انتقل إلى المحتوى

عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/سياسته

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
٧

سياسته

تسري في صفحات التاريخ أحكام مرتجلة يتلقفها فم من فمي ، ويتوارثها جيل" عن جيل ، ويتخذها السامعون قضية مسلمة ، مفروغا من بحثها والاستدلال عليها ، وهي في الواقع لم تعرض قط على البحث والاستدلال ، ولم تجـاوز أن تكون شبهة وافقت ظواهر الأحوال ، ثم صقلتها الألسنة فعز عليها بعد صقلها أن تردها الى الهجر والإهمال

كل أولئك من لغو الشعوب .. وللشعوب بداهة تقصر دونها بداهة الغواصين من الأفراد ، ولكنها اذا لغت فشوطها في اللغو أوسع من شوط الفرد بامد بعيد ..

من تلك الأحكام المرتجلة قولهم ان عليا بن أبي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة 1 وقد شاع هذا الرأي في عصر علي بين أصحابه ، كما شاع بين اعدائه ، وعزز القول به انه خالف الدهاة من العرب فيما أشاروا به عليه ، وانه لم ينجح بعد هذه المخالفة في معظم مساعيه ، فكان من الطبيعي أن يقال انه مني بالفشل لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة ، وأنه هو لم يكن من اصحاب الخدع الناجحة في الحرب أو السياسة وقد يكون كذلك أو لا يكون ، فسترى بعد البحث في آرائه وآراء المشيرين عليه أي هذين القولين أدنى إلى الصواب . ولكن هل خطر لأحد من ناقديه في عصره أو بعد عصره ، أن يسأل نفسه : أكان في وسع علي أن يصنع غير ما صنع ؟ وهل خطر لأحد منهم أن يسأل بعد ذلك : هبه استطاع أن يصنع غير ما صنع فما هي العاقبة .؟.. وهل من المحقق انه كان يفضي بصنيعه الى عاقبة أسلم من العاقبة التي صار اليها ؟.. لم نعرف أحداً من ناقديه ، خطر له أن يسأل عن هذا أو ذاك .. مع ان السؤال عن . هذا وذاك هو السبيل الوحيد الى تحقيق الصواب والخطأ في رأيه ورأي مخالفيه ، سواء كانوا من الدهاة أو غير الدهاة .. والذي يبدو لنا نحن من تقدير العواقب على وجوهها المختلفة أن العمل بغير الرأي الذي سيق اليه لم يكن مضمون النجاح ولا كان مأمون الخطر ، بل ربما كان الأمل في نجاحه أضعف والخطر من اتباعه أعظم ، لو أنه وضع في موضع العمل والانجاز وخرج من حيز النصح والمشورة : وهذه هي المسائل التي خالفه فيها الدهاة، أو خالفه فيها تقدة التاريخ الذين نظروا اليها من الشاطيء ، ولم ينظروا اليها نظرة الربان في غمرة العواصف والأمواج ...

فالمآخذ التي من هذا القبيل، يمكن أن تنحصر في المسائل التالية : ١ - عزل معاوية . ٢ ـ معاملة طلحة والزبير . ٣- عزل قيس بن سعد من ولاية مصر . ٤ - تسليم قتلة عثمان . ه - قبول التحكيم . ٦ - قبول الخلافة وهي كلها على الأقل قابلة للخلاف والاحتجاج من كلا الطرفين .. - ١٢١ فان لم يكن خلاف وكان جزم قاطع .. فهو على ما نعتقد أقرب الى رأي علي وأبعد من آراء مخالفيه وناقديه قيل في مسألة معاوية ان عليا رضي الله عنه خالف فيها رأي المغيرة و ابن عباس وزياد بن حنظلة التميمي، وهم جميعاً من المشهورين بالحنكة وحسن التدبير . جاءه المغيرة بن شعبة بعد مبايعته فقال له : « ان لك حق الطاعة والنصيحة ، وان الرأي اليوم تحرز به ما في غد ، وان الضياع اليوم تضيع به ما في غد . أقرر معاوية على عمله ، وأقرر العمال على أعمالهم، حتى اذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت » فأبى وقال : ( لا أداهن في ديني ، ولا أعطي الدنية في أمري ) قال المغيرة : ( فان كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية فان في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع له ولك حجة في اثباته .. إذ كان عمر قد ولاه الشام ... فقال علي : ( لا والله .. لا أستعمل معاوية يومين )

ثم خرج المغيرة ودخل عليه ابن عباس فقال له ، لما علم برأي المغيرة : انه نصحك ... قال علي : « ولم نصحني ؟ ) قال : « لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا ، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر ، ومتى تعزلهم يقولوا أخذ هذا الأمر بغير شورى ، وهو قتل صاحبنا ، ويؤلبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق ... ثم مضت الأيام ، وشاع بين أهل المدينة أن معاوية منتقض على الامام .. فبعثوا بزياد بن حنظلة التميمي يعلم ما عنده من أمر هذا الانتقاض ، وكان زياد من جلسائه . فقال له الامام : « تيسر » قال زياد : « لأي شيء ؟ ) قال : « تغزو الشام» فقال زیاد : ( الأناة والرفق أمثل ، واستشهد بقول الشاعر : ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بانياب ويوطا بمنسم فتمثل علي : متى تجمب القلع الذكي وصارما وأنفا حمياً تجتنبك المظالم. فخرج زياد الى الناس وهم يسألونه « ما وراءك ؟ » فأجابهم : « هو السيف يا قوم ! ) ..

تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة ، وذلك ما عمل به الامام وارتضاه .. فأيهما على خطا وأيهما على صواب ؟ سبيل العلم بذلك أن نعلم أولاً : هل كان الامام مستطيعاً أن يقر معاوية في عمله بالشام ؟ .. وان تعلم بعد هذا : هل كان اقراره أدنى الى السلامة والوفاق لو أنه استطيع ؟ . وعندنا ان الامام لم يكن مستطيعاً أن يقر معاوية في عمله لسببين : أولهما انه أشار على عثمان بعزله أكثر من مرة ، وكان اقراره واقرار أمثاله من الولاة المستغلين أهم المآخذ على حكومة عثمان في رأي على وذوي الصلاح والاستقامة بين الصحابة ، وكثيراً ما اعتذر عثمان من اقرار معاوية بأنه من ولاة عمر بن الخطاب .. فكان علي لا يقبل هذا العذر ولا يزال يقول له : « انه كان أخوف لعمر بن الخطاب من غلامه يرفا » .. ولكنه بعد موت عمر لا يخاف ) . فاذا أقره وقد ولي الخلافة ، فكيف يقع هذا الاقرار عند أشياعه ؟ ألا يقولون انه طالب حكم لا يعنيه اذا وصل الى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس ؟ واذا هو أعرض عن رأيه الأول، فهل في وسعه أن يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال والخروج من حكم عثمان الى الى حكم جديد ؟ . . ان هؤلاء الثائرين أشفقوا من نية الصلح مع طلحة والزبير في وقعة الجمل ، فبدأوا بالهجوم قبل أن يؤمروا به .. هجموا على أهل البصرة وهم مأمورون بالهدنة والاناة . فكيف تراهم يهدأون ويطيعون اذا علموا ان الولايات باقية على حالها ، وان الاستغلال الذي شكوا منه وسخطوا عليه لا تبديل فيه ؟ . وندع هذا وتزعم ان اقرار معاوية بجيلة من الحيل مستطاع .. فهل هو على هذا الزعم أسلم وأدنى الى الوفاق ؟ كلا .. على الأرجح ، بل على الرجحان الذي هو في حكم التحقيق لأن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال يظل واليا طول حياته ، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول الى ما ورائه ، ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولأبنائه من بعده .. فجمع الأقطاب من حوله ، واشترى الأنصار بكل ثمن في يديه، وأحاط نفسه بالقوة والثروة واستعد للبقاء الطويل ، واغتنام الفرصة في حينها .. فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بشاره ؟ وانما كان مقتل عثمان فرصة لا يضيعها ، والا ضاع منه الملك وتعرض - ١٢٥ يوماً من الأيام لضياع الولاية . وما كان مثل معاوية بالذي يفوته الخطر من عزله بعد استقرار الأمور، ولو على احتمال بعيد .. فماذا تراه صانعاً اذا هو عزل بعد عام من مبايعته لعلي وتبرئته إياه من دم عثمان ؟ انما كان مقتل عثمان فرصة لغرض لا يقبل الإرجاء .. واذا كان هذا موقف علي ومعاوية عند مقتل عثمان ، فماذا كان علي مستفيداً من اقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره .. لقد كان معاوية أحرى أن يستفيد بهذا من علي ، لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية عمله في الولاية ، وكان يغنم به أن يفسد الأمر على علي بين أنصاره ، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة الامام .. وأصدق ما يقال بعد عرض الموقف على هذا الوجه من ناحيتيه ان صواب الامام في مسألة معاوية كان أرجح من صواب مخالفيه .. فان لم تؤمن بهذا على التقدير والترجيح ، فأقل ما يقال ان الصواب عنده وعندهم سواء والتقدير في مسألة طلحة والزبير أيسر من التقدير في مسألة معاوية وولاة عثمان على الأمصار : لأن الرأي الذي عمل به الامام معروف، والآراء التي تخالفه لا تعدو واحداً من ثلاثة ، كلها أغمض عاقبة ، واقل سلامة ، وأضعف ضماناً من - ١٢٦ رأيه الذي ارتضاه . فالرأي الأول أن يوليها العراق واليمن أو البصرة والكوفة ، وكان عبد الله بن عباس على هذا الرأي فأنكره الامام لأن ( العراقين بها الرجال والأموال ، ومتى تملكا رقاب الناس يستعملان السفيه بالطمع ويضربان الضعيف بالبلاء ، ويقويان على القوي بالسلطان . ثم ينقلبان عليه أقوى مما كانا بغير ولاية ، وقد استفادا من اقامة الامام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجة، ويثيران بها أنصاره عليه .

والرأي الثاني أن يوقع بينهما ليفترقا ولا يتفقا على عمل ، وهو لا ينجح في الوقيعة بينهما إلا بأعطاء أحدهما وحرمان الآخر .. فمن أعطاه لا يضمن انقلابه مع الغرة السانحة : ، ومن حرمه لا يأمن أن يهرب الى الاثرة كما هرب غيره ، فيذهب الى الشام ليساوم معاوية ، أو يبقى في المدينة على ضغينة مستورة .. على انهما لم يكونا قط متفقين حتى في مسيرهما من مكة الى البصرة ، فوقع الخلاف في عسكر هما على من يصلي بالناس ، ولولا سعي السيدة عائشة بالتوفيق بين المختلفين لافترقا من الطريق خصمين متنافسين . ولم تطل المحنة بهما متفقين أو مختلفين ، فانهزما بعد أيام قليلة ، وخرج الامام من حربهما أقوى وأمنع مما كان قبل هذه الفتنة ، - ١٢٧ ولو بقيا على السلم المدخول لما انتفع بهما بعض انتفاعه بهذه الهزيمة العاجلة والرأي الثالث أن يعتقلهما أسيرين ، ولا يبيح لهما الخروج من المدينة الى مكة حين سألاه الاذن بالمسير اليها ، ثم خرجا منها الى البصرة ليشنا الغارة عليه .. والواقع ان الامام قد استراب بما نوياه حين سألاه الاذن السفر الى مكة .. فقال لهما : ( ما العُمرة تريدان ، وانما تريدان الغدرة ! ) ولكنه لم يحبسها ، لأن حبسهما لن يغنيه عن حبس غيرهما من المشكوك فيهم. وقد تركه عبد الله بن عمر ولم يستأذنه في السفر ، وتسلل الى الشام أناس من مكة ومن المدينة ولا عائق لهم أن يتسللوا حيث شاءوا ، ولو انه حبسهم جميعاً لما تسنّى له ذلك بغير سلطان قاهر ، وهو في ابتداء حكمه لما يظفر بشيء من ذلك السلطان، وأغلب الظن ان سواد الناس كانوا يعطفون عليهم وينقمون حبسهم قبل أن تثبت له البينة بوزرهم . وما أكثر المتحرجين في عسكر الامام من حبس الأبرياء بغير برهان ؟ لقد كان هؤلاء خلقاء أن ينصروهم عليه وقد كانوا ينصرونه عليهم، وخير له مع طلحة والزبير وأمثالهما أن يعلنوا عصيانهم فيغلبهم من أن يكتموه فيغلبوه ويشككوا بعض أنصاره في عدله وحسن مجاملته لهم.

- ١٢٨ وعلى هذا كله حاسنوه ولم يصارحوه بعداء .. لم يكن الجيش الذي خرج من مكة الى البصرة بيائس من الخروج اليها اذا لم يصحبه طلحة والزبير فقد كانت « العثمانية ) في مكة حزباً موفور العدد والمال .. فهي مسألة تلتبس فيها الطرائق ، ولا يسعنا أن نجزم بطريقة منها أسلم ولا أضمن عاقبة من الطريقة التي سلكها الامام وخرج منها غالباً على الحجاز والعراق ، وما كان وشيكاً أن يغلب عليهما لو بقي معه طلحة والزبير على فرض من جميع الفروض التي قدمناها ... أما عزل قيس بن سعد من ولاية مصر ، فهي غلطة الامام يقل الخلاف فيها ... من غلطات لأن قيس بن سعد كان أقدر أصحابه على ولاية مصر وحمايتها ، وكان كفؤا لمعاوية وعمرو بن العاص في الدهاء والمداورة ، فعزله الامام لأنه شك فيه .. وشك فيه لأن معاوية أشاع مدحه بين أهل الشام، وزعم انه من حزبه والمؤتمرين في السر بامره . وكان أصحاب على يُحرضونه على عزله ، وهو يستمهلهم ويُراجع رأيه فيه حتى اجتمعت الشبهات لديه .. فعزله وهو غير واثق من التهمة، ولكنه كذلك غير واثق من البراءة . وشبهاته مع ذلك لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة ، فان قيس بن سعد لم يدخل مصر الا بعد أن مر بجماعة من حزب معاوية ، فأجازوه ولم -١٢٩ - عبقرية الامام علي (٩) يحاربوه وهو في سبعة نفر لا يحمونه من بطشهم ، فحسبوه حين أجازوه من العثمانية الهاربين الى مصر من دولة علي في الحجاز ولما بايع المصريون عليا على يديه، بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون ، وقالوا له : ( أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر ، فأمهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الاسكندرية .

ثم أغراه معاوية بمناصرته والخروج على الامام ، فكتب اليه كلاماً لا الى الرفض ولا الى القبول ، ويصح لمن سمع بهذا الكلام أن يحسبه مراوغاً لمعاوية أو يحسبه مترقباً لساعة الفصل بين الخصمين .. اذ كان ختام كتابه اليه : ( ... أما متابعتك فانظر فيها ، وليس هذا مما يسرع اليه وانا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهــــه ، حتى نری وتری ) ثم اشتد في وعيده حين أنذره معاوية فقال : ( أما قولك اني مالي عليك مصر خيلا ورجلاً ، فوالله ان لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهم اليك إنك لذو جد والسلام ... وأراد الامام أن يستيقن من الخصومة بين قيس ومعاوية ، فأمر قيسا أن يحارب المتخلفين عن البيعة .. فلم يفعل وكتب اليه : .... متى قاتلنا ساعدوا عليك عدوك ، وهم الآن معتزلون والرأي تركهم ) - ١٣٠ فتعاظم شك الامام وأصحابه، وكثر المشيرون عليه بعزل قيس واستقدامه الى المدينة .. فعزله واستقدمه ، وتبين بعد ذلك انه أشار بالرأي الصواب ، وان ترك المتخلفين عن البيعة في عزلتهم خير من التعجيل بحربهم لأنهم هزموا محمداً بن أبي بكر والي مصر الجديد، وجرء وا عليه من كان يصانعه ويواليه . غلطة لا ريب فيها . وان كان جائزاً مع هذا الا يهزموا قيساً ، لو كان حاربهم كما هزموا خلفه الذي لا يعدله في الحزم والخبرة . ولكننا نبالغ على كل حال ، اذا علقنا بها الجرائر التي أصابت الامام من بعدها ، وزعمنا انه تقاعد عن اصلاحها في حينها ، كما تصلح الغلطات التي يساق اليها الساسة .. فانما هي غلطة من تلكم الغلطات التي تضير والحوادث مولية .. وقلما تضير أو تعز على الاصلاح والحوادث مؤاتية . وقد عرف الامام خطأه فقال لصحبه : ( ان مصر لا يصلح لها الا أحد رجلين هذا الذي عزلناه والأشتر ، وأنفذ الأشتر الى مصر ليعيدها إلى طاعته فمات في الطريق ..

والأقوال في موت الأشتر هذه الميتة الباغتة كثيرة ، منها انه مات - ١٣١ وان معاوية أغرى به من دس له الشمر في عسل .. شربه وهو على حدود مصر فقضى نحبه ، ورُوي أن معاوية قال حين بلغه موته : « ان الله جنوداً من العسل . فان صحت الرواية ، واعتقد من اعتقد انها من دلائل السياسة القوية عند معاوية .. فمما لا شك فيه ان موت الأشتر ، لم يكن من دلائل السياسة الضعيفة عند الامام ، وانه لا لوم على سياسته في اغتياله ، ان كان فيه سبب ثناء على سياسة الغيلة عند من يحمدونها . ومن عجائب هذه القصة ان معاوية ندم على تقريب قيس من جوار علي ، وقال « لو أمددته بمائة ألف لكانوا أهون علي من قيس لأنه قد ينفعه وهو قريب منه بالمشورة عليه في عامة أموره ، ولا ينحصر نفعه له في سياسة مصر وحدها . ولكن الذي حذره معاوية لم يكن ، والذي حذره علي كان . واذا ولت الحوادث ، فقد ينفع الخطأ وقد يضير الصواب. ثم تأتي مسألة القصاص من قتلة عثمان التي كانت أطول المسائل جدلاً بين الامام وخصومه ، فاذا أقصرها جدلاً . براءة المقصد من الهوى مع برا وخلوص الرغبة في الحقيقة هي فقد طالبوه بالقود ولم يبايعوه، مع أن القود لا يكون الا من ولي الأمر - ١٣٢ المعترف له باقامة الحدود . وطالبوه به ولم يعرفوا من القتلة ومن هو الذي يؤخذ بدم عثمان من القبائل أو الأفراد .. واعنتوه بهذا الطلب لأنهم علموا انه لا يستطاع قبل أن تثوب السكينة الى عاصمة الدولة ، وأعفوا أنفسهم منه - وهم ولاة الدم كما يقولون - يوم قبضوا على عنان الحكم وثابت السكينة إلى جميع الأمصار .

وقد تحدث الامام مرة في أمر القود من قتلة عثمان ، فاذا بجيش يبلغ عشرة آلاف يشرعون الرماح ويجهرون بأنهم كلهم قتلة عثمان » فمن شاء القود فليأخذه منهم أجمعين . وكان الامام يقول لمن طلبوا منه اقامة الحدود : « إني لست أجهل ما تعلمون ، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا تملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت اليهم أعرابكم ، وهم بينكم يسومونكم ما شاءوا ، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون ؟. » و من قوله لهم : ( .. أن هذا الأمر أمر جاهلية ، وان لهؤلاء القوم مادة ، وان الناس من هذا الأمر الذي تطلبون على أمور : فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون ، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى تهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق فاهده وا عني ، وانظروا ٠١٣ماذا يأتيكم ثم عودوا ) ولو ان المطالبين بدم عثمان التمسوا أقرب الطرق إلى النار له ، والقصاص من العادين عليه، لقد كان هذا أقرب الطرق إلى ما أرادوا .... يؤيدون ولي الأمر حتى يقوى على اقامة الحدود ، ثم يُحاسبونه بحكم الشريعة حساب انصاف . . الا انهم طلبوا ما لا يجاب وما لم يكن من حقهم أن يطلبوه، وليس بينهم أعف ولا أتقى من السيدة عائشة رضي الله عنها . وقد روي عنها انها قالت لما أخبرت ببيعة على وهي خارجة من مكة : « ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لعلي ، تشير الى السماء والأرض .. ثم عادت الى مكة وهي تقول : ( قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبن بدمه » فقيل لها : ولم ؟.. والله ان أول من أثار الناس عليه لأنت .. ولقد D كنت تقولين : اقتلوا « نعثلاً ، فقد كفر . فقالت « انهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي اليوم خير من قولي الأول » . وناهيك بالسيدة عائشة في فضلها ومكانتها وتقواها، فقل ما شئت في المطالبين غيرها بهذا الطلب الذي لا يجاب . - ١٣٤ والرضا أو الارضاء ، مستحيل حين يكون الطلب من هذا القبيل .

أما الذين لاموه لقبوله التحكيم، فيخيل الينا من عجلتهم الى اللوم أنهم كانوا أول من يلومه ويفرط في لومه لو انه رفض التحكيم وأصر على رفضه ، لأنه لم يقبل التحكيم وله مندوحة عنه ... ولكنه قبيله بعد احجام جنوده عن الحرب ، ووشك القتال في عسكرهم خلافاً بين من يقبلونه ويرتضونه. وقبيله بعد أن حجز الحفاظ والقراء نيفاً وثمانين فزعة للقتال لشكهم في وجوبه وذهاب بعضهم الى تحريمه . وبعد أن تو عدوه بقتله كقتلة عثمان ، وأحاطوا به يلحون عليه في استدعاء الأشتر النخعي الذي كان يلاحق أعداءه مستحصداً في ساحــــة الحرب على أمل في النصر القريب .. والمؤرخون الذين صوبوا رأيه في التحكيم وخطئوه في قبول أبي موسى الأشعري ، على علمه بضعفه وتردده ، ينسون أن أبا موسى كان مفروضاً عليه ، كما فرض عليه التحكيم في لحظة واحدة .. وينسون ما هو أهم من -- الم ذلك ، وهو ان العاقبة متشابهة سواء ناب عنه أبو موسى الأشعري أو ناب عنه الأشتر أو عبد الله بن عباس .. فان عمرو بن العاص لم يكن ليخلع معاوية ويقر عليا في الخلافة ، وقصارى ما هنالك أن الحكمين سيفترقان على تأييد كل منهما لصاحبه ورجعة الأمور الى مثل ما رجعت اليه . وان توهم بعضهم ان الأشتر أو ابن عباس كان قديراً على تحويل ابن العاص عن رأيه، والجنوح به الى حزب الامام ، بعد مساومته التي ساومها في حزب معاوية ... فليس ذلك على التحقيق بمقنع معاوية أن يستكين ويستسلم ، وحوله المؤيدون والمترقبون للمطامع واللبانات يعز عليهم اخفاقهم كما يعز عليه اخفاقه وما أسهل المخرج الشرعي الذي يلوذ به معاوية فيقبله منه أصحابه ويتابعونه على نقض حكم الحكمين المتفقين ؟ .. لقد كان النبي عليه السلام يقول عن عمار بن ياسر انه ( تقتله الفئة الباغية ، فلما قتله جند معاوية ، وخيفت الفتنة بينهم أن تلزمهم سبة البغي بشهادة الحديث الشريف - قال قائل منهم : إنما قتله من جاء به الى الحرب .. فشاع بينهم هذا التفسير العجيب ، وقبلوه جميعاً غير مستثنى منهم رجل واحد .. أفلا يقبلون تفسيراً مثله اذا تحوّل ابن العاص ، وأفتى الحكماء بخلع معاوية ومبايعة الامام ؟ فليس في أيدي المؤرخين الناقدين اذن حل أصوب من الحل الذي - ١٣٦ أذعن له الامام على كره منه ، سواء أذعن له وهو عالم بخطئه أو أذعن له وهو يسوي بينه وبين غيره في عقباه . ويبقى اعتزال الخلافة من البداية ، وهو خطة ترد على الخاطر حيال هذه المعضلات التي واجهها الامام ، ولم يكن عسيراً عليه أن يتوقعها بعد مقتل عثمان وشيوع الفتنة والشقاق بين الأمصار كلها .. وشيوعهها قبل ذلك بين جنده الذي يعول عليه . ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل ، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل .. وكل ما هنالك من أسباب ترجيحها أنها أسلم للامام وآمن لسربه وأهدأ لباله ، وهو أمر مشكوك فيه .. على ما في طلب السلامة بين هذه الزعازع من أثره ، قلما يرتضيها الشجاع الباسل أو الحكيم العامل . فمن السخف أن يخطر على البال ان رجلا كعلي بن أبي طالب، يترك وادعاً في سربه بين هذه الزعازع التي تحيط بالدولة الاسلامية في عصره... ان تركه الثوار وأعفوه من الحكم ، لم يتركه أصحاب السلطان ولم يعفوه من الدسيسة والايذاء ، لاعتقادهم انه باب من أبواب الخطر الدائم، وانه ما عاش فهو علم منصوب يفيء اليه كل ساخط وكل مصلح وكل مخالف على الدين أو على الدنيا . وقد قيل ان ابنه الحسن مات مسموماً في عهد معاوية خوفاً من لياذ الناس به ورجعتهم اليه . وقيل مثل - ١٣٧المكانة اد عن عبد الله بن خالد بن الوليد .. وما أعظم البون في والحساب بينهما وبين الامام عند أصحاب المخاوف وأصحاب الآمال .

ولعلنا نقارب هذه الحقيقة من ناحية أخرى ، اذا رجعنا الى أقوال أبطال الميدان نفسه في علل النصر والهزيمة ، وفيما يقال عن مزية كل منهم على خصمه أو مزية خصمه عليه . فعلي يسمع ما يقال عن شجاعته ورجحان معاوية عليه في الدهاء ، فيقول : « ... والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس .. ) أو يقول : ( ولكنه لا رأي لمن لا يطاع ) ويعلل ما أصابه في بيعته بما أجمله لأتباعه حين قال لهم : « .. لم تكن بيعتكم أياي فلتة ، وليس أمري وأمركم واحداً .. اني أريدكم الله ، وأنتم تريدونني لأنفسكم » ومعاوية يذكر الخصال التي أعين بها على علي ، فيقول : « انه كان رجلا لا يكتم سراً وكنت كتوماً لسري ، وكان يسعى حتى يفاجئه الأمر مناجاة وكنت أبادر الى ذلك ، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافاً . وكنت أحب الى قريش منه ، فنلت ما شئت ... » - ١٣٨ وعمر بن العاص يقول عن عدة النجاج في طلب الخلافة : « انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر " وهذه هي أسباب النصر والهزيمة على حقيقتها ، الا انها تظل ناقصة ما لم نقرنها بحقيقة أخرى ، وهي أن هزيمة معاوية كانت مرجحة - بل مؤكدة - لو انه وضع في موضع علي ، وابتلي بالأسباب التي ابتلي بها . فالبلاد كله انما كان في خبث الأجناد وشدة خلافهم ، ولهذا كان سر علي يعرف وسر معاوية يكتم .. لأن معاوية يطاع ونيته في صدره ، وعليا لا يطاع إلا اذا سئل عن نيته وما يحل منها أو يحرم في رأي أتباعه . وكذلك كانت تُفاجئه الحوادث لأنه كان يروي فيها ما يروي ، ولا ينفذ من رؤيته الا الذي ينساق اليه هو وأتباعه آخر المطاف بحكم الضرورة الحازبة ، وقد بطل الجدل وبطل من قبله التدبير ولو أن معاوية كتب عليه أن يحارب جنداً مطيعاً يجند عصاة، لماطمع في حظ أوفق من حظ علي في ذلك الصراع المتفاوت بين الخصمين .. ولو استعان بكل ما أعين به من رشوة الأنصار وكيد الخصوم ، بل لعله كان يُخفق حيث أفلح قرنه على قدر ما بينهما من فارق في الشجاعة والسابقة الدينية ، وكذلك قال الامام : ( ان لبني أمية مروداً يجرون - ١٣٩ فيه ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضباع الغليتهم على اننا نود أن نقف عند الحد المأمون في تعليل النصر والهزيمة ، ولا تعدوه الى ما وراءه فليس من قصدنا أن نصف عليا بقوة الدهاء وسعة الحيلة ، ولكننا قصدنا أن نبرته من عجز الرأي وضعف التدبير ، .. لأن اسباب الهزيمة موفورة بغير هذا السبب الذي لا دليل عليه ... فقوام الفصل بين الطرفين انه لا دليل لدينا من الحوادث على عجز رأي ولا قوة دهاء .. ولو كانت قوة الدهاء صفة غالبة فيه لظهرت على صورة من الصور ، وان قامت الحوادث عائقاً بينها وبين النجاح .. فان الدهاء لا يخفيه أن تكون المعضلة التي يعالجها محتومة الفشل مقرونة بالخذلان ... ومما لا شك فيه ، ان عليا أشار بالرأي في مواقف كثيرة فأصاب المشورة، وأنه وصف أناساً فدل على خبرة بالرجال وما يغلب عليهم من الطباع والخصال ، وانه أخذ بالحزم في توقع الحوادث واستطلاع الأمور ولكنه لزم الكفاية في ذلك ، ولم يتجاوزها الى الأمد الذي يسلكه بين الدهاة الموسومين بفرط الدهاء .. فمن مشوراته الصائبة، أنه نهى عمر رضي الله عنه أن يخرج لحرب الروم والفرس بنفسه ، فقال له : « انك متى تسر الى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب ، لا تكن للمسلمين كائنة دون أقصى بلادهم .. ليس -12بعدك مرجع يرجعون اليه ، فأبعث اليهم رجلاً مجرباً .. فإن أظهر الله فذاك ما تحب ، وان تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين )

ومن وصفه للرجال وأساليب تناولهم ، قوله لابن عباس وقد أرسله إلى طلحة والزبير : « لا تلقين طلحة ، فانك ان تلقه تلفه كالثور عاقصاً أي لاويا - قرنه يركب الصعب ويقول هو الذلول ، ولكن الق الزبير فانه ألين عريكة فقل له : ( يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق .. فما عدا مما بدا ؟ » ومن حزمه انه كان يبث عيونه وجواسيسه في الشرق والغرب ليطلعوه على أخبار أعوانه وأعدائه ، وانه كان اذا وجبت الحرب بادر بالخروج ولم يأته التردد والابطاء بعد ذلك إلا من خلاف جنده. و من معرفته للجماهير انه وصفهم أوجز وصف حين قال انهم أتباع كل ناعق ، وانهم هم الذين اذا اجتمعوا ضروا واذا تفرقوا نفعوا » ... لأنهم اذا تفرقوا رجع أصحاب المهن الى مهنهم فانتفع بهم الناس ... فهذا قسط من الرأي الصائب ، كاف لمهمة الحكم لو تصدى به الامام للخلافة .. والعصر عصر خلافة وليس بعصر دولة دنيوية مضطربة في دور تأسيسها وتلفيق أجزائها . -111بل هو قسط كاف لمهمة الحكم في الدولة الدنيوية ، لو تولاها بعد استقرارها والفراغ من مكائد تأسيسها .. كما جاء عمر بن عبد العزيز في صلاحه وتقواه بعد الملوك الأولين من بني أمية . ولكنه قسط من الرأي لا يسلك صاحبه بين اساطين الدهاة الذين يكيدون بالرأي وبالعمل النافذ على السواء . .. ونعود بعد هذا ، فنقول انه لم يخسر كثيراً بما فاته من الدهاء ولم يكن ليربح كثيراً لو استوفى منه أو فى نصيب، لأنه لا يدمن ملك أو خلافة .. ولن يكون ملكا بادوات خليفة ، ولا خليفة بأدوات ملك ، ولن تبلغ به الحيلة أن يحارب رجلاً يريد العصر والعصر يريده ، لأنه عصر ملك تهيأت له الدواعي الاجتماعية ، وتهيأت له الرجل بخلائقه ونياته ومعاونة أمثاله .

ولم يكن معاوية زاهدا في الخلافة على عهد ابي بكر او عمر او عثمان ، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه . فلما جاء عصر الملك ، طلب الملك والملك يطلبه . وقديماً قال أبوه للعباس عم النبي ، وقد رأى جيش المسلمين في فتح مكة : « لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً ) . فہو الملك ، أو جاه الدنيا ، الذي تطلع اليه من نشأته الأولى في بيته .. وانتظر ثم انتظر حتى لاقاه على قدر ، فوضع في موضعه وقام به الموضع كما قام به، ونجحا معاً على التوافق والرفاء . وحين وجب أن يقع الفصل بين الملك والخلافة ، وجب ان يكون على رأس فريق الخلافة . وحين وجب أن يقع الفصل بين اصحاب المنافع الراغبين في دوام المنفعة ، وبين أصحاب المبادىء والظلامات الراغبين في التبديل والاصلاح وجب ان يكون على رأس هذا الفريق دون ذلك الفريق . وحين وجب هذا وذاك وجوباً لا حيلة فيه للمتحول ، ولا اختيار فيه للمختار ، رجب أن تصير خلافة على الى ما صارت اليه ، كائناً ما كان خطره من الدهاء والخدعة ، وكائناً ما كان طريقه الذي ارتضاه هو أو أشار به المشيرون عليه .

وقد يحسن بالمؤرخ بعد الموازنة بين عدة الخلافة وعدة الملك في صراع علي ومعاوية ، أن يذكر عدة أخرى لم تظهر في هذا الصراع ، وقـــــد ظهرت في مآزق شتى من أحرج مآزق التاريخ ، واعتمد عليها أبطاله الكبار كثيراً في تأسيس الدول وقمع الثورات ، فاختصروا الطريق وأراحوا أنفسهم من عناء طويل ، ونريد بها عدة البطش العاجل والمباغتة الحاسمة كلما تأشبت العقد وتعسرت الحيلة ووجب الخلاص السريع ... فقد علمنا مثلاً ان الأشعث بن قيس كان يعترض الامام في كل خطوة من خطوات النصر ، ويثقل عليه باللجاجة والعنت في مواقف مكربة تضيق بها الصدور ولم يكن الأشعث بن قيس بالوحيد في هذا الباب ، بل كان له شركاء من الخوارج وغير الخوارج، يظهرون بالعنت في غير موضعه ويذهبون به وراء حده، وربما بلغوا من الضرر في معسكر الامام فوق مبلغ الأشعث بن قيس ، على عظم الفارق بين سلطانهم وسلطانه . ألا يخطر على البال هنا ، ان ضربة من الضربات القاضية كانت تنجع في هذا العنت المكرب حيث لا تنجع العقوبة الشرعية أو الأحاييل السياسية ؟ .. ماذا لو أن الامام جرد سيفه بين أولئك المشاغبين ، واطاح برأس الأشعث بن قيس قبل ان يفيق احد إلى نفسه، ثم ولى على الفور من يقوم مقامه في رآسة قومه ويكفل لهم الطاعة بينهم لأمره ؟.. أكان بعيداً أن تفعل الرهبة فعلها ، فيسكن المشاغب ، ويهاب المتطاول ، ويجتمع المتفرق ، ويقل الخلاف بعد ذلك على الامام وعلى الرؤساء عامة ؟ لم يكن ذلك ببعيد . -111- d لكنه كذلك لم يكن بالمحقق ، ولا بالمأمون .. فهي مجازفة ذات حدين تصيب بأحدهما وقد تصيب بها معا .. وقد يكون الحد الذي تصيب به هو الحد الذي قبل الضارب دون الحد الذي من قبل المضروب ... وكل ما تفيدنا اياه هذه الملاحظة العابرة على التحقيق، ان الامام رضي الله عنه لم يكن من أصحاب هذه الملكة التي اتصف بها بعض أبطال القلاقل في أيام الفصل بين عهدين متدابرين. فكانت له ضربة الشجاع ، ولم تكن له ضربة المغامر أو المقامر .. ولم يضرب بالسيف قط ، كانه يقذف بالقداح إما إلى الكسب واما الى الخسارة .. وانما كان يضرب به ضرب الجندي الذي يلتمس الغلب بقوته وقوة ايمانه ، ولا يلتمسه من جولات السهام وفلتات الغيب على اننا - وقد سجلنا هذه الملاحظة - نفرض انه رضي الله عنه كان من أصحاب الملكة التي عرف بها بعض المغامرين في أوقات الفصل بين العهود ونفرض أنه عمد اليها ، فنفعته في عسكره وطوعت له الجند وأراحته من شغب الخارجين عليه والمتشعبين بالآراء والفتاوى من يمينه وشماله . فماذا عسى أن يغيّر هذا كله من طبيعة الموقف الذي أجملناه ؟ .. -120- عبقرية الامام علي (١٠) يكون المخرج بين سياسة الملك ، كما يطلبها العصر ، وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية ؟ أيسوس الامام دولته ملكاً دنيوياً أم يسوسها خليفة نبوة ؟ أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف أم يلزمهم عيشة النسك والشظف والجهاد ؟ واذا حرمهم وتألبوا عليه خصمه ، أفهو الغالب إذن بمطالب مع العصر ومقتضياته ودواعيه أم هم الغالبون ؟ واذا أعطاهم ليبذخوا بذخ الملك الدنيوي وهو وحده بينهم الناسك المجتهد على سنة النبوة ، أفيستقيم له هذا الدور العجيب وهو في جوهره متناقض لا يستقيم ؟ .. فالسياسة التي اتبعها الامام هي السياسة التي كانت مقيضة له مفتوحة بين يديه ، وهي السياسة التي لم يكن له محيد عنها ، ولم يكن له أمل في النجاح ان حاد عنها الى غيرها ... سواء عليه اتفق جنده بضربة من الضربات القاضية أم لم يتفقوا على دأبهم الذي رأيناه ، وسواء لان لطلاب الدولة الدنيوية أم صمد على سنّة النبوة والخلافة النبوية .

