مجلة الرسالة/العدد 1014/المسرح والسينما
مجلة الرسالة/العدد 1014/المسرح والسينما
مسرحية
غروب الأندلس
تأليف الشاعر الكبير عزيز أباظة
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
لا يستطيع أديب أن يعبر عن آلام الشعب التي تهز كيانه، وأن يصور آماله التي تهفو إليها نفوس أفراده إلا إذا كان يحس إحساسهم ويشعر شعورهم فيضطرب بين ضلوعه ما يختلج في حنايا صدورهم ويعتمل في أطواء قلبه ما يجول في خبايا أفئدتهم، على أن يسعفه إلهام لا ينضب معينه، وفن مبدع تتحلب أفاويقه، ولسان مطاوع يأخذ الألباب بسحر بيانه. فإذا رزق غزارة العقل وحنكة الدهر وتجارب الأيام جلى ما يريد أدبا رائعا نستعذ به الفطر السليمة كما نستعذب الهيم سلسبيل الماء، وتطرب له الجماعة كما يطرب السامرون لرنين الوتر في هدأة الليل وخفقة السحر، وتصغي إليه كل أذن واعية كما يصغي الشوق إلى نغمات المطرب ورنة الغريد. وإن الكلمة البليغة لا تمل تردادها الأفواه، والبيت الرقيق لا تسأم من تكراره الأسماع.
لقد سقت هذه المقدمة بمناسبة ما قدمه الشاعر الكبير الأستاذ عزيز أباظة للمسرح في تلك الأيام. . ألا وهو مسرحيته الشعرية (غروب الأندلس).
وإذا كان الأستاذ قد أتحف المسرح بمسرحيات قيس ولبنى، والناصر، والعباسة، وشجرة الدر، فإن مسرحية غروب الأندلس التي تعرض الآن في دار الأوبرا تعد أقوى ما ألف وأبدع ما نظم من حيث عمقها وبحثها وراء الأسباب التي تنهار من أجلها الشعوب، ومن حيث حكمها وما فيها من توجيهات يجب أن يأخذ بها من يريد للأمم حياة كريمة وصونا من الأقوال والزوال.
ولعمري إن مأساة العرب في الأندلس لتذهب النفس عليها حسرات، وتنسكب الدموع أسى وحزنا على ذلك المصير الذي أرادها فيه ما كان عليه زعماؤها وأمراؤها من تطاحن وتنازع وتفرق كلمة وانغماس في الملاذ والشهوات، والاستعانة بالأجنبي الطامع لقه الأهل وذوي القربى.
ولقد كان الأستاذ عزيز أباظة وهو يستوحي التاريخ يتمثل حال مصر في عهودها البائدة، عالما بأسرارها مطلعا على خباياها لما له من خبرة ومنزلة، فتغلي مراجل غضبه ويثور الغيظ في قلبه فيسكبه شعرا تلمس فيه حرارة التأثر مما رأى وبلاغة التأثير فيمل فيمن يسمع ويروى.
ويذكر المؤلف في مقدمة المسرحية أنه نظمها قبل أن يبعث الله لمصر 23 يوليو روحا طاهرا وثابا في جيشها الكريم فيتداركها من السقوط في هوة لا يدرك لها قرار. وما من شك أنه قد أضاف إليها شيئا قل أو كثر بعد هذا العبث الذي نشر مصر على أيدي أبنائها الأخيار.
كم شقيت مصر في عهودها البائدة وتعثرت في خطاها إلى المجد فلم يقلها من عثرتها أولئك المهيمنون عليها، ولم ينهضوها من كبوتها مخافة أن تحرمهم مما انغمسوا فيه من ترف السفهاء وشره الجبناء؛ وأراد الله أن يجعل نهايتهم فجعل في آذانهم وقرا فانكبوا يخضمون ويلغون لا تنغص عليهم لذاذاتهم هذه الأنات المكتومة والزفرات المحمومة. وزادهم الله ضلالا فجعل على أبصارهم غشاوة أعمتهم عن رؤية النذر والنظرات الصاعقة المتوعدة، وأملي لهم فساق لهم عبيدا بعيونهم على اقتراف آثامهم واجتراح كبائرهم فكانت الأقلام الحرة تقصفها القوة الغاشمة، والعزمات الأبية تكبلها القوانين الظالمة، والأفواه الناطقة تقفلها الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء. ويا ويل الأمة المغلوبة على أمرها المنهوكة القوى بسبب ما يمتصه رؤساؤها من دماء أبنائها وهم يتطاحنون على السلطة ويتنافسون على بلوغ المناصب بكل الوسائل، فيكيد بعضهم لبعض، ولا يرضى هذا أن يجيء الخير على يدي ذلك، ويضيع أحدهم خيرا محققا في سبيل ما سيكون في بطنه يوم القيامة نارا تتلظى وفي الدنيا سبة وخزيا، لكنه حريص على المنصب ولو كان يكنفه الصغار وتحيط به الذلة والمسكنة. ومن حول الأمة أعداء طامعون في تمزيقها حريصون على استعبادها على توسيع شقة الخلاف بين أفرادها الذين تفرقوا شيعا وراء المتزعمين الضالين.
