مجلة البيان للبرقوقي/العدد 7/الحكمة المشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 7/الحكمة المشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 4 - 1912



حكم فتاحوتب

تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعه

إذا كنت رئيساً فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق وأعلم أن مرؤسك هو عضدك وساعدك وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه ويختم على قلبه فيخفى عنك ما قد يفيدك العلم به أما إذا استعبدته بالحسنى فلعله يبوح لك بما يضمر ويفتح لك خزائن قلبه وعودة الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك ولا يخدعك فيما يضرك وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه بل كن شفيقاً صبوراً وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ فخير البر عاجله. وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك. واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.

إذا شئت أن تستبقي حب أخ وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء لأنها مجلبة الشر في كل زمان مكان وأعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين وتورث آلاماً ما تبقى مدى الحياة.

اجتنب جلساء السوء فإن في بعدهم غنماً وفي قربهم غرماً. إذا شئت أن تكون صادقاً في قولك أميناً في عملك فطهر نفسك من أدران العناد والطمع واحذر الشراهة والجشع وأن كنت خلواً من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به وأعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد وتشتت شمل الجماعات وتبدد أوصال الصداقات وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة وتغرس بذور النفور والبغض.

كن عادلاً فإن العدل يضمن لك الفوز في مضمار الحياة لأن له صولة تدوم وتبقى في الأرض. لا تحاول أن تنال بالبطش والظلم ما ليس لك ولا تحسد جارك على نعمة أصابها إنما الحسد سم لا ترياق له وقد رأيت الحسود والشره يقضيان عمرهما في فاقة ولو كانا غنيين أما القنوع الذي يرضى بالقليل إذا لم يستطع الكثير ويغبط غيره إذا ناله الخير فإنه لا محالة غنى ولو بات على الطوى وتقلب في الثرى.

إذا كنت ذا أهل فأعدد لهم عدتهم وأوفهم حاجتهم ولا تحرمهم خيرك وبرك وأخلص جتك التي تفرش لك وتنيمك وأطعمها إذا جاعت واكسها إذا عريت وداوها إذا مرضت وأسعدها إذا شقيت فهي أغلى ما تملك وأعز نعم الله عليك وحذار أن تقسو في عشرتها وكن بها رحيماً فن الرحمة تحببك إليها وتقربك من قلبها والقسوة تنفرها منك وتقصي ودها عنك. والمرأة أسيرة من يكرمها وهي كثيرة الولع بزهو الدنيا وزخرفتها فإن لم تنلها ما تحب من المتاع هجرتك.

أحسن إلى خدمك وحشمك وأعطهم مما أعطالك الله فما منحك المال الكثير والخير الوفير إلا لتمنح ذوي القليل. علمت أن إرضاء الأجير محال فهو كثير الطمع قليل الإخلاص ولكنك إذا غمرته بإحسانك وأسرته بكرمك أنطقت لسانه بشكرك. واعلم أن الله ينقم على بلد أجراؤه أرقاء وعمَّاله أذلاء فارعهم بعين الإحسان يرعك الله بعين الرحمة.

إياك أن تفوه بفحش القول وإن سمعت القول فمرّ كريماً وصن أذنيك عنه وأعرض عن قائله وإياك أن تعتب على قائله أو تؤنبه فإن في سكوتك وعفوك عنه درساً نافعاً وعظة بالغة فإن الخير يصلح الشرير بخيره ويرده عن غيه وشره.

إذا أمرك من هو أقدر منك بمعصية فاعصه لأن العصيان في النقيصه طاعة للفضيلة. لا تستعن على قضاء حاجتك بالكتمان فلعل فيه أذى ومضرة وربما منع الكتمان عن الانتفاع بعملك.

إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكبراء وأن تعاشر الحكام والعظماء فهذب نفسك واقض زمنك في تكوين عقلك بالعلم وتكميل قلبك بالفضائل لأن العلم والفضيلة يوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه فلا تنبس بكلمة حتى تزنها وإذا كنت في مجلس الدولة تجادل وتناضل فلا تنطق إلا بمقدار فلست تدري مكان من يناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادعاء فإنه فتنة وإن حذقت في فن فلا تزه بحذقك على أقرانك فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب. ويصيب الغبي ويخطئ الذكي.

إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتة وحذار أن تقطع حديث محدثك أو تجيب علي مالم يسألك عنه. إياك والحدة في القول فقد يعقبها الندم. اعتده كبح جماح نفسك والزم صون لسانك عما يجول في صدرك. لا تجعل كنز المال معقد آمالك ولا غاية أعمالك ولا تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل.

