صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ١٢ –

ولقد درج الغربيون على التعبير بـ « قهر الطبيعة ». ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على الروح السائدة في الضمير الغربي. إنه لا يتصور علاقة بين الإنسان والإنسان، ولا بين الإنسان والطبيعة، إلا علاقة القاهر والمقهور، المذل والذليل، السيد والعبد. فهو إما أن يقهر الطبيعة أو تقهره الطبيعة، كذلك إما أن يقهر أخاه الإنسان أو يقهره أخوه الإنسان!

فأما المسلم فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والعداء. علاقة التعارف الطبيعة هو موقفه من الإنسان، وموقفه من الحيوان أيضاً. إنه يعتقد والصداقة. وموقفه من أن الله هو مصدر هذه القوى جميعاً. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. وعلى الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها، فالله هو الذي يسخر له هذه القوى، وليس هو الذي يقهرها: « سخر لكم ما في الأرض جميعاً » .. « سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ».

وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة، ولن تقوم بينه وبينها المخاوف والأحقاد .. إنه يؤمن بالله وحده، ويستعين بالله وحده، وهذه القوى من خلق ربه، وهو يتأملها وألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها وتكشف له عن كنوزها .. وما أروع قول الرسول الكريم، وهو ينظر إلى جبل أحد: « هذا جبل يحبنا ونحبه » ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد — صلى الله عليه وسلم — من ود؛ ود وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة الصامتة في أضخم مجالها.

***

وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في العقيدة وتقرير الاتجاه إلى الله وحده للاستعانة .. يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى الله بالدعاء، على صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها:

« اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ». اهدنا الصراط المستقيم .. وفقنا إلى معرفة الطريق، طريق الذين أكملت عليهم نعمتك فاهتدوا، الذين لم تغضب عليهم فيضلوا .. ومن عرف الطريق إلى نواميس الله التي تحكم هذا الكون، وتصرف هذه الحياة؛ عاش معها في سلام ووئام. ووصل إلى رضى الله بصالح العمل. وذلك هو النعيم الخالص والرضوان.

وهكذا تتساوق المعاني في هذه السورة القصيرة وتتناسق الأغراض؛ ويبدو التماسك في نسجها والاتساق؛ وتتجلى تلك الخصائص التي تكشف عن بعض أسرار اختيارها، ليرددها المسلم سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة؛ أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام للصلاة