العلوم الطبيعية في تقدم أساليبها وأبحاثها ونتائجها لما كان عسيراً علينا اليوم أن نهتدي بشكل علمي جازم إلى معرفة الأعمال والدوافع الماضية التي أشرنا إليها، وربما كنا لا نفرق التاريخ عن العلوم الجازمة. أما وحالة العلوم الاجتماعية والنفسية لا تزال قاصرة، فلا يبقى سوى تخيل الماضي وفرض استمرار بعضه وتكراره في الحاضر. فنقول مثلاً بعامل الجوع في الماضي ونتوقع تأثيره في ظروف معينة كما نفعل في الحاضر. وننظر في الإقليم وأثره في المجتمع كما يتبين لنا بعض ذلك من الظروف الحاضرة. ونفرض التعاون بين الأَفراد في بعض الأزمنة الغابرة لدرء الأَخطار كما يفعل بنو جنسهم في هذه الأَيام وهلم جراً. ولولا هذا لما جرؤ البعض على القول بأن بعض التاريخ يعيد نفسه. نعم بعضه لا كله. ولو كان التاريخ يعيد نفسه لما أَقدم العلماء على درسه وتعميم فوائده. وإذاً فهنالك فروق بين الماضي والحاضر لا بد من تبيانها أَيضاً والانتباه إليها.
ولهذا يترتب على المؤرخ عند بدء العمل في ربط الحقائق المفردة وتأليفها أن يتخيل لنفسه من مظاهر المجتمع الحاضر ما يفترض وجوده في الماضي. ثم ينظم حقائقه المفردة حول أساس ما تخيل وجوده بالقياس وإذا فعل هذا فسرعان ما يرى أن الحقائق المفردة تتوفر في بعض النواحي وتعدم في البعض الآخر. فيحدث هذا فراغاً في بعض الأَحيان لا بد من تلافيه. ولدى الانتهاء من هذه المرحلة يبدأ في المقابلة والمقارنة بين الحقائق التي تكتلت حول مواضيعه فينتقل إلى تعليلها وإيضاحها وإصدار الأَحكام العامة عنها.