صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/22

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ۱۸ –

فهم لا يقفون عنـد حد الكذب والخداع والسفه والادعاء. إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم: « وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا » ضعفاً عن المواجهة أو خداعاً ومكراً. وما ينتج المرض والالتواء إلا الضعف واللؤم سواء. وبعض الناس يحسب اللؤم قوة، وهو ضعف وخسة؛ فالقوى ليس لئيماً ولا خسيساً، ولا خادعاً ولا منافقاً؛ والقوى ليس مستهزئاً بالناس، ولا غمازاً لمازاً في الخفاء. وما أضعف هؤلاء الذين يقولون: إنهم مستهزئون .. « الله يستهزئ بهم » وما أبأس من يستهزئ به جبار السماوات والأرض وما أشقاه. وإن الخيال ليمتد إلى منظر مفزع رهيب، وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب، وهو يقرأ: «الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون » فيخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته؛ واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته، كالفئران الهزيلة تتوائب في الفخ غافلة عن المقبض المكين!

« أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ».

أولئك كانوا يملكون الهدى لو أرادوا؛ ولكنهم « اشتروا الضلالة بالهدى » كأغفل المتجرين « فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ».

ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى أو الثانية.

ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء، وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها؛ والصورة الثانية صورة النفس المعتمة المستقيمة في اتجاهها. أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المقلقلة. وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات ومزيد من الخطوط كما تظهر وتبين.

وفي سبيل هذا الغرض يمضي السياق، يضرب حولها الأمثال التي تكشف عن طبيعتها، ونظرتها إلى الحياة والأشياء، وعلاقتها بالحياة والأحياء:

« مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمى فهم لا يرجعون ».

إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية، وقلوبهم عن الإدراك، كما يصنع الكافرون. ولكنهم استحبوا الضلالة على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه؛ وبعد ما اختاروا لأنفسهم فأساءوا الاختيار؛ وتركوا الذي هو خير