أن يصرح بأنها غريبة في بابها وأنها لم ترو إلا عن راوٍ واحد. هذا وإنه لمن دواعي الأسف أن نرى بعض زملائنا المؤرخين الذين يعنون بالعصور الوسطى والعصور القديمة يهملون هذه القاعدة الأساسية في مصطلح التاريخ فيثبتون في تواريخهم روايات جمة انفرد بها راو واحد فيضلون ويضللون. وإذا ما تسرب إلى عقول البعض أن بعض المؤلفات الحديثة في العصور الوسطى وفي التاريخ القديم هي أكثر جزماً من بعض أخواتها في العصور الحديثة فإنما السبب في ذلك يرجع إلى إهمال واضعيها وقلة درايتهم بقواعد مصطلح التاريخ.
على أنه يجدر بالمؤرخ المدقق قبل إسقاط الرواية التي ينفرد بها راوٍ واحد، أن يعيد البحث والتنقيب لعله يجد بين الروايات المختلفة ما يزكي به روايته المنفردة. وهو أمر عرفه المحدثون وعملوا به فأفردوا له باباً خاصاً سموه باب الاعتبار والمتابعات والشواهد. قال ابن الصلاح:
«هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث هل تفرد به رواية أو لا وهل معروف أو لا؟ وذكر أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الحافظ رحمه الله أن طريق الاعتبار في الأخبار مثاله أن يروي حماد بن سلمة حديثاً لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيُنظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين. فإن وجد علم أن للخبر أصلاً يرجع إليه. وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين ورواه عن أبي هريرة. وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأي ذلك وجد يعلم به أن للحديث أصلاً يرجع إليه وإلا فلا. قلت فمثال المتابعة أن يروي ذلك الحديث بعينه عن أيوب غير حماد فهذه المتابعة التامة. فإن لم يروه أحد غيره عن أيوب لكن رواه بعضهم عن ابن سيرين أو عن أبي هريرة أو رواه غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قد يُطلق عليه اسم المتابعة أيضاً لكن يقصر عن المتابعة الأولى بحسب بعدها منها ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد أيضاً. فإن لم يُرو ذلك الحديث أصلاً من وجه من الوجوه المذكورة لكن روي حديث آخر بمعناه فذلك الشاهد من غير متابعة. فإن لم يرو أيضاً بمعناه حديث آخر فقد تحقق فيه التفرد المطلق حينئذٍ. وينقسم عندئذٍ إلى مردود منكر وغير مردود كما سبق. وإذا قالوا في مثل هذا تفرَّد به أبو هريرة وتفرد به عن أبي هريرة عن ابن سيرين وتفرد به عن ابن سيرين أيوب وتفرد به عن أيوب حماد بن سلمة كان في ذلك إشعار بانتفاء وجوه المتابعات فيه.
ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده بل يكون معدوداً في الضعفاء. وفي كتاب البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد. وليس كل ضعيف يصلح لذلك. ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به وقد تقدم التنبيه على نحو ذلك والله أعلم».1
وقال الجلال السيوطي نظماً ما يلي2: