وليس في وسعنا بهذه المناسبة إلا أن نلفت النظر إلى وجوب التعاون بين عدد من المؤرخين لأجل البحث في موضوع تاريخي واحد. وذلك لأن ما يتطلبه مصطلح التاريخ من شتى أنواع البحث والتنقيب قد لا يتمكن شخص واحد من القيام بأعبائه. وأقل ما يجب الالتفات إليه هو التمحيص والتدقيق في استنتاجات المؤرخين المعاصرين وأساليبهم في البحث قبل قبول أقوالهم والاعتماد عليها.
الانتقاء: ولا مفر من المفاضلة بين الحقائق المفردة والاستمساك ببعضها وصرف النظر عن البعض الآخر. فإنها تكثر في غالب الأحيان فتربو على الألوف وعشرات الألوف. ويضطر المؤرخ إما لضيق وقته أو لقلة مورده أن ينتقي مما تجمَّع لديه من الحقائق ما يؤثره على غيره. فيجدر به أن يتبع خطة معينة في الانتقاء.
ولا نرى في مثل هذه الظروف أفضل من تنسيق الحقائق المفردة على أساس أهميتها لفهم ما جرى. هذا ولا نرى مبرراً لما وقع من المشادة بين المؤرخين المعاصرين في أمر الانتقاء. ولعل القارئ يعلم أنه قام في ألمانية في القرن الماضي من قال بوجوب الاعتناء بتاريخ الحضارة وصرف النظر عن الحروب والحوادث السياسية، وأنه قام في الوقت نفسه من استمسك بالتاريخ السياسي ونوَّه بمنافعه. ومثل هذا جرى أيضاً في فرنسة وايطالية واميركة وبلاد الإنكليز. والواقع أن الطرفين كانا محقين في بعض ما ذهبا إليه، وأنهما تطرفا في القول في آن واحد. ففي تاريخ الحضارة ما لا يستغنى عنه لفهم الماضي، وفي تاريخ الحروب والحوادث السياسية ما لا