الغرض والهوى ويحرر عقله من جميع أنواع المؤثرات.
وهو قول، على ما في ظاهره من حق، مردود. فنحن لا ننكر أن على العالم أن يكون خالي الهوى والغرض. ولكن هذا يجب أن لا يعني أن يكون خالي العقل. إذ لا يمكن للإدراك النشيط أن يتجرد من الفكر وأثر الاختبارات. وأن العقل الذي يخلو من الاتجاهات لكالبيت الذي ينقصه الأثاث، ومن يزعم من المؤرخين أنه باستطاعته أن يمحو ما بذهنه من الإدراك والاختبار كما يمحو بالإسفنجة ما يكتب على لوحه الحجري، لهو مخدوع قد جهل أبسط حقائق الإدراك.
فالذي يجب على المؤرخ أن ينكره هو ليس الغرض العلمي الذي نبدأ به بحثنا، بل النظرية المغرضة أو المغررة التي تسيطر عليه. فقد جرّت هذه كثيراً من مؤرخي عصرنا إلى الضلال المبين. فزعم بعضهم أن العوامل الاقتصادية مثلا هي الكل في الكل. ثم أخذ يدفع الحقائق ويسيّرها طبقاً لهواه.
وخلاصة ما نريد أَن نقوله هنا هو أنه على المؤرخ أن يبدأ باستعراض الحقائق وإدراك كنهها، ثم يكوّن في نفسه فكرة عنها أو نظرية تخليها من ظواهر هذه الحقائق. ثم يتابع درسه جاعلاً هذه النظرية أو «الغرض» أساساً يبني عليه عمله في التعليل والإيضاح. حتى إذا بدا له أن هذا الأساس لا يصلح للبناء الذي يريد أن يقيمه عليه عاد فنقضه وبحث عن فرض آخر يقيم عليه بناء عمله. وهكذا دواليك حتى يرى أن أساسه ثابت وأن بناءه متين.