ومهما يكن من حكم الناقدين في سياسة الامام ، فمن الجور الشديد -117أن يُطالب بدفع شيء لا سبيل الى دفعه ، وأن يُحاسب على مصير وهي منتهية لا محالة إلى ما انتهت اليه ... الخلافة و من الجور الشديد ، أن يلقى عليه اللوم لأنه باء بشهادة الخلافة ، ولا بد لها من شهيد .. وقد تجمعت له أعباء النقائض والمفارقات التي نشأت من قبله ، ولم يكد يسلم منها خليفة من الخلفاء بعد النبي صلوات الله عليه .. أحس بها الصديق، فمات وهو ينحي على الصحابة ويحذرهم بوادر الترف الذي استناموا اليه .. وأحس بها الفاروق وأثقلت كاهله ، وهو الكاهل الضليع بأفدح الأعباء .. فضاق ذرعاً بالحياة ، وطفق يقول في سنة وفاته: «اللهم كبرت سني وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني اليك غير مضيع ولا مفرط .. اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك . وأحس بها عثمان، فما فارق الدنيا حتى ترك الخلافة والملك عسكرين متناجزين ، لا يرجع أحدهما الا بالغلبة على نده وضده. وكتب لعلى بعد ذلك أن يتلقى الدولة الاسلامية بين هذين العسكرين ، فلا في مقدوره ره أن يجمعها الى عسكر واحد ، ولا في مقدوره أن يختار منهما عسكر الملك ، ولا أن يختار عسكر الخلافة -\{Yالدينية فتظل على يديه خلافة دينية بعد أوانها . وما لم يكن في مقدوره لم يكن في مقدور غيره ، وانه لإنصاف قليل أن نعرف له هذه المعاذير الصادقة ، وهو الذي باء وحده بتلك النقائض والأعباء . .. وقد نقدت سياسة علي لفوات الخلافة منه قبل البيعة . كما نقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة ، وأحصى عليه بعض المؤرخين انه تأخر نيفاً وعشرين سنة .. فلم يخلف النبي ، ولم يخلف أبا بكر ، ولم يخلف عمرو .. كأنه كان مستطيعاً أن يخلف أحداً منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره ، فأعياه السعي والتدبير ومقطع الفصل في هذا أن ترجع الى العوائق التي حالت بينه وبين الخلافة قبل وصولها اليه ، لنعلم منها العائق الذي كان في أيدي الحوادث والعائق الذي كان في يديه ، أو كانت له قدرة معقولة عليه

فمما لا شك فيه ان الامام أنكر اجحافاً أصابه في تخطيه بالبيعة الى غيره بعد وفاة ابن عمه صلوات الله عليه ، وانه كان يرى ان قرابته من النبي مزية ترشحه الخلافة بعده لأنها فرع من النبوة على اعتقاده ، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة ، كما قال ... ومما لا شك فيه ، ان شعوره هذا طبيعي في النفس الانسانية كيفما <-124كان حظها من الزهد والقناعة ، لأن تخطيه مع هذه المزية التي ترشحه للبيعة - يشبه أن يكون قدحاً في مزاياه الأخرى ، من علم وشجاعة وسابقة جهاد وعفة عن المطامع ، أو يشبه أن يكون كراهة له وممالأة على الغض من قدره ، ولم يزل من غرائز النفوس أن يسومها القدح فيها والحط من مزاياها ومواجهتها بالنفرة والكراهة ... إلا أن الخلافة الاسلامية ، مسألة عالمية لا توزن بميزان واحد ، ولا يؤتم فيها برأي واحد ولا يحق واحد . وقد يضحى في سبيلها بالعظيم والعظماء ، اذا تعارضت الحقوق وتشعبت الآراء .. ويشاء القدر أن تكون المزية الأولى في ميزان علي هي العائق الأول في سائز الموازين، ومنها ميزان النبي صلوات الله عليه فقد كان عليه السلام يأبى أن يثير العصبيات في قريش ، وفي القبائل العربية عامة ، لعلمه بخطر هذه العصبية على الدعوة الجديدة ، وكراهته أن يصور الاسلام للعرب كانه سيادة هاشمية تتوارثها عصبة هاشم دون العصب من سائر العرب والمسلمين. وقد رضي في سبيل هذا المقصد الحكيم ، أن يجعل بيت أبي سفيان صنواً للكعبة في أمان اللاجئين اليه ، وأصهر الى أبي سفيان وندب ابنه معاوية للكتابة له بين النخبة المختارة من كاتبيه ، وربما حسن لديه ان تئول الخلافة الى علي بعده اذا شاء المسلمون ذلك ، ولكن على أن تكون خلافته اختياراً مرضياً كاختيار غيره من أنصاره وأصحابه ، ويستوي منهم القريب والبعيد .

. ولم تكن الحكمة النبوية هي وحدها التي تأبى اثارة العصبيات وتصوير الاسلام للعرب وللناس عامة في صورة السيادة الهاشمية ، بل كانت الدعوة كلها في صميم أصولها تأبى هذا الذي أبته الحكمة النبوية وتجتنبه غاية ما في وسعها اجتنابه .. لأن الدعوة الاسلامية دعوة عالمية ، تشمل الأمم كافة من عرب الى عجم ومن مشرق الى مغرب ، وتقوم في أساسها على المساواة بين الناس وردّ المفاضلة بينهم إلى الأعمال والأخلاق دون الأحساب والأعراق. فليس من المعقول أن تسود العالم كله أسرة هاشمية ، ولا من المعقول أن يبنى الأساس على المساواة ، وأن يقام الحكم على هذا التفضيل ... وان أحق الناس أن يفطن الى هذه الحكمة لهم أولئك الغلاة الذين زعموا ان وراثة الخلافة في بني هاشم حكم من أحكام الله وضرورة من ضرورات الدين .. فلو أنها كانت حكما من أحكام الله ، لكان أعجب شيء أن يموت النبي عليه السلام وليس له عقب من الذكور ، وأن يختم القرآن وليس فيه نص صريح على خلافة أحد من آل البيت ... ولو انها كانت ضرورة من ضرورات الدين ، أو ضرورات القضاء ،

