأنت بشرح من شبابك تسعد

لعمرك لا عهد المشيب الذي به ... برمت ولا عهد الشبيبة سرمد

وما نحن إلا كالسيوف بحومةٍ ... نجردُ حيناً للوغى ثم نغمد

ستحدثُ فوق الأرض أشياء جمةٌ ... وأنت لها بعدي بنيَّ ستشهد

خلقت لعهد غير عهدي فلا تكن ... جباناً إذا ما ضيمَ لا يتمرد

وما الشيب شعرٌ أبيض فوق مفرقي ... ولكنه نار على الرأس توقد

وليست حياة بالأياس شقيةٌ ... كأخرى بادراك الأمانيَّ ترغد

تفتح ورد السؤل إلا بروضتي ... وما قيمة الروض الذي لا يورد؟

أغرّد في روض الحياة كبلبلٍ ... ومن بعد حين موشك لا أغرّد

سأرحل عن دنيا إلىّ حبيبةٍ ... بها هام حتى الزاهدُ المتعبد

تحاول نفسي بالحياة تمسكاً ... ولكنما خيط الحياة معقَّد

بنيَّ وإني ذاهب غير أيبٍ ... إلى حيث يبلى الجسم منى ويفسد وما أنا وحدي هالك فيثور بي ... على الموت حب للحياة موطَّد

فقبلي أجيالٌ ألمَّ بها الردى ... وبعديَ أجيال سترْديَ كما ردؤا

نجئ ونمى زمرة بعد زمرة ... وننْبُتُ مثل العشب والموت يحص

مقيدةٌ منا الجسومُ بأرضها ... ولكنما الأرواح لا تتقيدَّ

ستذهب ذراتٌ لجسميِ ألفت ... بداد وعلَّ الروح لا يتبدد

وقد تسبح الأرواح في ضوء أنجم ... فيجمعها جنحٌ من الليل أسود

وما هذه الدنيا بدار سعادة وإن طاب فيها الأثرياء وأرغدوا

قفي كل يوم للتعاسة لوحة ... وفي كل يوم للشقاوة مشهد

وإن فؤاداً لا يرقَّ لزفرة ... يصعدّها قلب كسير لجلمد

ومن كان في بيداء يشكو لهاثه ... فليس له غير المنية مورد

سئمت مِرَاس الحرب فالسلم بغيتي ... ولكن باب السلم دونيَ موصد

بني لقد كانت حياتي شقية ... وعلّك من بعدي بني ستسعد

قضيت حياتي كلها في تمردٍ ... ومن ذا يرى خسفاً ولا يتمردَّ

لقد وُلدَ الإنسانُ حرَّا بطبعه ... ولكنه للنفس منه مقيدَّ

أناخ عليها بالخرافات مثقلاً ... وقيدها بالوهم والوهم مفسد

يلوذ بمن أثرى ويعنو لمن طغى ... فيصبح عبداً صاغراً وهو سيد

تداولت الدنيا شعوبٌ كثيرة ... وقد حبّذوا تلك القيود وأيدوا

أمَن كان حمّاداً لها فهو مؤمن ... ومن كان نقاداً لها فهو ملحد؟

وإنك مني يابُني بقيَّة ... أعيش بها في الموت أو أتجدد

بني أرى مستقبلي فيك ماثلاً ... وفيك أقول الشعر غضَّا وأنشد

إذا متُّ فاذكرني بنيّ مكرراً ... فبالذكر أحيا ثم بالذكر أخلد

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي