صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/24

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ٢٠ –

الخلق وناموس الوجود. فالقيمة العليا إذن لهذه السمة هي اهتداء المتقين إلى الناموس الخالد، واصطلاح نفوسهم ومشاعرهم عليه، واستمدادهم بطبيعتهم منه. فهم في الحياة كالنغمة المتناسقة في اللحن الأصيل.

فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى إلى مفرداتها التي تتألف منها، انكشفت لنا هذه المفردات الجزئية كذلك عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعاً ..

« الذين يؤمنون بالغيب » .. ما قيمة هذه السمة في الحياة وما جدواها؟ قيمتها هي الاتصال المباشر بين الروح البشرية والوحدة الكونية، فلا تقوم حواجز الحس دون هذا الاتصال الوثيق. عندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق، فيها لم تخلق له، ولم توهب القدرة عليه، ولا يجدي أن تنفق فيه. إن الطاقة الفكرية موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها وتتعمقها وتتقصاها؛ وتعمل وتنتج وتنمى هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود .. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، فهي محاولة فاشلة أولاً، ومحاولة عابثة أخيراً. فاشلة لأنها فوق طاقة العقل المحدودة؛ وعابثة لأنها تبدد تلك الطاقة التي لم تخلق لمثل هذا المجال، ولا تملك له أداة، ولا تعرف إليه سبيلاً. ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أنه جزئي محدود بالزمان والمكان، مقيد بالحس والتجربة، وبالتصور والقياس الناشئين من الحس والتجربة. متى سلم بهذه البديهية الأولى لزمه ـ احتراماً لمنطقه ذاته ـ أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل، وأن إحاطته بالكل متعذرة، وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل المحكوم بالحس والتجربة. وقيمة هذا التسليم هي أن يعمل العقل في الحقل الذي يدرك معالمه وينتج فيه؛ وألا يغتر بنفسه فيجعل من ذاته إلهاً، ومن تصوراته دينا، ومن مقولاته شريعة. لأنه عرضة للخطأ في الحس، والضلال في التجربة، والتأثر بشتى المؤثرات.

« ويقيمون الصلاة » .. ما قيمة هذه السمة في الحياة؟ قيمتها هي التوجه إلى الخالق دون المخلوقين، التوجه إلى القوة المطلقة بغير حدود. قيمتها الاعتزاز بالله على العبيد. قيمتها الاتصال بالخالق القادر فترات على مدار الليل والنهار، حيث يستشعر الفرد الفاني الزائل، أنه موصول السبب بواجب الوجود واجب الخلود. فإذا لحياته غاية، وإذا لضعفه سند، وإذا لحدوده امتداد، وإذا هو على اتصال بعالم الخلود.

« ومما رزقناهم ينفقون » .. ما قيمة هذه السمة في الحياة؟ قيمتها الاعتراف بنعمة الرزق،