إذا لهوت فلا تتماد في لهوك فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يذهبان بالخير من الحياة.

إذا أردت أن تصيب غرضاً فكن كأحذق الرماة تصويباً أنعم النظر في هدفك قبل توتير قوسك فإذا وطدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك. واعلم أن ربان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلا إذا ساير الريح.

إذا اصطفاك الملك واصطحبك واستعان بك فلا تغتر بما لك عليه من الدالة فتلهيه عما يهمه بأن تسمعه مالا يحب أو تنبئه بما يكره فإنه إن وسعك حلمه مرة لا يسعك أخرى وهيهات أن يؤمن شر من إذا قال فعل. أعلم أن رفعتك لا تكون بعلو نفسك ولا تعلو إلا النفس التي اختارها الله والله لا يختار إلا نفساً تحب أعداءها كما تحب أصدقاءها وتبغض الشر لذاته وتعمل الخير حباً فيه لا جلباً لنفع تريده.

إذا وكل إليك تهذب صبي من أبناء الأشراف والأمراء فلا تخش بأس أهله في تقويم خلقه وإصلاح حاله فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذموك في الحال أثنوا عليك في المآل وكان نصحك كالدواء يسوء استعماله ويحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مجالسة الكبراء فإن في هذا من الفضائل مالا يحصي وإذا وفقت إلى القيام بعملك وقدر أهل الصبي حسن فعلك أغدقوا عليك نعمهم ورفعوك إلى مراتبهم وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مربيهم وأستاذهم.

إذا كنت من رجال الدين ووكل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين الملك والرعية فاحكم بالقسطاس وكن عدلاً ولا تظلم الشعب لتصانع الملك لئلا توصم بوصمة الأشراف وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدي بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه فاعف عنه واجتنب عشرته فإن كان حراً فالعفو قتل له وإن كان وغداً ففي هجرك إياه منجاة لك من شره.

إذا عظم قدرك بعد حقارة شأنك واستغنيت بعد فقرك فلا تقصر خيرك على نفسك إنما أنت خليفة الله في أرضه وحارس نعمته وولي خلقه رزقك لتعطيهم وهداك لتهديهم وأحسن إليهم فلا تخن الله في أمانته ولا تكفر بنعمته فما كفر بها إلا كل معتد أثيم. أطع ولي أمرك واخضع له بالحق فإن عيشك رهن الطاعة وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك.

إذا وليت أمر قوم فلا تتحكم في أعناقهم بظلم ولا تسع في سلب نعمتهم فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم. ولا تغدر أخاك فيما له من مال لأن الغدر منبت الأحقاد.

إذا شئت أن تسبر غور رجل تريده صاحباً فإياك وسؤال الناس عنه فما ذكروا لواحد حسنة إلا وأردفوها بمساوي لا تعد بل أكتف بعشرته أمداً محسناً إليه ما استطعت فينبسط الرجل ويفضي لك بما في نفسه فإن راقك بعد التجارب فاقبل عليه وفاتحه فيما تود وإلا فاتركه بالمعروف والحسنى وأن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث وإن استصغرت شأنه فلا تشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده ولا تحرم أخاً لك نفعاً تملكه.

اعلم أن كل سعادة يتبعها شقاء وكل غنى يتلوه فقر وكل صفاء له كدر. وأن للأيام دورات فكم من رفيع خفضت ووضيع رفعت وكم صعلوك أسكنت قصراً وكم كريم أذاقت بؤساً وفقراً.

إذا اتجرت فأوصيك باكتساب ثقة الناس فإنهم لك خير نصير إذا كبا بك الزمان وعاكستك صروف الحدثان. أعلم أن الذكر الرفيع أعظم قدراً في نظر العاقل من المال الكثير لأن المال يجيء ليذهب ولكن الشرف إذا حل ألقى رحله ولم يتحول.

إذا سألت فاسأل بالحسنى وإذا سئلت فتلطف في الجواب.

إذا أسأت إلى امرأة في عرضها ودعوتها إلى بذل ماء حيائها وجلبت عليها عاراً يخلق أديم وجهها فكن بها رحيماً وأفض من نعائمك عليها بقدر ما أسأت إليها فإن في ذلك إحساناً وعدلاً وتكفيراً عن الذنوب.

اعلم يا ولدي أنك إذا أطعتني وعملت بما نصحت إليك به فقد نهجت سبل الخير ومن ينهجها لا يضم.

