صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/14

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ١٠ –

والربوبية المطلقة في مفرق الطريق بين النظام والفوضى في عالم العقيدة. بين الاهتداء إلى الناموس الشامل لعلاقة الخلق بالخالق؛ والحيرة والتشتت وتعدد الأرباب .. وكثيراً ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله خالق الكون، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة! ولقد يبدو هذا غريباً مضحكاً، ولكنه كان وما يزال. ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن آلهتهم المتعددة: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » فيعترفون بوحدانية الله وتعدد الأرباب. والكنيسة المسيحية إلى هذه اللحظة تعتقد بألوهية الله، ولكنها تسمى عيسى رباً، وتخلع عليه صفات الأرباب.

فإطلاق الربوبية الله في هذه السورة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعاً .. هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة، لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد؛ تقر له بالسيادة المطلقة؛ وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب.

« الرحمن الرحيم » .. وهذه كلية ثانية من كليات العقيدة الإسلامية .. الشعور بما في تلك الربوبية من رحمة بالغة، رحمة ثابتة متجددة، عميقة الأصل ظاهرة الأثر. فالعلاقة إذن بين الرب والعباد هي علاقة رحمة ورعاية. والشعور بالرحمة السابعة في تلك الربوبية المطلقة هو الصلة الداخلية بين العبد والرب. صلة القلب والشعور التي تقوم على الحب، وتنبض بالحمد. فهي آصرة الاعتراف الخالص، لا يشوبها خوف أو قهر، ولا يعكر صفاءها رغب أو رهب. إنما هي الاستجابة الطبيعية للرحمة الندية.

إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء، كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها! ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في « العهد القديم » من الكتاب المقدس، لأنه خاف أن تصبح لهم القدرة على عمل كل ما يريدون، كما جاء في أسطورة برج بابل، في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.

والكلية الثالثة من كليات العقيدة الإسلامية تتضمنها الآية: « مالك يوم الدين » .. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. ويوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة. ومالك يوم الجزاء هو مالك أيام العمل قبله، فالجزاء نتيجة والعمل سبب. فهو مالك الدنيا إذن ومالك الآخرة جميعاً.

وكثيراً ما اعتقد الناس بألوهية الله، وخلقه للكون أول مرة؛ ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء ولا بملكيته المطلقة الله تعالى. والقرآن الكريم يحكى عن بعض هؤلاء يقول: « وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه. قال: من يحيى العظام وهي رميم؟ قل: يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ».