انتقل إلى المحتوى

عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/حكومته

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

٧

حكومته

كانت الدولة الاسلامية الناشئة على شفا الخطر في إبان الفتنة الداخلية بين علي ومعاوية .. ولكنها وقيت منه لأن عوامل الأمان الذي يحيط بها كانت أقوى من عوامل الخطر الذي يهددها .. وتتلخص عوامل الأمان في وقاءين اثنين : أحدهما ، ان الاسلام كان دعوة طبيعية تلقاها العالم وهو مستعد لها مستريح اليها ، فرسخت دعائمه وامتنعت حدوده بعـد أعوام قليلة من ظهوره ، وسكن اليه الناس مؤمنين بدوام ظله وشمول عدله ، سواء منهم من دخل فيه ومن أوى إلى حكمه وهو باق على اعتقاده .. وثانيها ، ان أعداء الاسلام كانوا في شاغل عنه بما أصابهم من الوهن وأحدق بهم من المخاوف ، وربما صح في الفتنة الاسلامية يومئذ ما يصح في كثير من الطوارق التاريخية الكبرى ، وهي أنها لن تكون شرا محضاً - ١٩٣ - } ! 1 في جميع عواقبها ، ولا تخلو من الخير على غير قصد من ذويها .. فإن هذه الفتنة قد أغرب أعداء الاسلام بالانتظار ، وأوقعت في روعهم أنهم غنيون عن التحفز والوثوب الذي يشق عليهم جهده ، وهم في تلك الحالة من الجهد والإعياء .. فقنعت دولة الروم بهجمات ضعيفة تلقاها معاوية بالجلد والأناة ، وألهى القوم عنه ببعض الأتاوات والنوافل .. فتراجعوا متربصين الى أن يقضي الخلاف بين المسلمين قضاءه ، وهم وادعون مكفيون شر القتال .. فكان هذا الانتظار الخادع جانباً من جوانب الخير في الفتنة الاسلامية التي فاضت يومئذ بالشرور . وعلى هذا انقضت أيام علي وليس للحكومة الاسلامية سياسة خارجية تحسب من سياسة الفتوح، أو سياسة الدفاع ، أو سياسة المفاوضة والاستطلاع وكل ما يدور الكلام عليه عن حكومة علي ، فهو من قبيل سياسة الحكم بينه وبين رعاياه ، أو هو السياسة الداخلية كما نسميها في العصر الحديث ..

ومن اليسير أن نعرف سياسة الامام بينه وبين رعاياه ، بغير حاجة الى الاطالة في التعريف وسرد الأمثال .. لأنها سياسة الرجل الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية . -171! فنحن نتخذ ما شئنا من طريقين متقابلين ، فاذا طريق علي هي طريق الخلافة المنزهة ، حين تقابل الدولة الدنيوية مقابلة الخصم للخصم أو النقيض للنقيض، أو هي أقرب الطريقين الى المساواة وأدناها إلى رعاية الضعفاء . فالناس في الحقوق سواء .. . لا محاباة لقوي ولا اجحاف بضعيف ، وقد عمد الى القطائع التي وزعت قبله على المقربين والرؤساء ، فانتزعها من القابضين عليها وردها إلى مال المسلمين لتوزيعها بين من يستحقونها على سنة المساواة ، وقال : ه والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته ، فان في العدل سعة .. ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » وفرض الرفق بالرعية على كل وال ، فلا ارهاق ولا استغلال ولو كانت الحكومة هي صاحبة الحق في المال . فمن وصاياه المكررة لولاته : ( انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فانهم خزان الرعية .. ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ، ولا عبداً ، ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان در هم .... و من وصاياه في تحصيل الخراج والصدقات : ... امض اليهم -170بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليم ، ولا تخدج بالتحية لهم ، ثم تقول : عباد الله . أرسلني اليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم ، فهل الله في أموالكم حق فتؤدوه الى وليه ؟ .. فان قال قائل: لا ، فلا تراجعه .. وان أنعم لك منعم ، فانطلق معه من غير أن تخيفه وتتوعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة ، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها الا بإذنه ، فان أكثرها له .. فاذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به .. ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها ، ولا تسوءن صاحبها فيها ، وأصدع المال صدعين ، ثم خيره ، فاذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء حق الله في ماله فاقبض حق الله منه ، فان استقالك فاقله .. » .. . وكان دستوره في تحصيل الضرائب المفروضة على الناس ، ان النظر في عمارة الأرض أبلغ من النظر في استجلاب الضريبة ، فكان يكتب الى واليه : « تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله .. فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم الا يهم .. لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة ، ومن جلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره الا قليلا ، وانما يؤتى خراب الأرض من اعواز أهلها ، وانما يعوز أهلها -171- 1 i } ! } إسراف الولاة الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر به إلى الأشتر أما دستوره في الولاة والعمال ، فخلاصته ما كتب: النخعي يقول له : ( انظر في أمور عمالك ، فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة .. فانهم جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام ، فانهم أكثر أخلاقاً وأصح اعراضاً وأقل في المطامع اسرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .. ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم ان خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والعيون عليهم .. فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية ) وعلى هذه العناية باستطلاع أحوال الولاة والعمال، كان ينهى أشد النهي عن كشف معائب الناس ، أو كما كان يقول في وصية ولاته : وليكن أبعد رعيتك منك وأشناهم عندك أطلبهم المعائب الناس .. فان في الناس عيوباً ، الوالي أحق من سترها .. فلا تكشفن عما غاب عنك منها ، فانما عليك تطهير ما ظهر لك . وكان ينهى عن بطانة السوء مع حثه على اتخاذ العيون والجواسيس، فقال في وصيته لمحمد بن أبي بكر : لا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً - ١٦٧ يزين لك الشره بالجور .. فان البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .. ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة ، فانهم أعوان الأئمة واخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم .. وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم . . . ولم ينكر قط شيئاً من سياسة التولية ، ثم صنع مثله في عهده ، على كثرة الاغراء حوله باصطناع التقية والمداراة والهوادة قليلا مع الأقرباء وذوي الأخطار . ومن زعم غير ذلك ، من ناقديه في عصره أو بعد عصره ، فانما هو آخذ في المقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات . . إذ كان مما قيل مثلا ان عليا أقام عبد الله بن عباس على البصرة ، وعبيد الله بن العباس على اليمن، ومحمداً بن أبي بكر ابن زوجته على مصر .. وهم أقرباؤه وخاصة أهله ، فهو اذن يصنع ما أنكره على حكومة عثمان من إيثار الأقرباء بالولايات واقصاء الآخرين عنها ... ولكنها كما قلنا مقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات لأن المقارنة الصحيحة بين العملين تسفر عن فارق بعيد كالفارق بين النقيض والنقيض .. فبنو هاشم لم يكن لهم متسع لعمل أو ولاية في غير حكومة الامام ، ، 1 ولم يكن للامام معتمد على غيرهم بعد أن حاربته قريش ، وشاعت الفرقة والشغب بين أعوانه من أبناء الأمصار ... و هم مع هذا لم يؤثروا بالولايات كلها ، ولم يؤثروا بالذي خصهم منها ليستغلوه ويجمعوا الثراء من غنائمه وارزاقه .. بل كانوا يحاسبون على ما في أيديهم أعسر حساب ، وكانوا لتضييقه عليهم في المراقبة يتركون ولاياتهم ويستقيلون منها ، كما فعل ابن عباس حين هجر البصرة إلى مكة. وقد بلغ من حسابه للولاة انه كان يحاسبهم على حضور الولائم التي لا يجمل بهم حضورها .. فكتب الى عثمان بن حنيف الانصاري عامله على البصرة : ( أما بعد يا ابن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة .. فأسرعت اليها تستطاب لك الألوان وتنقل اليك الجفان. وما ظننت انك تجيب الى طعام قوم عائلهم محفو وغنيهم مدعو، فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم .. فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ) . واستكثر على شريح قاضيه أن يبني داراً بثمانين ديناراً ، وهو يرزق خمسمائة درهم.. وحاسب على أقل من هذا من هو أقل من شريح أمانة في القضاء وحرجاً في الدين .. فلو أن الامام اختص أقرباءه بالولايات التي يحاسبون عليها هذا - ١٦٩ الحساب، لما كان في اختصاصه اياهم مستبيح حق ولا مستبيح مال . فكيف وهو لا يختصهم الا بالقليل منها ، ولا يختصهم وله مندوحة عنهم ، أو يختصهم وهم دون غيرهم في القدرة والأمانة ؟ فالمقارنة هنا مقارنة أشكال وحروف ، وكل ما توحي الى الناقد بها أنه يذكر الأقرباء هنا والأقرباء هناك وقد انقسمت طريق الخلافة ، وطريق الدولة الدنيوية في كل أمر من الأمور على عهد الامام ، ولم تنقسم في مسألة الولاة أو مسألة الاستغلال . وأكبر ما يذكر من انقسام الطريقين في عهده قيام الفكرة العالمية الى جانب العصبية بالقبيلة أو بالوحدة الوطنية. فالدولة الدنيوية تشد أزرها بالعصبية الجنسية، والخلافة الدينية تشد ازرها بالأخاء بين الشعوب وبطلان الفوارق بين الأجناس ... وقد كانت القبيلة من انصار الامام ، تقاتل القبيلة من أنصار معاوية في سبيل الرأي والعقيدة وكان أنصار الامام أبداً من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة ، وبين بني هاشم على الأخص ، وبين قبائل العرب على التعميم . وهذا الامتزاج بين الفكرة العالمية وبين امامة علي أو خلافته ، هو - ١٧٠ - 1 i i TOW $ أقطع الأدلة على الوحدة بين أوانه وأوان الخلافة .. فاذا ذهب هذا وجب إن يذهب ذاك ، أيا كانت السياسة المتوخاة ، وبالغاً ما بلغ نصيبها من السواد والصواب ... ولنا أن نعمم هذا الحكم الانساني في كل شأن من شئون الحكومة ، قضى به علي في عهده أو عهود الخلفاء من قبله .. فالروح الانساني هو قوام الحكومة الإمامية ، كما ينبغي أن يكون ، وهو قوامها كما كانت على يديه جهد الطاقة الآدمية ما لها من حدود .. طاقة لها وهي . جيء الى عمر بن الخطاب بامرأة زانية يشتبه في حملها ، فاستفتى الأمام .. فأفتى بوجوب الابقاء عليها حتى تضع جنينها ، وقال له : « ان كان لك سلطان عليها فلا سلطان لك على ما في بطنها » . وانتزع امرأة من أيدي الموكلين باقامة الحد عليها .. وسأله عمر فقال : ( أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر ، وعن المبتلى حتى يعقل ؟ ) ؟ ، قال : ( بلي ) قال : ( فهذه مبتلاة بني فلان .. فلعله أتاها وهو بها ، قال عمر : ( لا أدري ، قال : ( وأنا لا أدري، فترك رجمها للشك

في عقلها .. وأتى عمر بامرأة أجهدها العطش ، فمرت على راع فاستسقته .. فأبى أن يسقيها الا أن تمكنه من نفسها .. ففعلت ، فشاور الناس في 3 ١٧١رجمها ، فقال علي : ( هذه مضطرة الى ذلك .. فخل سبيلها . وهذه أمثلة قليلة من أمثلة كثيرة في القصاص وتفسير الشريعة .. F إلا انه قد حاد عن هذه السنة في أمر واحد خالفه فيه بعض فقهاء عصره ، ومنهم ابن عمه عبدالله بن عباس . وذلك هو احراقه الروافض الذين عبدوه ووصفوه بصفات الآلهة ، وأبوا أن يتوبوا عن ضلالتهم مرة بعد مرة ، وقيل انهم أصروا على عنادهم وهم يحرقون .. فاتخذوا من تعذيبه لهم بالنار دليلاً على انه هو الإله المعبود.. اذ لا يعذب بالنار الا الله فهؤلاء المفسدون والمفتونون قد استحقوا عقوبة الموت بقضاء الشريعة وقضاء الدولة التي لا يقوم لها نظام على هذه الضلالة .. ولكن الاحراق بالنار صرامة لا توجبها ضرورة العقاب ، وليس في اجتنابها خطر على الشريعة ، ولا على النظام ... انما شفيع الامام في هذه الصرامة انه كان هو المستهدف لتلك الضلالة ، وهو مظنة الريبة في الهوادة فيها .. فهو ينزه عدله عن كل ظن حيث تظن بالهوادة جميع الظنون ، وقد أحرق الذين ألهوه.. ونهى عن قتال الخوارج الذين حكموا بكفره ، الا أن يفسدوا في الأرض أو يبدءوا بالعدوان على بريء . وفي هذا الانصاف بين مؤلهيه ومكفريه شفاعة من تلك الصرامة في العقاب . - ١٧٢ - نه