إذا أردت أن تقوم من اعوجاج أهلك ومن حولك فلا تضن على الأحداث والجهلاء منهما بعلم واضرب لهم الأمثال وعلمهم الحكمة ليرجعوا في أمور معاشهم إليها ولعلك مؤد تلك الأمانة إلى أهلها وتارك وراءك أثراً يبقى في بلاد النيل إلى ما شاء الله فيكون نبراساً يستنير به الشعب والملك لأن في كلمى ما يستفيد به المسترشد فينال من الخير ما ينفعه. وقد نصحت بالرفق والكرم والقناعة لعلمي بأن الحكمة أفرغت في هذه الفضائل الثلاث.

إن من يقرأ قولي سيرضى به وتروقه حكمتي فتستنير بصيرته وتحل عقدة لسانه ويصفو ذهنه ويقوى جناته فيهذب أولاده ويورثهم الحكمة من يعده وهم يورثونها أبناءهم.

اعلم أن لا شيء أحسن لدى الوالد من طاعة الولد البار الذي يعني بقوله ونصحه وإذا تكلم أحسن الكلام وأن ألقى إليه القول أحسن الإصغاء فإن الصغير إذا شب على الطاعة استطاع أن يأمر وينهي في شيبه كما كان يأتمر وينتهي. إن الطاعة زارع يغرس المودة وإكسير يجلي صدأ القلوب ودواء ناجع يشفى داء البغض وآلة تنال بها حكمة الشيوخ وحنكتهم وهيهات أن يخلص لك النصح حكيم لا تطيعه. إن الله يحب الطاعة ويأمر بها في الخير ويبغضها وينهي عنها في الشر ولا ريب في أن القلب هو الذي يأمر صاحبه بالطاعة أو ينهاه عنها لأن حياة الرجل بحياة قلبه فإذا كان طاهراً تقياً كانت حياته طيبة شريفة وإذا كان القلب خبيثاً دنيئاً كانت حياة صاحبه كذلك.

إذا كنت في فتوتك مطيعاً ووليت الرئاسة في رجولتك كنت رئيساً عادلاً. وإن للعدل قوة تؤثر في النفوس الجامحة وتستل منها سخائم العناد.

رأيت الأمراء يحبون المطيع لأنهم يعلمون أن الطاعة فضيلة مكملة للأخلاق فعليك بتعلم الطاعة ولدك ليكون مقرباً من الأمراء والكبراء.

رأيت الجهال يعصون فيهلكون لأنهم لا يفرقون بين الخير والشر ولا بين الربح والخسران فيقترفون الذنوب فيذوقون أنواع الهوان. إن الجاهل قد يغلب العاقل بالثرثرة والهذر ولكنه يقصر عن مدى الأطفال في مجال العلم والحكمة فيجتنبه الناس ويبقى طول حياته مهجوراً محسوراً.

إذا رزقت ولداً فلا تضن عليه بالحكمة التي جدت بها عليك فيناله من الخير بنصحك ما نالك بنصحي وأوصه أن يبلغ رسالتك إلى ابنه من بعده فتبقى الحكمة في بيتنا وهذه نعمة كبرى. توخ الصدق فيما تقول للأطفال لأن نفس الحدث كالعجينة اللينة يسهل تشكيلها على أية صورة تريد واعلم أن الصدق إذا كان أول ما يقابل النفس اعتادته وبذا يمكن استئصال الرذائل منها وغرس الفضائل مكانها.

اعلم أنك إذا فعلت ما أوصيتك به كنت قدوة عشيرتك وأهلك فتتولى أنت وأولادك قيادة الشعب وزعامته وتلك الدرجة أسمى ما تتطلع إليه النفوس الكريمة. عليك بالعدل في قولك وفعلك واحرص على ما تفوه به حرص البخيل على درهمه والجبان على دمه. كن خاضعاً في حضرة الملك وعيوفاً في نظر أقرانك وإذا نطقت فليكن حديثك مدعاة للإعجاب بك والتحدث بفضلك. أقدر قولي قدره واعلم أن نصيحة الوالد أثمن ما يقتنيه الولد.

إذا بلغت منصبي فاجتهد يا ولدي في إرضاء الملك بإتقان ما تمارس من الأعمال. أحفظ شبابك تحفظ مشيبك. إذا مرضت فبادر إلى علاج جسمك فيطول بذلك عمرك وتنتفع بحياتك أنت وغيرك وتعيش كما عشت مائة وعشر سنين خدمت أثناءها بلادي بالحق والعدل فغمرني الملوك بالإحسان وأغدقوا على النعم فكنت أسعد حالاً من آبائي وأجدادي.

انتهت حكم فتاحوتب الحكيم المصري.