صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/57

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

- ۵۳ التعبير إلا الفكرة . قلما تلمح الحالة النفسية والملامح الإنسانية . قلما تتسمع الوسوسة والهينمة التي لا تعرف مصدرها ، ولا تدل عليها الألفاظ بذاتها ، ولكن تدل عليها الظلال التي تلقيها الألفاظ ، وتتوارى خلف التعبيرات . إن بيتين ساذجين ، كقول مسلم بن الوليد وقد حضرته الوفاة وهو وحيد غريب ، وليس حوله إلا نخلة بحرجان يناجيها فيقول : ا الا يا نخلة بالسف ح من أكناف جرجان ألا إني وإياك بجرجان غربيات إن هذين البيتين لنادرا المثال في الشعر العربي . فماذا في هذين البيتين الساذجين . فيهما أن المعنى والفكرة يتواريان ليفسحا المجال للصورة الإنسانية والحالة النفسية . صورة الإنسان الغريب المفرد تقربه الغربة من كل مخلوق ، ويرهفه الانفراد إلى الأنس بكل كائن ، فيخلع الحياة عليه ، ويعاطفه معاطفة القريب للقريب . وعلى هذا النحو ينبغى أن ننظر إلى الشعر على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس ، وما يرسم لخيالنا من صور ، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة المحدودة ، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة . وذلك فيما أعتقد واجب شعراء الشباب . ولكن حذار أن هذا ما يفهمه بعضهم من تلك - الفوضى . إن الشعر - مع هذا – ليس « تهيؤا » مخبول ، ولا تهاويل مذهول . والحالات النفسية المطلوب تصويرها ، ليست هي خلط المجانين ، وتداخل الاستعارات وتراقص التعبيرات . إن بين الشعر وهذه «التهيؤات » لبعدا سحيقا ، فإذا لم يكن بد من هذا البلاء فلا ، والشعر العربي القديم ، بذهنيته وتجريده ، أقوم وأهدى ، وأخلد فنا !

  • * *