4 1

وكان الامام يذكر أبداً في حكومته ان الحقوق العامة لها شأن لا

يُنسى مع حقوق الأفراد ... ومن ذلك ما نقله الطبري عن بعض الأسانيد ، حيث قال : ( رأيت عليا عليه السلام خارجاً من همدان ، فرأي فتيين يقتتلان ففرق بينهما ... ثم مضى فسمع صوتاً : يا غوثا بالله . فخرج يحضر نحوه حتى سمعت خفق نعله، وهو يقول : ( أتاك الغوث .. » فاذا رجل يلازم رجلاً ، فقال : يا أمير المؤمنين .. بعت هذا ثوباً بتسعة دراهم وشرطت عليه ألا يعطيني مغموزاً ولا مقطوعاً ، فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها لي فابي فلزمته فلطمني ، فقال : ( ابدله ، ثم قال : ( بينتك على اللطمة ، فأتاه بالبينة ... قال : ( دونك فاقتص ، قال : ( اني قد عفوت يا أمير المؤمنين ) قال : ( انما أردت أن أحتاط في حقك .. ثم ضرب الرجل تسع درات ، وقال : ( هذا حق السلطان ) وكان يكرر هذا الحكم في كل ما شابهه من أمثال هذا العدوان ، وهو اشبه المذاهب بمذهب الحكومات العصرية في القصاص. ويقال الكثير عن مناهج الامام في الحكومة وسياسة الرعية مما يغني فيه هذا الاجمال عن التوسع في التفصيل ولكن الذي لا ينسى في سياق الكلام عن الامامة والدعوة العالمية ، انه رضي الله عنه كان أول من خرج بالعاصمة من المدينة الى أرض غير أرض الحجاز ، وهو الحجازي سليل الحجازيين ... - ١٧٣ وقد اختار الكوفة، فكانت أو فق عاصمة للإمامة العالمية في تلك المرحلة من مراحل الدولة الاسلامية .. لأنها كانت ملتقى الشعوب من جميع الأجناس ، وكانت مثابة التجارة بين الهند وفارس واليمن والعراق والشام، وكانت العاصمة الثقافية التي ترعرعت فيها مدارس الكتابة واللغة والقراءات والأنساب والأفانين الشعرية والروايات .. فهي أليق العواصم في ذلك العصر بحكومة إمام ، وما زالت الامامة لاحقة بعلي ومحيطة به حيث تحول وحيث أقام ...