مجلة البيان للبرقوقي/العدد 7/آثار تهذيبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 7/آثار تهذيبية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 4 - 1912



ست عشرة رسالة حكيمة

من رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه لوسليوس

(تابع ما قبله)

الرسالة الرابعة في الخوف من الموت

سر في هذا الطريق الأبلج وأسرع فيه ولا تتئد ما وجدت إلي ذلك سبيلاً وأعلم أنك ستبتهج وتسر سروراً طويلاً بما تنال نفسك من التهذيب والكمال بل ثق بأن سلوك هذه الجادة من تزكية النفس وتكميلها فيه من السرور واللذة ما فيه وإن كان السرور برؤيتها كاملة خالية بقدر الإمكان من العيوب لا يعادله سرور لا يضارعه حبور، أنك لا يمكنك أن تنسى أن فرحك كان عظيماً يوم خلعت رداء القضاء الأدنى وألبست رداءه إلا على وسيريك في موكب لجيب حتى إذ حلت الديوان فكم لعمري يكون مقدار سرورك إذا خلعت آخراً عن رقبتك نزعات الشباب وأغلاطه وأحلتك الحكمة في مصاف الرجال.

إن الشباب وإن ذهبت عنا أيامه لكن مما يؤسف عليه أن تبقى فينا نزعاته بل مما يزيد في الأشجان أن نكون شيوخاً في السمة والوقار ثم تلازمنا مع ذلك عيوب هذا الشباب بل مخاوف الطفولة، ومع أن مخاوف الشباب تافهة ومروعات الطفولة خيالية فقد اجتمعتا فينا كلتاهما وأنك لو تقدمت في الحكمة قليلاً لعرفت أن طائفة من حوادث الدهر ونكباته ليست بالمخيفة بالمقدار الذي ترتاع لوقعها منها النفوس فالشر ليس بالعظيم إذا كان خاتمة السرور والموت إذا أقبل فإنه يحق لك أن ترتاع منه إذا كان غير متخطيك ولكنك تعلم حق العلم أن لك فيه سابقين كما أن لك فيه لاحقين، ولقد تقول لي أني ليعسر علي أن أحمل النفس على الازدراء بالموت وأن استسهل صعبه فأجيبك أنظر في أحوال الناس وأحكم كم ترى من صغائر ولدت في النفوس كراهة الحياة واستسهال الموت فهاهنا نسمع بعاشق شنق نفسه على باب معشوقته وهناك نشاهد عبداً مملوكاً خاف قصاص مولاه فألقى بنفسه من أعلى سطح داره وفي جهة ثالثة نسمع بشقي خشي العود إلى الأصفاد والأغلال فطعن نفسه طعنة نجلاء ليرتاح من العذاب وأنك لتعلم أن ليست الشجاعة هي التي جرأت هؤلاء الناس على الإقدام على ما أقدموا عليه من الموت وإنما هو الخوف وشدة الهلاع، والخوف على الحياة وشدة الرغبة في إطالتها لا يوجب لعمري راحة البال وإنما يحدث هموماً ويثير في النفس مخاوف ووساوس وإذا أنت أردت أن تعرف مقدار متاعب الحياة وتستسهل تركها غير آسف عليها فانظر إلي تلك الزمر البشرية التعسة في حرصها عليها وتعلقها بأهدابها تعلق الغريق بقطع الأخشاب والصخور وأن أكثرهم ليسبح بين الخوف من الموت ومتاعب الحياة لا يدري كيف يعيش ولا يعرف كيف يموت فإذا أحببت أن تجعل حياتك سارة قارة فلا تشغل نفسك بالخوف عليها والشيء المستعار لا يحلو إلا إذا عرفت أنه مستعار فتحسن استعماله كما لا يصعب عليك فراقه وأجمل الرد في الودائع مالا يحدوه التحسر والتأسف، فينبغي لك إذاً أن تتشجع وتقوى على مقاومة خوف مصائب هي رصدٌ على الكل وغير مستثن منها وضيع ولا رفيع فلقد كانت حياة القائد بومبيوس ألعوبة بيد خصى وطفل تحت وصايته وأيام كرسوس إنما انقضت على يد ذلك البارشى السفيه الوحشي وقطع كيوس قيصر رأس لبيدوس بسيف النائب ديكستر كما قطعت رأسه هو بحسام شيرياغ ولعمري مهما كانت الظروف التي يضعنا فيها حظنا المتاح فإنه يجب علينا أن نحذر دائماً مما قد تسمح لنا بعمله وإتيانه مع الغير لأن الحظوظ كالبحر وهل يؤمن جانبه هو هادي ساكن إذا بك تراه قد هاج وماج فاقتلع السفن الراسيات وابتلع الجواري المنشآت بما تحمل من الأموال التي كانت بالأمس بهجة نفوس أصحابها ومنتهى آمالهم كذلك الحظوظ الدنيوية تعمل ثم لا يفوتنك أنك في كل وقت معرض لأن تنالك بالأذى أيدي اللصوص والأعداء وإن لم يكن لك أعداء كبار فأحقر عبيدك معلق موتك وحياتك بين يديه إذا هو فقد صوابه وهانت عليه في إعدامك حياتك نفسه، أجل أيها الصديق أن من يستر خص حياته في معادتنا يكون بلا ريب مالكاً لحياتنا وتذكر عبر الحوادث الكثيرة فكم من أناس قتلوا على أسرتهم خفية وجهاراً بأيدي ارقائهم أكثر مما يبطش الملاك ذوا السلطان وأرباب التيجان؟ فماذا يهمك إذن من بطش عدوك وسطوته إذا كانت سلطته التي تخيفك قد تكون بأيدي أناس كثيرين ولا ضابط لها ولقد تقول لي أني إذا وقعت في يد عدوي فقد يقودني إلى الموت جهاراً فأقول لك أنك بسبيله منذ أزمان ولم نغرر بأنفسنا طويلاً ولا نبصر إلا في هذا اليوم ما هو مهدد لنا ما حيينا، نعم أيها الصديق الكريم إنك سائر إلى الموت والفناء وأنك وأنك سالك سبيله من يوم ولدتك أمك هذا ما يجب أن نجعله نصب أعيننا من الأفكار في هذا الصدد إذا أحببنا أن نعيش بسلام ونقضي أيام حياتنا بالهناء حتى ساعتنا الأخيرة التي خوفها هو السبب الوحيد في التنغيص علينا في كل أوقاتنا وساعاتنا الأخر.