لنفذت في الدنيا كما ينفذ القضاء المبرم، و حبطت كل خلافة تنازعها كما تحبط كل بدعة تناقض السنن الكونية ... فلا النصوص الصريحة ، ولا دلالة الحوادث على الارادة الآلهية ، مما يؤيد أقوال الغلاة عن ترجيح الخلافة بالقرابة ، أو حصر الخلافة في الأسرة الهاشمية . وهذا هو العائق الأول الذي حال بين علي وبين الخلافة ولا قدرة له عليه ، وقد لحظه العرب ولحظته قريش خاصة ، وذكره الفاروق حين قال : ( ان قريشاً اختارت لنفسها فأبت أن تجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة ، . ويرى بعض المؤرخين ، ان قريشاً كانت تحقد على الامام وتنحيه عن الخلافة لعلة أخرى تقترن بهذه العصبية التي أوقعت التنافس بين بيوتها وبين بني هاشم ، فقد بطش الامام بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين ، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم عتبة بن ربيعة جد معاوية ، والوليد بن عتبة خاله وحنظلة أخاه ، وجميعهم من قتلاه في يوم بدر .. عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه التراث بعد دخولهم في الاسلام ، وزادهم حقداً أنهم لا يملكون الثار منه لقتلاهم من الكفار . وكانت حاله بعد تلك المدة كما ١٥١ قال ابن أبي الحديد : « ... كأنها حاله لو أفضت الخلافة اليه يوم وفاة ابن عمه ، من اظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب، حتى الأخلاف من قريش والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم ، فعلوا به مالو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله ، وقد علم الامام هذا من قريش ، عندما يئس من مودتها وابتلي بالصريح والدخيل من كيدها ، فقال : « .. ما لي ولقريش ؟.. أما والله لقد قتلتهم كافرين ولأقتلنهم مفتونين .. والله لا بقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته .. فقل لقريش ، فلتضج ضجيجها » . ولو أن قريشاً وادعته في سرها وجهرها ، ووقفت بينه وبين منافسيه على الخلافة لا تصده عنها ولا تدفعهم اليها ، لقد كانت تلك عقبة أي عقبة . فأما وهي تحاربه بعصبيتها وتحاربه بذحولها ، فتلك هي العقبة التي لا يذللها الا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي صلوات الله عليه ، ولم يكن حزب قط أقوى يومئذ من قريش في أرجاء الدولة الاسلامية بأسرها .. ولقد سبق الامام الى الخلافة ثلاثة من شيوخ الصحابة هم : أبو بكر وعمر وعثمان .. - ١٥٢ - لا - ! I فاذا نظرنا الى عائق العصبية الذي قدمناه ، فلا نرى شيئاً أقرب الى طبائع الأمور من سبق هؤلاء الثلاثة بأعيانهم الى ولاية الخلافة بعد النبي عليه السلام ، لأنهم أقرب الناس أن يختارهم المسلمون بعد خروج العصبية الهاشمية من مجال الترجيح والترشيح . فليس أقرب الى طبائع إلى الأمور في بلاد عربية اسلامية من اتجاه الأنظار إلى مشيخة الاسلام في السن والوجاهة والسابقة الدينية، لاختيار الخليفة من بينها على السنة التي لم تتغير قط في تواريخ العرب الأقدمين ، ولم يغيرها الاسلام بحكم العادة ولا يحكم الدين .

ولم يكن الامام عند وفاة النبي من مشيخة الصحابة التي تثول اليها الرئاسة بداهة بين ذوي الأسنان ، ممن مارسوا الشورى والزعامة في حياته عليه السلام .. لأنه كان يومئذ فتى يجاوز الثلاثين بقليل. وكان أبو بكر وعمر وعثمان قد لبثوا في جوار النبي بضع عشرة سنة قبل ظهور علي في الحياة العامة ، وهم يشيرون على النبي ويخدمون الدين ويجمعون الأنصار ويُدان لهم بالتوقير والولاء . والعائق الذي قام بين علي وبين الخلافة هو في طريق هؤلاء الثلاثة السابقين تمهيد وتقريب .. ونعني به عائق العصبية الهاشمية .. - ١٥٣ لأن قريشاً لا تنفس على بني تيم ، ولا بني عدي ، ولا بني أمية ، في رئاسة عثمان خاصة .. كما تنفس على بني هاشم ، اذ تجتمع لهم النبوة والخلافة والامام نفسه لم يفته أن يدرك هذا بثاقب نظره ، حين قال وقد تجاوزته الخلافة للمرة الثالثة بعد موت الفاروق : « ان الناس ينظرون الى قريش ، وقريش تنظر الى بيتها فتقول : ( ان ولي عليكم بنو هاشم . وما كانت في غيرها من قريش تداولتموها لم تخرج منهم أبداً بينكم " .

واذا اجتمع هذا العائق الى عائق السن والتوقير للمشيخة المقدمة ، فهما مبعدان للامام عن الخلافة بمقدار ما يقربان سواه ... نعم ان فارق السن قد تقارب بعد موت الفاروق ، وبلغ الامام الخامسة والأربعين ، وسبقت له في المشورة سوابق مأثورات .. فأصبح الفارق بينه وبين من يكبرونه مزية تعين على العمل والجهد وتنفي مظنة الضعف والتواكل . ولكن الذي كسبه بهذه المزية خسره بازدياد المطامع الدنيوية ويأس الرؤساء من الوفر والنعمة على يديه ، واعتقاد الطامعين أنهم أقرب الى بعض الأمل في لين عثمان وتقدم سنه منهم الى أمل من الآمال في شدة الامام وعسر حسابه .. -101 - i i

وبقيت الجفوة بينه وبين قريش على حالها ، لم يكفكف منها تقادم . العهد كما قال ابن أبي الحديد .. وعلى هذه الجفوة في القبيلة كلها ، دخلت في الأمر دخلة البواعث الشخصية التي لا يسلم منها عمل من أعمال بني الانسان في زمن من الأزمان . .. فقد اجتمع رهط الشورى الذين ندبهم الفاروق لاختيار الخليفة من بعده ، فتقدم بينهم عبد الرحمن بن عوف فخلع نفسه من الأمر كله ليتاح له أن يستشير الناس باسمهم ويعلن البيعة على عهدتهم . وقيل انه أنس من الزبير وسعد بن ابي وقاص ميلا موقوتاً إلى على وانحرافاً موقوتاً عن عثمان ، فسارع الى المنبر وبايع عثمان وجاراه الحاضرون مخافة الفتنة والشقاق .. وكان عبد الرحمن بن عوف صهراً لعثمان ، لأنه زوج أخته لأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط

ويقضي الحق أن يقال في هذا المقام ان بيعة عثمان قد تمت باتفاق بين المسلمين لم ينقضه خلاف معدود ، فليست كلمة عبد الرحمن بن عوف هي التي خذلت عليا وقدمت عثمان عليه ، اذ لو كانت هناك مغالية شديدة بين حزبين متكافئين لما استقامت البيعة لعثمان بكلمة من عبد الرحمن ابن عوف .. وهو واحد من خمسة أو ستة اذا أشركنا معهم عبد الله . -100عمر بن الخطاب .. ثم بويع الامام بعد مقتل عثمان ، فهل تحولت قريش عن جفوتها ، أو . نظرت الى السياسة الهاشمية نظرة غير نظرتها ؟ کلا بل جاءت البيعة في المدينة ، يوم خفت فيها صوت قريش ، وهبطت سمعة حكامها .. يوم أصبحت البيعة ثورة على قريش ، تنكر عليها الأثرة بالملك والاثرة بالغنائم والأمصار ... ويوم انقسم المجتمع الاسلامي قسميه اللذين التبسا وتداخلا حيناً حتى فصلتها الحوادث فصلها الحاسم في خلافة عثمان : قسم يريد الرجعة الى الخلافة والآداب النبوية ، وقسم يريد المضي في الملك والدولة الدنيوية .. فأي القسمين، كان قسم على كائناً ما كان سعيه واجتهاده ؟ وأية سياسة كانت تعينه على مشكلة الخلافة منذ بدايتها بعد وفاة النبي الى ختامها الفاجع بعد مقتل عثمان ؟ وكل سياسة له لم تكن لتحيد به عن الخاتمة المحتومة أقل محيد . وكل ما كان من تدبير الحوادث أو من تدبيره ، فهو على هذا الملتقى الذي يتلاحق عنده الاسراع والابطاء وعلى هذا ينبغي أن ترجع الى علة غير سياسة علي لتعليل -107- 1 1 العوائق التي قامت دون مبايعته بالخلافة قبل الصديق والفاروق وعثمان فهو غير مسئول عن نظرة العصبية التي نظرت بها قريش الى السيادة الهاشمية وهو غير مسئول عن سنه التي تأخرت به عن مشيخة الصحابة من ذوي السابقة في الجهاد والزعامة والأصالة بين ذوي الأسنان والأخطار .. وهو غير مسئول عن الصفة العالمية التي جعلت تأسيس الاسلام على أسرة واحدة في العالم كله أمراً ملحوظاً بالتوجس والاحجام منذ اللحظة الأولى .. نعم قد يسأل الامام عن علاقته بالناس وقدرته على تألفهم بالأمال والمجاملات ، ليأنسوا اليه ويرفعوا حجاب الجفوة بينهم وبينه ، ويؤثروه على غيره بالخلافة ، أملا في بره واطمئناناً إلى حفاوته ووده. وقد يرد على بعض الخواطر ، ان سياسة الدولة الدنيوية أو سياسة الارضاء بالمنافع والوعود ، كانت أجدى عليه من آداب الخلافة الدينية وأخلق بتمكينه أولا وآخرا بين قريش وقبائل العرب عامة ... فهذا في رأيهم ماخذ يرجع الى شخصه وأعماله، ويُسأل عنه كما يسأل - 10xالانسان عن عمله وتصريف إرادته وفكره . ولا يجوز أن نرجع به إلى حكم الحوادث القاهرة ، وسلطان المصادفـــات التي لا قبل له بتبديلها . ولكن الواقع أن هذه السياسة - سياسة المنافع الدنيوية - لم تكن لتجديه شيئاً بعد وفاة النبي ، ولا بعد مقتل عثمان .. فبعد النبي عليه السلام ، لم تكن ذخائر الفتوح قد استفاضت في الأيدي وأنشأت في المجتمع الاسلامي طبقة مسموعة الصوت تحرص عليها وتستزيدها . فالذي يناضل في سبيل الحكم بسلاح هذه المنافع ، انما كان يناضل بسلاح غير موجود .. بل كان يناضل سلاحاً ماضياً ينهزم أمامه لا محالة وهو سلاح الحماسة الدينية التي غَلَبَتْ في ضرباتها الأولى كل سلاح. أما بعد مقتل عثمان ، فابعد الأمور عن التخيل أن يغلب علي معاوية في سوق المنافع الدنيوية ، لأن معاوية قد أهب لها أهبته قبل وجمع . ـع لها أنصاره وكنز لها كنوزه في بلاد وادعة بين عشرين سنة جند مطيع . ، ولو توافرت لعلي مادة هذه السياسة، لما توافر له أعوانها والمساعدون عليها .. فليس أقل نفعاً في هذا المضمار من اعوانه الذين ثاروا على سياسة -101- 1

! i I 1 -- S المنافع وباءوا من أجلها بدم خليفة ، واجتمعوا على التمرد قاصدين أو غير قاصدين .. فلا يديرون أنفسهم الى نهج كنهج معاوية ولو أرادوه. وأغلب الظن أن علياً كان يخسر بهذه السياسة أولئك الذين أحبوه ، ولا يربح بها أولئك الذين أبغضوه . فقد حببته آداب الخلافة إلى كل طبقة تكره استغلال الحكم ، ولا مطمع لها فيه .. فكل بلاد خلت من عصبة المرشحين للحكم ، فقد كانت من حزبه وشيعته بغير استثناء ، فكان من حزبه شعب اليمن ومصر وفارس والعراق ، ونشأت في اليمن - وقد عهدت حكمه قديماً ـ تلك الطائفة السبئية التي غلت في حبه حتى ارتفعت به الى مرتبة التقديس ، وانتشرت في مصر وفارس بذور تلك الشيعة الفاطمية والامامية التي ظلت كامنة في تربتها حتى أخرجت شطأها بعد أجيال، وشدت الشام لأنها كانت في يد معاوية ، وشدت أطراف من العراق أول الأمر لأنها كانت في طلحة والزبير ، ولم يشذ عن هذه القاعدة بلد من البلدان الاسلامية أقصاها إلى أقصاها .. فلولا ان سواد الناس لا يعملون بغير عصبة من القادة ، وان العصب من القادة كانوا كلما وجدوا في بقعة من البقاع وجد معهم النفع والاستغلال.. لقد كانت محبة أولئك السواد أنفع من عصب معاوية أجمعين من .. فأغلب الظن - كما أسلفنا - ان عليا كان يخسر هؤلاء باتباعه سياسة الدولة الدنيوية ، ولا يكسب العصب التي ناصبته العداء ، وأيقنت انه - ١٥٩ حائل بينها وبين ما طمحت اليه من الصولة والثراء ... وهذا على تقدير المقدرين ان عليا يؤاخذ لاجتنابه هذه السياسة ، وانه لو اتبعها لكانت أجدى عليه وليست هي أجدى عليه لو اتبعها ، ولا هو على اجتنابها بملوم .. وتفضي بنا هذه التقديرات جميعاً الى نتيجة واضحة نلخصها في كلمات وجيزة ، ونعتقد انها أعدل الأقوال في وصف تلك السياسة التي كثرت فيها مطارح النقد والدفاع ... فسياسة علي لم تورطه في غلطات كان يسهل عليه اجتنابها باتباع سياسة أخرى .. وهي كذلك لم تبلغه مارب مستعصية، كان يعز عليه بلوغها في موضعه. الذي وضع فيه وعلى مجراه الذي جرى عليه ... فليست هي علة فشل منتزع ، ولا علة نجاح منتزع ، أو هي لا تستدعي الفشل من حيث لم يخلق ، ولا تستدعي النجاح من حيث لم يسلس له قياد ... ورأينا في سياسته فهماً وعلماً ، ولكننا لم نر فيها الحيلة العملية التي هي الى الغريزة أقرب منها الى الذكاء .. فكان نعم الخليفة ، لو صادف أوان الخلافة .. -17.وكان نعم المَلِك لو جاء بعد توطيد الملك واستغنائه عن المساومة والاسفاف . ولكنه لم يأت في أوان خلافة ولا في أوان ملك موطد ، فحمل أعباء النقيضين ، واخفق حيث ينبغي أن يخفق أو حيث يعييه أن ينجح .. وتلك آية الشهيد..