عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/النبي والإمام والصحابة
٨
النبي والإمام والصحابة
أحاديث النبي عليه السلام في فضل علي ومحبته متواترة في كتب الحديث المشهورة .. منها ما انفرد به ، وهو حديث الخيمة الذي رواه الصديق رضي الله عنه حيث قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خيم خيمة ، وهو متكىء على قوس عربية، وفي الخيمة على وفاطمـة والحسن والحسين ، فقال : معشر المسلمين .. أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، ولي لمن والاهم ، لايحبهم الا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم الاشقي الجد ردىء الولادة ) .
ومنها ما اشترك فيه وغيره ، وهو الذي روته السيدة عائشة حيث سئلت : « أي الناس أحب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.. قالت: فاطمة !.. فقيل : من زوجها !.. قالت : زوجها .. ان كان ما علمت صواما قواما ، وقد روي حديث في هذا المعنى ، حيث سئل رسول الله عن أحب الناس اليه ، فقال : ( من النساء عائشة ، ومن الرجال أبوها » . ولا تناقض بين الحديثين ، إذ كانت السيدة عائشة هي التي تروي الحديث الأول ، وتخرج من كلامها كما يخرج المتكلم من عموم كلامه ، أو كانت تروي عن أقرباء النبي من لحمه ودمه ، فتقول ما تعلم عن غيرها وهذان نموذجان من الأحاديث النبوية في فضل علي ومحبته ومنزلته عند الله ونبيه ، وهي تعد بالعشرات . وأصحاب المذاهب يختلفون في تأويل هذه الأحاديث ، وفي أسانيدها، ويوجهونها حيث اتجهوا من التشيع للامام أو التشيع عليه .. وهو شرح طويل لا يهمنا منه هنا أن ننصر فيه فريقاً على فريق ، أو ترجح مذهباً على مذهب .. اذ ليس فهم الامام موقوفاً على تغليب أي الفريقين وتعزيز أي المذهبين ، و فهم الامام على حقيقته النفسية والتاريخية هو كل ما نعنيه فمهما يختلف الرواة في تأويل الأحاديث ، فالذي يسعك أن تجزم به من وراء اختلافهم ، ان عليا كان من أحب الناس الى النبي ، ان لم يكن أحبهم اليه على الاطلاق لقد كان النبي عليه السلام يغمر بالحب كل من أحاط به من الغرباء والأقربين .. فأي عجب أن يخص بالحب من بينهم انساناً ، كان ابن عمه ١٧٦ i الذي كفله وحماه ، وكان ربيبه الذي أوشك أن يتبناه، وكان زوج ابنته العزيزة عنده ، وكان بديله في الفراش ليلة الهجرة التي هم المشركون فيها بقتل من يبيت في فراشه . وكان نصيره الذي أبلى أحسن البلاء في جميع غزواته ، وتلميذه الذي علم من فقه الدين ما لم يعلمه ناشىء في سنه ؟ ... حب النبي لهذا الانسان حقيقة لا حاجة بها الى تأويل الرواة ولا الى تفسير النصوص ، لأنها حقيقة طبيعية ، أو حقيقة بديهية قائمة من وراء كل خلاف . .. ومما لا خلاف فيه كذلك، انه عليه السلام كان لا يكتفي بحبه اياه ... بل كان يسره ويرضيه أن يحببه إلى الناس ، وكان يسوؤه ويغضبه أن يسمع من يكرهه ويجفوه ... بعث رسول الله عليا في سرية ليقبض الخمس ، فاصطفى منه سبية، وأتفق أربعة من شهود السرية أن يبلغوا ذلك الى رسول الله . وكان المسلمون اذا قدموا من سفر بدءوا بالرسول ، فسلموا عليه وأبلغوه ما عندهم ، ثم انصرفوا إلى رحالهم ... فقام أحد الأربعة وحدث الرسول بما رأى فأعرض عنه ، وظن الصحابة أنه لم يسمعه .. فتناوبوا الحديث واحداً بعد وأحد في معنى كلامه . فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول الله وقد تغير وجهه فقال : ( ما تريدون من على ؟.. ما تريدون من . علي ؟ .. ما تريدون من علي ؟ .. علي مني وأنا منه وهو ولي كل عبقرية الامام علي (١٢) مؤمن بعدي ، وقال لأحدهم في روايات أخرى : ( أتبغض عليا ؟ ، قال : ( نعم ! ) قال : ( لا تبغضه ، فان له في الخمس أكثر ذلك ، من أي أكثر من السبية التي اصطفاها .. لا تبغضه ، وان كنت تحبه فازدد له حباً
وبعث رسول الله عليا إلى اليمن ، فسأله جماعة من أتباعه أن يركبهم إبل الصدقة ليريحوا إبلهم ، فأبى .. فشكوه إلى رسول الله بعد رجعتهم. وتولى شكايته سعد بن مالك بن الشهيد ، فقال : يا رسول الله لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق . . ، ومضى يعدد ما اذا كان في وسط كلامه ضرب رسول الله على فخذه ، وهتف به : « يا سعد مالك بن الشهيد ، بعض قولك لأخيك علي ؟ فوالله لقد لقيه ، حتى بن علمت انه جيش في سبيل الله » وشكا بعض الناس مثل هذه الشكوى ، فقام رسول الله فيهم خطيباً يقول لهم : ( أيها الناس .. لا تشكوا عليا ، فوالله انه لجيش في ذات الله » . ويلوح لنا ان النبي عليه السلام كان يجب علياً ويحببه إلى الناس ليمهد له سبيل الخلافة في وقت من الأوقات ، ولكن على أن يختاره الناس طواعية وحباً .. لا أن يكون اختياره من حقوق العصبية الهاشمية ، فإنه عليه السلام قد انقى هذه العصبية جهد اتقائه ، ولم يحذر خطراً على - ١٧٨ i I الدين أشد من حذره أن يحسبها الناس سبيلا إلى الملك والدولة في بني هاشم ، وقد حرم نفسه الشريفة حظوظ الدنيا وأقصى معظم بني هاشم عن الولاية والعمالة لينفي هذه الظنة .. ويدع الحكم للناس يختارون من يرضونه له بالرأي والمشيئة ... فالتزم في التمهيد لعلى وسائل ملموحة لا تتعدى التدريب والكفالة الي التقديم والوكالة ، أرسله في سرية الى فدك لغزو قبيلة بني سعد اليهودية ، وأرسله الى اليمن للدعوة الى الاسلام ، وأرسله الى منى ليقرأ على الناس سورة براءة ، ويبين لهم حكم الدين في حج المشركين وزيارة بيت الله ، وأقامه على المدينة حين خرج المسلمون الى غزوة تبوك ... ولم يفته مع هذا كله أن يلمح الجفوة بينه وبين الناس ، وأن يكله الى السن تعمل عملها مع الأيام ، ويكلهم في شأنه الى ما ارتضوه ، عسى أن تسنح الفرصة لمزيد من الألفة بينهم وبينه ... هذه فيما نعتقد أصح علاقة يتخيلها العقل، وتنبىء عنها الحوادث بين النبي وابن عمه العظيم ..
وربما كانت أصح العلاقات المعقولة لأنها هي وحدها العلاقة الممكنة المأمونة ، وكل ما عداها فهو بعيد من الامكان بعده من الأمان . فهو يحبه ويمهد له وينظر الى غده ، ويسره أن يحبه الناس كما أحبه ، و أن يحين الحين الذي يكلون فيه أمورهم إليه وكل ما عدا ذلك ، فليس بالممكن وليس بالمعقول ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة .. وليس بالممكن أن يحبها له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة .. واذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه ، فليس بالممكن أن يرى ذلك ثم لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع .. واذا كان قد جهر به ، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره . انهم لا يريدون ذلك مخلصين ، وانهم إن أرادوه لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين، وأنهم ان استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين ، ولو بعد حين فكل أولئك ليس بالممكن ، وليس بالمعقول ... وانما الممكن والمعقول هو الذي كان ، وهو الحب والايثار ، والتمهيد لأوانه ، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان . أما العلاقة بين علي وسائر الصحابة من الخلفاء وغير الخلفاء ، فهي علاقة الزمالة المرعية والتنافس الذي يثوب الى الصبر والتجمل والتقية فليس فيا لدينا من الأخبار والملامح ما يدل على ألفة حميمة بينه وبين أحد من الصحابة المشهورين ، وليس فيها كذلك ما يدل على عداوة وبغضاء .. بل ليس في أخباره جميعاً ما يدل على طبيعة تحقد على الناس ، -11.- 1 وان دلت أحياناً على طبيعة يحقد الناس عليها ويفرطون . فمن المعلوم أن علياً كان يرى أنه أحق بالخلافة من سابقيه ، وأنه لم يزل مدفوعاً عن حقه هذا منذ انتقل النبي عليه السلام الى الرفيق الأعلى . واحتج المهاجرون على الأنصار في أمر الخلافة بالقرابة منه صلوات الله عليه . قال : ( ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وسلم فلجوا عليهم .. فان يكن الفلج به فالحق لنا دونكم ، وأن بغيره فالأنصار على دعواهم ) كذلك كان رأيه في الخلافة يوم بويع بها الصديق ، ثم بويع بها الفاروق ، ثم بويع بها عثمان ... ، وجاءت قضية الارث بعد قضية الخلافة في أوائل عهد الصديق فباعدت الفرجة بين القلوب، وأطالت العزلة بين الأصحاب . . وخلاصة هذه القضية ، أن فاطمة والعباس رضي الله عنهما طلبا ميراثهما في أرض فدك وسهم خيبر ، فذكر لها الصديق حديث النبي عن أرث الأنبياء ، ونصه في روايته : ( نحن معاشر الأنبياء ، لا نورث .. ما تركناه فهو صدقة .. انما يأكل آل محمد من هذا المال . فغضبت فاطمة ، ولم تكلمه حتى ماتت .. ودفنها علي ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر .. وقيل ان علياً تخلف عن البيعة ستة أشهر إلى ما بعد وفاتها. ثم أرسل الى أبي بكر أن انتنا ولا يأتنا معك أحد . . وتلقاه وعنده (١) فلجوا : أي انتصروا عليهم . -141بنو هاشم ، فقال : ( انه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا » ومع هذا اليقين الراسخ عنده في حقه وحق غيره ، نرجع الى سيرته وأحاديثه .. فنرى ولا ريب أنها أقل ما تشعر به النفس الانسانية في هذه الحالة من النفرة والنقمة ، ولا نجد في خطبه ومساجلاته التي ذكر فيها الخلفاء السابقين كلمة تستغرب من مثله ، أو يجاوز بها حد الحجة التي تنهض بحقه .. بل الغريب انه لزم هذا الحد ولم يجاوزه الى جمحة غضب تفلت معها بوادر اللسان، ولو جاوزه لكان عاذروه أصدق من لائميه ..!
وقد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه و مقاله . ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم .. ولكنه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية اذا رمي بها كما يأنف العزيز الكريم . وفي ذلك يقول من خطاب الى معاوية : ( ذكرت ابطائي عن الخلفاء وحسدي اياهم والبغي عليهم ، فاما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلك . وأولى أن يقال ان دلائل وفائه في حياتهم، وبعد ذهابهم، كانت أظهر من دلائل جفائه . فانه احتضن ابن أبي بكر محمداً وكفله بالرعاية ورشحه - ١٨٢ - 1 1 i للولاية ، حتى حسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله ، وقد سمي ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء الذين سبقوه، وهم: أبو بكر ، وعمر، وعثمان . .. ويخطيء جداً من يتخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلا على كراهيته العمر أو نقمة منه في أبنائه .. فقد أسرع عبيد الله بن عمر الى الهرمزان، فقتله انتقاماً لأبيه ، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البينة القاطعة عليه . فلما استفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه ، ولم يغير رأيه حين تغير رأي عثمان ، فأعفاه من جريرة عمله .. لأنه هو الرأي الذي استمده من حكم الشريعة كما اعتقده وتحراه ، وبهذا الرأي دان قاتله عبد الرحمن بن ملجم ، فأوصى وكرر الوصاية ألا يقتلوا أحداً غيره لمظنة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه . وانك لن تجد انسانا أعرف بالعهد ، ولا أصون له ممن يتذاكره في حومة الحرب ، ويرى أن التذكير به ينزع السلاح من الأيدي ، ويعود بالخصمين المتناجزين الى الصفاء والأخاء .. فما حارب علي عدواً له سابقة مودة به إلا أن يذكره بتلك السابقة ، ويستنجد بالصداقة الأولى فيه على العداوة الحاضرة . ومن ذلك موقفه مع الزبير وطلحة في وقعة الجمل ، وهما ملحان في حربه وانكار بيعته ... فخرج حاسراً لا يحتمي بدرع ولا سلاح ، ونادى : - ١٨٣ ----
يا زبير، اخرج الي .. فخرج إليه شاكا في السلاح ، وسمعت السيدة عائشة فصاحت : واحرباه ! .. اذ كان خصم علي مقضياً عليه بالموت كائناً ما كان حظه من الشجاعة والخبرة بالنضال . فلما تقابل علي والزبير اعتنقا ، وعاد علي يسأل : « ويحك يا زبير ما الذي أخرجك ؟ ... قال : ( دم عثمان » قال : ( قتل الله أولادنا بدم عثمان ) وجعل يذكر عهوده و عهود رسول الله ، ومنها مقالة النبي : « والله ستقاتله وأنت له ظالم فاستغفر الزبير وقال : « لو ذكرتها ما خرجت »
ولما وقف علي على جثة طلحة بكي أحر بكاء ، وجمل يمسح التراب عن وجهه وهو يقول : ( عزيز علي أن أراك أبا محمد مجندلا تحت نجوم السماء ، وتمنى لو قبضه الله قبل هذا اليوم بعشرين سنة .. والمودة عند فارس كعلي عهد محفوظ وموثق مذكور ، إن فاتها أن تكون حنان قلب أو ألفة شعور . ويخيل الينا انه لم يرزق قط صداقة الألفاء الذين يرعاهم ويرعونه لأنه يحبهم ويحبونه ، ولكنه عامل الناس وعاملوه على سنة العهود وديدن الفروسية ، فلم تزل بينه وبينهم إيماءة الى سلاح مغمد أو سلاح -1A- . ! مشہور ومثل علي لا يرزق صداقة الالفاء، لأنه من أصحاب المزايا التي تغري بالمنافسة أو بالحسد ولا تحميها المنافع ولا المسايرة والمداراة . فهو شجاع ، عالم، بليغ ، ذكي، موصول النسب بأعرق الارومات .. فان لم يحسد هذا ، فمن يحسد ؟.. وان حسيد ، فما الذي يفل من غرب حاسديه ؟ .. وما الذي يفيء بهم الى القصد في عدائه والتأليب عليه ؟ .. انهم يستبعدون يومه في الامارة والسلطان ، واذا استقربوا يومه في الامارة والسلطان فلا مطمع لهم في النفع على يديه وهو قوام بالقسط على الأموال والحقوق ، فنصيبه اذن منهم نصيب المحسود الذي لا رجاء له في هوادة من حاسديه ، وليس أحقد من الناس على صاحب عظمة لم يطمعوا في نفعه ولم يزالوا على طمع في النفع من خصومه ، وبليته بهم أكبر وأدهى حين لا يصطنع الدهان ولا يعمد معهم الى الختل والروغان.. وعلى انه لو داهنهم وراوغهم لما اغتفر وا له ذنب العظمة التي لا تحميها حماية من طمع أو نكاية ، أو كما قال الحكيم الغربي : « ان نسي انه أسد لم ينسوا انهم كلاب ) .
وهكذا فرضت على الرجل العظيم ضريبة العظمة الغريبة في ديارها وبين آلها وأنصارها .. - ١٨٥ فالعلاقة بينه وبين كرام الصحابة ، كانت علاقة الزمالة التي ينوب فيها الواجب مناب الالفة .. والعلاقة بينه وبين الخصوم، كانت علاقة حسد غير مكفوف وبغض غير مكتوم .. والعلاقة بينه وبين سواد العامة ، كانت علاقة غرباء يجهلونه ولا ينفدون الى لبابه ، وان قاربه اناس معجبين ، وباعده أناس نافرين .. وتلك أيضاً آية الشهيد ..