صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/23

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ۱۹ –

فكان مصيرهم البوار .. لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا به وهم طالبوها. عندئذ « ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ».

وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون، لتلقى الأصداء والأضواء، والانتفاع بالهدى والموعظة، فقد عطلوا هم آذانهم فهم « صم»، وعطلوا ألسنتهم فهم «بكم»، وعطلوا عيونهم فهم «عمى». فلا رجعة لهم إلى الحق ولا مآب.

« أو كصيب من السماء، فيه ظلمات ورعد وبرق، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت. والله محيط بالكافرين. يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا. ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم. إن الله على كل شيء قدير. »

إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب. فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء .. صيب من السماء هاطل غزير، « فيه ظلمات ورعد وبرق » .. « كلما أضاء لهم مشوا فيه » .. « وإذا أظلم عليهم قاموا » ووقفوا حائرين لا يدرون أيان يذهبون. وهم مفزعون: « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت » .. « والله محيط بالكافرين ».

إن الحركة التي تعمر المشهد كله، من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والبرق والرعد، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف فجأة عندما يحيم الظلام .. إن هذه الحركة في المشهد لترسم الحركة التي في الضمائر. حركة التيه والاضطراب الذي يعيشون فيه، بين لقائهم للمؤمنين وعودتهم إلى الشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثم ينكسون عنه فجأة، بين ما يطلبونه من هدى ونور، وما يفيثون إليه من ضلال وظلام ... إنه التصوير الفني المعجز بجسم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس ...

***

والآن بعد استعراض الصور الثلاث، نعود إلى الصورة الأولى. صورة المتقين التي كتب الله لأهلها الفلاح: « أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون » نعود إليهـا لنتملي خصائصها ومقوماتها، ولنرى مدى أصالتها في الحياة وكرامتها عليها.

إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة واليقين بعد ذلك بالآخرة .. هذه الوحدة هي ناموس