صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/15

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ١١ –

والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر غير عالم الأرض، فلا تستبد بهم ضرورات الأرض؛ وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ومن ثم فهي مفرق الطريق بين العبودية للغرائز والنزوات، والطلاقة الإنسانية اللائقة بين الإنسان. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده، وبين الصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.

واختصاص الله بالتوجه إليه، والاستعانة به: « إياك نعبد وإياك نستعين » .. هي الكلية الرابعة التي تنشئها الكليات الثلاثة الأولى، فلا عبادة إلا الله، ولا اتجاه لغير الله. وما من قوة في الكون إلا قوته، تملك لأحد شيئاً، أو تستحق منه التفاتاً، فالله وحده يعبد، والله وحده يستعان.

وهنا مفرق الطريق في التحرر الإنساني المطلق، من القوى المخلوقة جميعاً. قوى الإنسان أو قوى الطبيعة. أي التحرر من عبودية النظم، ومن عبودية الأوهام. وإذا كان الله وحده هو المعبود، والله وحده هو المستعان. فقد تخلص الضمير البشري من استدلال النظم والأوضاع والأشخاص؛ وتخلص كذلك استدلال الأساطير والأوهام والخرافات.

وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، ومن القوى الطبيعية.

فأما القوى الإنسانية — بالقياس إلى المسلم — فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن بالله، وتتبع سنة الله؛ وهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون وإياها على الخير والصلاح .. وقوة ضالة، لا تتصل بالله، ولا تتبع سنته؛ وهذه يجب عليه أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها.

ولا يهولنّ المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول — قوة الله — تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب؛ فما يلبث أن ينطفئ ويبرد، ويفقد ناره ونوره، مهما كانت الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع، قوتها وحرارتها ونورها: و « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول كلته من وباستمدادها من النبع الأول للقوة وللعزة جميعاً.

وأما القوى الطبيعية، فموقف المسلم منها هو موقف الصداقة والتعرف، لا موقف العداء والتخوف. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة كلتاها صادرتان عن قوة الله وعن إرادة الله.

إن العقيدة الإسلامية توحي إلى المسلم أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقاً مساعداً متعاوناً؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها، ويتعرف إليها، ويتعاون وإياها. وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحياناً، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها، ولم يتعرف إليها، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.