ولا ختم ما اخترته لك في هذا المعنى بالحكمة المختارة ليومنا هذا وهي زهرة مقتطفة من حدائق الحصم قال إن الفقر المنظم وفق النواميس الطبيعية غنى وحظ عظيم أو تدري ماذا يعني بالفقر المنظم وما تشير به هذه النواميس أنها تشير بأن لا نجوع ولا نظمأ ولا نعرى وكل هذا أي سد الجوع وأطفأه الظمأ وستر العورة لا يحتاج البتة إلى أن نقف بالذلة والصغار بواب العظماء ولا أن نتحمل نظراتهم المملوءة كبراً واحتقاراً وجمائلهم التي حشوها الخزي والعار وليس بمستلزم كذلك أن نقتحم الأهوال ونتجشم سفر البحار على حين أن ما تتطلبه الطبيعة سهل الوصول إليه والحصول عليه وإنما تتعب النفوس بالجد والكد وراء ما زاد عن ذلك من مظاهر ومفاخر فترى هذا يخلق جدته في الحصول على الوظائف الملكية وذاك يقضي زهرة أيامه في التقلب في قيادة الجندية وثالثاً يلحقه الفشل على شواطئ البحار وراء الحصول على الفخار وصفوة القول أن الضروري سهل المنال علينا ومن يقنع بحالته منه وينظم معيشته فيه فذاك لعمري هو الغني ذو الحظ العظيم.

الرسالة الخامسة في المباهات بالفلسفة والفلسفة الصحيحة

حرصتَ على تحصيل الخيرات بلا فتور وهجرتَ كل شيء انصرافاً إلى تكميل نفسك فأنا أحمد إليك صنيعك وثباتك عليه وأنصح لك بل أرجو منك رجاء أن تثابر على تلك الخطة ولكني أحذرك التشبه ببعض هؤلاء الفلاسفة الذين قد يتغالون حتى يشذوا عن الجادة في إهمال أبدانهم وتيانهم فأحرص أحوالك وأطوارك رغبة في الظهور بمظهر الفلاسفة (الكلبيين) وكفى ما بالفلاسفة اليوم من سوء ظن الناس بهم مهما أظهروا من الحشمة والكمال في أحوالهم فكيف بهم إذا رأى الناس منهم كبير شذوذ وخروج عن مألوفهم؟ أنا لنخالف الناس في بواطننا أما الظاهر فيمكننا أن نظاهرهم عليها ونجاريهم فيها بالمقدار اللازم، فأنا لا أحب مثلاً أن تكون ثيابي مما تلفت الأنظار زخرفة ولكني لا أحب أيضاً أن تكون مما تنبو عنه الأعين قذارة وإهمالاً، ولا أود كذلك أن استعمل آنية الذهب والفضة ولكنني لا أعتقد الزهد والورع إلا وراء ذلك، فلنحرص إذن أن نعيش كما يعيش الناس اللهم إلا ما عليه العوام والسوقة من أمور مزرية وأنا إن لم نعمل بذلك نبذنا من نريد إصلاحهم وتهذيبهم لأن الناس قد يستصعبون هذا الشذوذ فيتجنبون الإقتداء بنا في شيء توهماً منهم أنهم مكلفون بتقليدنا في كل شيء فتفوت وما غرض الحكمة الأول ذلك الغرض الشريف الأربط البشر بروابط الألفة والمحبة والاتحاد في الفكر والمشرب والتحاب والتعاطف بين الناس فإذا نحن نبذناهم وجفوناهم وبايناهم بأحوالنا وأطوارنا خرجنا لعمري عن ذلك المقصد الأسنى ونددنا عنه ولنخش أن هذه الأحوال الشاذة بدلاً من أن توجب إعجاب الناس بنا وثناءهم علينا تجلب لنا سخطهم واستهزاءهم. إننا وأيم الحق يجب علينا أن نجعل الطبيعة رائدنا ودليلنا في حياتنا والطبيعة تأبى علينا أن نقدم على تعذيب أنفسنا بأنفسنا وأن نمقت بسيط الزينة ونميل إلى لقذارة واختيار ما تعافه من رديء الطعام ولا يعد في شيء من الزهد والتقشف لأنه إذا كان من الرفاهية والتنعم اختيار الألوان الشهية فلا ريب أنه من الحمق والجنون نبذ الأطعمة العامة الرخيصة الثمن والفلسفة إنما تحث إتباعها على الزهد والقناعة لا على التشدد وإرهاق النفس فالقناعة والزهد حالهما وسط بين الطرفين وهو ما يجب أن نختاره لأنفسنا بأن نجمع في حياتنا ومعيشتنا بين الخلال الحميدة والخصال الرجيحة حتى تكون حياتنا على الدوام موضع إعجاب الناس لا موضع استغرابهم وتعجبهم ولقائل أن يقول ما هذا أو تريد أن يتساوى أهل الحكمة مع عامة الناس في أحوالهم وأمورهم بلا فرق ولا تمييز؟ أقول أن الفرق ما زال عظيماً بشرط أن يدقق فيه النظر وينعم الفكر فالذي يدخل بيت الحكيم يعجب برب الدار أكثر مما يعجب بما تحوي من أثاث ورياش وأن الحكيم ليتساوى عنده استعمال آنية الفخار وآنية الفضة لما حازت نفسه من سمو ورفعة بعكس ذوي النفوس الضعيفة فإنهم يفرحون ويسرون باستعمال هذه ويغتمون ويحزنون إذا حرموا إلا من تلك.

وهاك ما أشاطرك إياه مما استفدته من الحكمة في يومي هذا وقد التقطتها من أحد أبناء شيعتنا أعني به هيكافون وهي تدل على أن خمود نار الرغائب علاج ثمين للخوف قال أقطع عن النفس الأمل ينقطع عنك الخوف ولعلك تقول أي علاقة بين هذين الإحساسين المتباينين كل التباين؟ فأقول أجل أيها الصديق لوسليوس أنهما وإن اختلفا في الظاهر لكنهما مرتبطان في الحقيقة وأن السلسلة التي تربط الأسير بالأسر لأقل ارتباطاً مما بين هاتين العاطفتين فالخوف يتبع الأمل ولا عجب في ذلك ولا غرابة فيه لأن كلا منهما منشؤه قلق النفس وخوفها على المستقبل وسبب ذلك أن المرء بدلاً من أن يكتفي بالحاضر تتشبث أفكاره بالمستقبل البعيد فتضل بصيرته ويصير نورها الذي هو أكبر نعمة عليه آلة يخاف شرها على أن الوحوش قد تحذر الأخطار الواقعة وتهرب منها عند رؤيتها فإذا ما مرت سكنت نفوسها وعادت إليها طمأنينتها أما نحن فإن نفوسنا لعمري فريسة بين المستقبل والماضي وكل قوانا تعمل ضدنا فلذاك توقظ فينا الوساوس والمخاوف والعقل يغفل عنها ويتخطاها فلذلك لا يكفينا الاهتمام بمشاغل الحاضر ومتاعبه حتى نضيف إليها هموم المستقبل ومخاوفه.

الرسالة السادسة في الصداقة الصحيحة

أرى نفسي أيها الصديق تتزكى أو أراني بالأولى متحولاً من الحال التي هي أدنى إلى الحال التي هي أعلى، على أني لا أفتخر ولا أدعي أنه لم يبق في شيء يعوزه البتة الإصلاح والتغيير إذ كم أمامي لعمري مما هو بحاجة إلى الإصلاح والتهذيب ولكن شعور الإنسان بنقصه وتقصيره دليل على الأقل على أنه يعرف خطأه ويعترف بخطاياه والناس تهنئ عادة المريض الذي يشعر بالمرض لأنه دليل في الغالب على البرء من الداء وقرب الشفاء من العلة وهلا يكون في قدرتي أن أفيض عليك مما يفاض علىَّ من ذلك حتى يكون ما بيننا من روابط المحبة والصداقة على أتمه ووثقه وهو ما أرى فيه الصداقة الحقيقية، تلك الصداقة التي لا يمكن أن يحل رباطها خوف أو أمل أو نفع، تلك الصداقة التي يموت عليها المرء ولأجلها يفدي حياته ولكن كم من أناس وجدوا أدعياء في الصداقة لا أوفياء فيها فلكي لا تشوب الصداقة شائبة ينبغي أن تتصافى القلوب وتخلص السرائر في تبادل المحبة من الجانبين على السواء بذلك تتحد الأفئدة وتأتلف الأهواء المتفرقة وإن قلت وما سر ذلك وعلته قلت أن النفوس إذا تصافت وتحابت لا جرم علمت أن الأمور بينها مشتركة خيرها وشرها واراك تغبطني على ما استفدته وشرحته آنفاً وتعلم منه مقدار ما ينالني من التقدم والارتقاء في كل يوم تطلع على فيه شمسه.

ولقد تقول لي ابعث إلي بهذا العلاج الشافي تعالج به أدواء نفسك فأقول أجل أيها الصديق أني لأتقد غيرة وشوقاً إلى حبه حباً في نفسك لو أمكنني ذلك لأني لا أبتهج بما يفتح علي به من العلم إلاّ على أمل أن أعلمه غيري فأجمل ما يتاح لي اكتشافه وألطف ما اهتدي إلى ابتكاره لا يحلو لي ولا يطيب إلا إذا توصلت إلى إيصاله لسواي، ولو لقنت الحكمة على شرط أن أكنها في صدري ولا أعلمها الناس لرفضتها وما قبلتها إذ أفضل الأشياء ما كان مشتركاً بين الناس كثير التداول عام النفع بينهم وعليه فقد رأيت أن أبعث بنفس نفائس الكتب التي استقي منها وأغوص فيها على الدرر واللآلئ التي التقطها لتستخرج منها لنفسك بنفسك ما تشاء، ولكي أكفيك مؤنة التعب والنصب في البحث والتنقيب بين ثناياها علمت لك بخط يدي على الصفحات وعلقت على هوامشها بيدي تعليقات ترشدك بسرعة إلى المقاصد والأغراض وما أعجبني من عيون الحكمة ولكن ثق أن تلقيك بالمشافهة والمحاضرة مع صديقك ليفضل عندي كثيراً تلقيك عن الكتب لأن في المعاينة والسماع والخبر بالنفس ما يفضل كل طريقة أخرى عند الناس، وسبيل التعليم بالقدوة العملية خير مما يلقى في الأسماع من النصائح والتعاليم النظرية وما حاكي كلينشيوس الحكيم زينون إلا لما عاشره وأخذ عنه واقتدى به ودرس سلوكه وقارن بين ذلك من أحواله وبين تعاليمه، وما تبع أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهم من الحكماء الحكيم سقراط ولم يخالفوه كبير مخالفة إلا لما أخذوا عنه وسبروا أحواله واقتدوا به، وما اقتفى أثر أبيقور أشياعُه من مشاهير الحكماء ميترودور وهيرمارك ويولينس إلا لما جعلوا سيرته أسوة حسنة لهم إلى جنب تعاليمه، على أني إذا كنت أطلب منك ذلك فأني إنما أطلبه لفائدتي أنا أيضاً لا لفائدتك وحدك لأنا بالاختلاط والمعاشرة ينفع أحدنا الآخر فيما نحن بصدده ويشد أُزره وهاك ضريبتي اليوم وهي مما أعجبني من حكمة هيكاتوز قال: أتريد أن تعلم ما هي وسائل ارتقائي ونجاحي هي أني صديق لنفسي ولقد أصاب كبد الحقيقة لأن صديق نفسه الحقيقي ثق بأنه صديق لكل الناس.

صالح حمدي حماد