إن مسرحية غروب الأندلس ويصدقها التاريخ تعرض لكل هذا في حبكة فنية وتسلسل متماسك وبيان أخذ، ولن تقلب صفحة من المسرحية وأنت تقرأ، ولن تمر لحظات وهي تمثل إلا رأيت وسمعت حكمة بليغة تقع على ما في نفسك موقع البلسم الناجع على الجراح الأليمة فلا تملك إلا أن تمنحها التقدير والإعجاب.
ولا تسكت المسرحية عن التعرض للمعاهدات التي يعقدها القوي مع الضعيف، وآثارها الوخيمة، وذلك التخريج والتأويل الذي يفسره صاحب القوة كما يشاء.
الأمر للأقوى يؤوله كما ... شاءت له الأطماع والأهداف
ولا يغفل عن الطرق الملتوية التي يسلكونها اكتسابا للوقت وهم يمدون حبال الآمال وخيوط الأماني الواهية فيسوق على لسان الحبر وزير فرديان وهو يخاطب إيزابلا.
لا تقطعي الأمر حتى ... تصح منا العزيمة
والخير أن تستمر ... المفاوضات العقيمة
تظل تلهى فتوهى ... عرى الأمور الجسيمة
ولم يفت الشاعر أن يصور لنا هذه النفسية الوضيعة بطريقة مرحة وهي تداهن وترائي وتغير آراءها وتتلون، زاعمة أن ذلك هو السياسة الرشيدة والله يعلم أنها الخسة والصغار. فالمسرحية تمثل لك ذلك في شخصية أبي القاسم وزير العرب في الأندلس أيام غروبها.
حتى الزواج بالفرنج ومساوئ الضرائر قد وجد له نصيبا في المسرحية وكان له في الغروب تأثير.
وبين هذا العبوس والظلام، وفي وسط هذه المحن والآلام، لا ينسى الشاعر في مسرحيته ذلك الحب ورقته، ورأى النساء في الدلال الذي قد يبعد الحبيب وقد يجره مطواعا وبين الاستجابة التي قد تدنيه أو تنئيه.
إن هذه المسرحية مسوقة لتكون عظة للشرق وعبرة، ولا خير فيمن لا يتعظ بماضيه، فإن الشرق في الواقع لم يصب بالكوارث ولم تتحيفه الخطوب تحيف المقراض، ولم يصبح نهبا مقسوما ولقمة سائغة لا تشجي عند ابتلاعها حلقوما ولا تغص حلقا إلا لتفرق كلمته. ويا ليت أعداءه حسبوا أهله جميعا فهابوهم، بل عرفوا أنهم شتى وأن يأسهم بينهم شديد.
وإذا كنت قد ذكرت لك طرفا مما في المسرحية فإن ما فاتني ذكره كثير. ولم أرد أن أسوق لك نماذج عديدة من حكمها الغوالي ما ذلك إلا لكي ترى وتسمع بنفسك، وعلى كل شيخ وشاب أن يعمل على رؤية المسرحية فهي للشيوخ زاجر وواعظ يدعوهم إلى أن يتركوا خلافاتهم أو يدفنوا أنفسهم حتى لا يضروا أوطانهم. وهي للشبان حافز ودافع يدعوهم إلى أن يجعلوا أنفسهم للوطن جنة وعدة تقيه السوء وتحميه من كيد الكائدين، ولا ينساقوا وراء الدجالين والمتزعمين المضللين. فإلى الأستاذ الكبير والشاعر المبدع عزيز أباظة أبعث تحية الإعجاب بهذه المسرحية، راجيا أن يقدم للمسرح مثلها أخوات.
عبد الستار أحمد فراج