مجلة الرسالة/العدد 115/فلسفة الأسماء
مجلة الرسالة/العدد 115/فلسفة الأسماء
بقلم ظافر الدجاني
إذا كانت اللغات من ألوان الفكرية الصريحة التي يتسم بها الإنسان وتميزه من سائر الكائنات الحية، فان الأسماء - أو ما يعبر عنه الصرفيون بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن وضعاً بأحد الأزمنة الثلاثة المعروفة - من وظاهر بيئاته الاجتماعية والطبيعية. فلسنا نبالغ إذن إذا بأن لعنصر الأسماء في اللغات فلسفة خاصة مستقلة، استطاع العلم الحديث مؤخراً أن يقتبسها ويستزيد منها بل يستغلها استغلالاً بالغاً يستحق عليه كل ثناء وإعجاب وإكبار. ومن الحق علينا القول بأن أقطاب اللغات في العالم لا يتفقون على أقدمية الأسماء وأسبقيتها في اللغة، فمنهم من يذهب إلى أنها أسبق مرتبة في الوضع والاستعمال من الحروف والأفعال، لأن منزلتها في النفس من حيث القوة والاعتقاد أن تكون قبل الفعل، والفعل قبل الحرف، ومنهم من يذهب - وهؤلاء معظمهم من أصحاب التوقيت ودعاة الإلهام - إلى أن جميع الأصول اللغوية إنما وقع الوضع فيها معاً فلا يجوز لك الاعتقاد بسبق الاسم على الفعل أو سبق الفعل على الحرف.
ومهما يكن من شيء فان بعض الأسماء - أعني أسماء الأعلام والأجناس بوجه خاص - تمتاز على سائر الأصول اللغوية بأنها وضعت للدلالة على الأشياء المحيطة بالإنسان في بيئتيه الطبيعية ولاجتماعية، وما عساه ينجم عنهما في حياته الفكرية، بعكس الحروف والأفعال - مثلاً - التي إنما وضعت لتدخيل بها (الأسماء في المعاني والأحوال)، أو بعبارة أخرى لتربط ما بين الأسماء في جمل مستقلة بدلالاتها اللفظية.
ومعنى ذلك أنه يتعذر على الإنسان مثلاً أن يستدل بالأفعال والحروف العربية على نوع الحياة الطبيعية والاجتماعية التي كان يحياها العرب قبل الإسلام، إن لم يكن ذلك مستحيلاً عليه، في حين أن استدلاله بالأسماء يكاد يكون في حكم الواجب الذي لا عدول عنه، لأنها تعكس لنا ألوانهً من البيئات المتنوعة التي كان العربي عرضة لها آنئذ، كأسماء الكائنات الحية وغير الحية التي كان على اتصال بها، وأنواع الأسلحة التي كان يستعملها في حروبه وغاراته، والموازين والأثقال التي كان يصطنعها في بيعه وشرائه ونحوه. كما أنها تعكس لنا أيضاً شيئاً من أثر البيئة الطبيعية في نفسه وإحساساته، ففي ميسورك مثلاً أن تقربإحصاء الأسماء التي تعبر في العربية عن ضروب المصائب والرزايا من ناحية، والأسماء التي تعبر عن مظاهر اللهو والعبث من ناحية أخرى، ثم الموازنة بينها، وما إذا كانت بيئة العرب قبل بيئة قاسية مظلمة قاحلة أم بيئة مشرقة سمحة خصبة.
وليس ذلك وحسب، بل ميسورك الاستدلال بالأسماء العربية (العاربة) منها و (المعرّبة)، الأصيلة والدخيلة، على مختلف التقلبات السياسية التي طرأت على الوسط الإسلامي في غضون تاريخه الطويل الحافل، وبالتالي الاستدلال على مختلف الأدوار الاجتماعية التي تقلب عليه، ومقدار نفوذ كل من العناصر الفلسفية والجنسية فيه، فإذا كانت الأسماء الفارسية مثلاً في الآداب والفنون أغزر من الأسماء اليونانية دل ذلك على أن نفوذ الفرس من هذه الناحية كان أبعد من نفوذ اليونان، وإذا كانت الأسماء اليونانية في ميدان الفلسفة أوفر من الأسماء الفارسية والهندية دل ذلك على أن العرب قد تأثروا بالفلسفة اليونانية أكثر من تأثرهم بفلسفة الفرس والهند. بيد أنه بالأسف ليس الوصول إلى هذا الاستدلال باليسير الهين لأن المعجم العربي ناقص من وجوه كثيرة، أهمها الوجه التاريخي المدعم بالشواهد والأدلة مما لا يتسع المقام لذكره.
هذا إلى عثورك خلال أزمنة التيقظ الفكري والنهضات الدينية الحافلة على بعض أسماء الإعلام الذائعة بين الأوساط العامة لأنها غالباً هي أسماء بعض الزعماء أو القادة أو الأنبياء الذين لهم الفضل كل الفضل في بعث هذه النهضات وإحيائها، بحيث يستدل منها على ما لهؤلاء المصلحين من حظوة لدى الجمهور، وما لتلك النهضات من سحر في أفئدة العامة. ومن ثم كانت لبعض الملل أسماء خاصة تعرف بها ولا يصطنعها غيرها كعزرا وإسرائيل في اليهودية، وحنا وبطرس في المسيحية، ومحمد والحسين في الإسلام.
بل ترى في بعض أزمنة الاضطهاد والغلو الديني أن لفظ المولى عز وجل يشترك عادة في أسماء الملوك والأمراء من أولي الحل والعقد في تلك الأعصر الرهيبة. يتضح ذلك من أسماء الخلفاء من ولد العباس في أواخر أيامهم حين أمست الخلافة رمزاً للنفوذ الديني مجرداً عن السلطة الزمنية، وفي خلفاء الفاطميين وغير الفاطميين من السلالات الملكية التي قامت على الدعايات الدينية.
ومن ناحية أخرى ترى أن بعض الأسماء قد تضيع في زوايا الإهمال والنسيان، ولو إلى حين، لأنها تكون عادة أسماء بعض الأفراد أو الجماعات المضطهدة، بحيث يستدل من ذلك على مبلغ غلو الدولة القائمة وشدتها على الفرق المناوئة فمثلاً إذا علم القارئ أن العلويين والشيعة كانوا مضطهدين في الدولة الأموية، فانه يستطيع أن يستدل على مقدار هذا الاضطهاد إذا ذكر أن الناس في أيامها كانوا كما يقول المستشرق (مارجليوث) يتحاشون تسمية الأبناء والأحفاد بأسماء علوية كعلي والحسن والحسين وأشباهها.
وبعد فقد أوردنا لك بعض فلسفة الأسماء موضحة بالأمثلة النظرية، ولكننا لم نشرح لك كيف كان استغلال العلم الحديث لها، لأن هذه الأمثلة على وفرتها قليلة النفع من ناحية عملية تطبيقية إن لم تكن عديمته، لأن الحياة العربية الجاهلية من الأزمنة التاريخية التي تتوفر فيها النصوص والوثائق والآثار. ومن هنا قطعنا بأن الحاجة غير ماسة إلى استيضاح الأسماء العربية وتفصيل ما تنطوي عليه من ألوان هذه الحياة المتنوعة.
وإنما تتبين فلسفة الأسماء الخاصة وترجح قيمتها العملية المحسوسة في الأبحاث الدقيقة المنعقدة حول حياة الإنسان الأولى، التي لا تجد لدرسها من المصادر الأولية سوى اللغات وبعض الآثار الجيولوجية التي نراها نكتشف بين حين وحين، وينفض الغبار عنها فتقيم المعوج من هذه الدراسات وتنير المهم المستغلين.
فمن ذلك أن اصل اللغات الأوروبية ظل إلى عهد قريب مجهولاً أو في حكم المجهول، فنشأت حول ذلك نظريات عديدة متباينة، لكل نظرية أنصار متحزبون وعلماء محققون، ثم إن بعض الثقات حاولوا درس هذه اللغات بطريق القياس والمقابلة فخرجوا من هذا الدرس بنتائج باهرة لم يتسق للمنطق والتاريخ أن يتوصلا إليها. إذ وجدوا أن بين اللغات الأوروبية على اختلافها من ناحية واللغة السنسكريتية - اقدم اللغات الهندية الموجودة - من ناحية أخرى كثيراً من الشبه في القواعد والأوضاع اللغوية، كما وجدوا أن فيها بعض الأسماء المشتركة كبعض أسماء الأعداد والأجناس ونحوها، فاستخلصوا من ذلك أنه لا بد من أن تكون اللغات الأوربية والهندية من فصيلة واحدة دعوها باللغات (الأندو أوروبية) -
وإذ انتهوا من ذلك فانهم حاولوا أن يستدلوا بهذه الأسماء على مواطن (الأندو أوروبين) الأصلي ووصف بيئتهم الطبيعية والاجتماعية، وما إذا كانوا يعرفون البحر والأحراج والأنهار، وأي أنواع الحيوانات كانوا على اتصال وثيق بها، وهل عرفوا الحديد والبرونز قبل شتاتهم وانقسامهم قبائل وشعوباً، ثم هل كانوا على درجة كبيرة من التمدن والحضارة؟ أم كانوا بعد في طور الفطرة الإنسانية العريقة في البداوة، ولهم في ذلك أبحاث مطولة دقيقة تنطوى على كثير من قوة التحقيق والتحليل ورجاحة الفكر والنظر.
وقس عليه محاولات المستشرقين في الاستدلال ببعض الأسماء المشتركة بين الأقوام السامية على مواطن الساميين الأول ونوعه، وحضارة الساميين ومقدارها، بل قس عليه أبحاث المحققين في مختلف نواحي الحياة الإنسانية قبل الأعصر التاريخية حيث تنعدم الآثار والمنقولات، فلا تكاد تجد من مصادر درسها إلا اللغات التي نشأت مع الإنسان وسايرته في تطوره واستوائه.
فالعجب من العلم الحديث ونشاطه ومؤهلات البالغة التي لم تترك كبيرة ولا صغيرة من صامت الكون أو ناطقة دون أن تحاول استقراءها ونبش عسى أن يكون فيها ما ينير سبل القوم في تفهم أسرار الكون ومظاهر الحياة الإنسانية.
ظافر الدجاني